مؤخرا، نشر جلبير الأشقر كتابا تحدث فيه عن أسباب فشل الربيع العربي، فضلا عن أنه قدم فيه دروسا هامة في الإستراتجية، يدعو من خلالها إلى تغيير جذري يشمل كلا من ميداني الاجتماع والسياسة، لمواجهة خطر “الهمجية”.
في الواقع، بين جلبير الأشقر، الذي يعمل أستاذا في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية التابعة لجامعة لندن، في كتابه الأخير الذي نشر تحت عنوان “أعراض مرضية”، النكسة التي تعرضت لها ثورات الربيع العربي. وقد أشار الأستاذ إلى الصعوبات التي تعرض لها الثوار المخلصون، من أجل تجميع قواهم لاستعادة مؤسسات الدولة، التي لا زالت فلول الأنظمة السابقة متغلغلة داخلها.
ومن المثير للاهتمام أن جلبير الأشقر قد استثنى في حديثه عن الربيع العربي كلا من تونس ومصر، مبينا أن الثورات التي فشلت فشلا ذريعا، هي كل من الثورة الليبية واليمنية والسوريا. وذكر الأشقر أن الثورات “المخملية” التي مرت بها عدة دول عربية شرق أوسطية، قد اصطدمت بمواجهة قوية من الأنظمة الحاكمة، مما أجبر الكثير من الثوار على التحالف مع قوى إسلامية.
كيف تفسر ما تعتبره “نكسة الربيع العربي”؟
جلبير الأشقر: لو بحثنا عن أقوى سبب ساهم في فشل أغلب الثورات العربية، فهو بلا شك، غياب تمثيل سياسي منظم، يحقق طموحات الثوار. وقد ترتب عن ذلك تحول مطالب الثوار إلى أوهام، في ظل غياب قوى حقيقية تواصل مسيرة الكفاح من أجل تغيير جذري داخل المجتمع، وعلى الواجهتين السياسية والاقتصادية.
ما الذي منع ثورات الربيع العربي من النسج على منوال “الثورات المخملية”، لو كانت فعلا هذه الثورات بعيدة عن أي مطالب دينية وعرقية داخل المجتمعات العربية؟
إن السبب الرئيسي وراء ذلك هو الاختلاف السياسي، الذي يميز دول أوروبا الشرقية عن الدول العربية، تحديدا في النظام الحاكم. فدول أوروبا الشرقية كانت تقاد من قبل أجهزة إدارية، وطبقات سياسية غير مهيمنة، تعمل –في حد ذاتها- على أن تشكل من جديد اقتصاد بلدانها، وقد نجحت عدة دول في ذلك. في الحقيقة، لم تكن دول أوروبا الشرقية قادرة على إيقاف موجة التغيير الجذري، التي قادتها شعوبها.
أما بالنسبة للعالم العربي، فالوضع يختلف تماما عن دول أوروبا الشرقية. فالأنظمة الحاكمة في هذه الدول هي عبارة عن عائلات تحكم سيطرتها على كل الجوانب الاقتصادية، وترى في كل ما يوجد داخل حدود البلدان التي تحكمها ملكية خاصة تابعة لها.
عموما، يعتبر الثراء الفاحش شعار الحكام لفرض هيمنتهم في العالم العربي، مع تمتع أغلب مسؤوليها بامتيازات كبيرة، حتى ولو وُجد في هذه الدول نفَس ديمقراطي، يتجسد من خلال البرلمان والدستور الرسمي للبلاد.
جمهوريات “مزعومة” كسوريا والعراق وليبيا، يقع الحكم فيها تحت يد عائلات وأفراد بالوراثة، لا تتأثر هذه النوعية من الحكام بسهولة أمام الثورة المخملية
ومن ناحية أخرى، وفي جمهوريات “مزعومة” كسوريا والعراق وليبيا، يقع الحكم فيها تحت يد عائلات وأفراد بالوراثة، لا تتأثر هذه النوعية من الحكام بسهولة أمام الثورة المخملية. في المقابل، اعتقد ثوار هذه الدول بأن ثورتهم ستخرج بأخف الأضرار، أي بطريقة سلمية، كما حصل تماما في كل من تونس ومصر، إذ أن فذان البلدان مرا فعلا بمرحلة ثورية، انتهت بإسقاط الرؤساء، وتغيير النظام الحاكم.
أهم أسباب نجاح الثورة في كل من تونس ومصر، عدم خضوع هذين البلدين لنظام تقوده عائلة واحدة، كنظام عائلة القذافي في ليبيا، ونظام آل الأسد في سوريا
وتجدر الإشارة إلى أن من أهم أسباب نجاح الثورة في كل من تونس ومصر، عدم خضوع هذين البلدين لنظام تقوده عائلة واحدة، كنظام عائلة القذافي في ليبيا، ونظام آل الأسد في سوريا. وفي الأثناء، تحظى أجهزة الدولة باستقلالية كبيرة عن الرئيس الحاكم وعائلته. ففي مصر مثلا، كان الرئيس المخلوع، حسني مبارك، قبل سنة 2011، يحضر لعملية توريث الحكم لنجله، لكنّ تدخل الجيش خلال الثورة المصرية حال دون حدوث ذلك. مع العلم أن الجيش المصري، يعتبر العمود الفقري لهذه الدولة.
خلافا لذلك، لا يمكننا أن نتوقع بأن نفس السيناريو سيتكرر في دول كسوريا والعراق وليبيا والبحرين. ليس هذا فحسب، بل من الصعب أن تمر هذه الدول بمحاولة انقلاب عسكري على الحكم، بالرغم من أن الانقلابات العسكرية ليست بغريبة عن العالم العربي، خصوصا خلال الستينات، نظرا لأن الأنظمة الحاكمة في هذه الحقبة قد تعلمت من الدروس السابقة وسعت لتعزيز تواجدها داخل المجتمع، وداخل دوائر الدولة، ولم تعر المؤسسة العسكرية اهتماما كبيرا.
هذا التحليل يعكس تماما ما تمر به سوريا في الوقت الراهن، إذ يبدو أن تسليح المعارضة كان بموافقة النظام الحاكم نفسه، الذي أراد مواجهة تمرد مسلح، لكي ينسب إليه في ما بعد تهم الإرهاب والتطرف؟
منذ شهر كانون الثاني/يناير من سنة 2011، ظهر جليا أن سيناريو الثورة السلمية في كل من تونس ومصر، من الصعب أن يكرر في دول عربية أخرى، مما ينذر بدخول باقي هذه الدول في حمام دم. ومن هذا المنطلق، اعتقدت كتائب الثوار في سوريا، مع بداية الثورة، بأن دعوات التغيير ستمر بطريقة سلمية، وبأن نظام بشار الأسد سيتعظ من درس الثورة الليبية المسلحة، التي قتل فيها معمر القذافي أمام أنظار العالم. بالإضافة إلى ذلك، لم تكن المعارضة مستعدة وقتها للدخول في حرب مباشرة ضد قوات النظام، ولم تكن قد تلقت بعد أية مساعدة عسكرية، من الدول التي باستطاعتها تقديم يد العون، وعلى رأسها الدول الغربية.
كيف تفسر فشل الربيع العربي؟ وماذا كنت تعني عندما أكدت بأن “هناك دائما مواجهة بين قطبين، قطب ثوري وآخر مضاد للثورة، وهذا مسجل في التاريخ. لكن الربيع العربي، وعلى غير العادة، ينقسم إلى ثلاثة أقطاب متناحرة؛ قطب ثوري، وقطبان مضادان للثورة، يتنافسان بين بعضهما البعض”؟
في الواقع، لقد اصطدمت الثورات العربية بشقين معارضين للتغيير؛ الأول، وهو فلول النظام “العائلي”، أو ما تبقى منه. وكما قلت سابقا، فقد تغلغل هذا النظام داخل مؤسسات الدولة، وأصبح من الصعب القضاء عليه نهائيا. لذلك، ومع بداية الربيع العربي، شكلت هذه البقايا قطبا مضادا للثورات. في المقابل، هناك شق مضاد آخر، يقف عائقا أمام التغيير الثوري، يتمثل في الأصوليين الإسلاميين، الذين تقف وراءهم كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة. والجدير بالذكر أن هذه الدول تدعم التيارات الأصولية، من أجل إيقاف انتشار ما يسمى بنظام القومية العربية، الذي نادت به الأحزاب اليسارية في العالم العربي منذ ستينات القرن الماضي.
مع نهاية الحرب في سنة 1967، تلاشى حلم تركيز نظام القومية العربية، وغيبت بعد ذلك أحزاب اليسار عن الساحة السياسية العربية، لصالح الأصوليين الذين أصبحوا أقوى أحزاب المعارضة في تلك الفترة.
على المستوى الإقليمي، تعتبر حركة الإخوان المسلمين من أقوى التيارات الأصولية تنظيما وتأثيرا، فالإخوان المسلمون في سوريا تعرضوا لقمع وحشي من قبل النظام خلال تلك الفترة، وحتى الإخوان في مصر، تم استغلالهم كأداة رغم اعتدال أفكارهم.
وإثر اندلاع ثورات الربيع العربي، استغل الإخوان المسلمون الفرصة ليظهروا من جديد، إذ أنهم ملمون بما يريده الثوار، فهم يطالبون أيضا برحيل النظام ومعاونيه نهائيا عن الحكم. بعد ذلك، حاولوا تغيير مسار الثورة بما يخدم مصالحهم، ويعزز من حضورهم داخل دوائر الدولة. وبالتالي، يمكنني الجزم بوجود شقين مضادين للثورات العربية، وليس شقا واحدا كما جرت العادة.
بالنسبة للذين يؤمنون بالروح التقدمية للثورات، فقد كانوا يعيشون تعتيما سياسيا، نظرا لعدم تنظيم صفوفهم. لذلك، ومع انعدام الحلول، لم يروا سبيلا سوى التحالف مع قطبي الثورة المضادة
ومن ناحية أخرى، وبالنسبة للذين يؤمنون بالروح التقدمية للثورات، فقد كانوا يعيشون تعتيما سياسيا، نظرا لعدم تنظيم صفوفهم. لذلك، ومع انعدام الحلول، لم يروا سبيلا سوى التحالف مع قطبي الثورة المضادة، إما الإخوان المسلمين، أو فلول النظام البائد، تماما كما حصل بالنسبة لحركة “تمرد” في مصر، التي وقفت في الصفوف الأولى خلال التظاهر ضد الرئيس المنتخب بصفة شرعية، محمد مرسي.
في أعقاب ذلك، تم تهميش المسار الثوري الحقيقي، الذي تشتت بين معمعة الصراع الثنائي بين قطبي الثورة المضادة منذ سنة 2013. كما هو الحال في سوريا تماما، التي تحولت ثورتها السلمية إلى حرب أهلية دامية، أو مصر، التي عادت من جديد إلى ظلمات النظام العسكري. وفي الوقت الذي ننتظر فيه مواجهة بين الثورة والثورة المضادة، نرى مواجهة من نوع آخر، تلك التي بين قطبي الثورة المضادة.
هل كان هناك مخطط من أجل إعادة الأحزاب الإسلامية ورموز النظام السابق إلى الساحة، لتبرز كقوتين متناظرتين، ومعارضتين للتوجه الثوري؟ وإذا عدنا إلى التاريخ، هل يمكن اعتبار أن أحزابا إسلامية مثل حركة النهضة في تونس أو الإخوان المسلمين في مصر، ليسوا بالممثلين للبرجوازيين المحافظين، ولكنهم على استعداد للتحالف مع القوى الثورية؟
ستكون هذه القراءة ممكنة، إذا كانت هذه القوى تمثل أحزابا إسلامية، دون أن تكون أصولية. في المقابل، يملك الإخوان المسلمين نظرة أصولية للعالم، ونظرة دينية للسياسة. وعموما، لا يجب أن نقع في فخ الخلط بين الإخوان المسلمين، أو حتى حركة النهضة، وبين حزب العدالة والتنمية في تركيا، الذي تكوّن نتيجة انقسام ليبرالي عن الإخوان المسلمين الأتراك، واتبع توجها مجتمعيا محافظا واقتصادا “نيوليبراليا”.
على الرغم من أن جماعة الإخوان المسلمين كان لهم في بداية الأمر نظرة أصولية ودينية، ألم يتطوروا من أجل تبني رؤية الإسلام السياسي المتوافق مع أسس الجمهورية والديمقراطية؟
في الحقيقة، لقد لاحظنا من خلال مقطع فيديو مسرب، كيف أن زعيم حزب النهضة في تونس، راشد الغنوشي، لا يعتمد الخطاب ذاته عندما يوجه كلامه إلى السلفيين، وعندما يخاطب الصحف الغربية. وبالتالي، أن يكون لزعيم الحركة خطاب مزدوج، هو مؤشر على أنه في صلب حركة النهضة، هناك على حد سواء أصوليون متشددون وآخرون يحملون نظرة أكثر ليبرالية.
وتجدر الإشارة إلى أن حزب حركة النهضة لم يقد عملية تصفية وتسوية، التي تعتبر مرحلة ضرورية من أجل التحرر من العائلة الأصولية داخل الحركة. وبالإضافة إلى ذلك، واصلوا إدماج الدين في صلب تحركاتهم وبرامجهم.
وفي هذا السياق، يمكن أن نعتمد نفس المرجعية مع منظمات تحمل أهدافا متباينة. فعلى سبيل الذكر، كانت الشيوعية في إيطاليا خلال سبعينات القرن الماضي، في تواصل مع منظمة الهلال الأحمر ومع الحزب الشيوعي الإيطالي الإصلاحي في الوقت ذاته.
ومن جانب آخر، لا يزال المتطرفون والمتعصبون يهيمنون على جماعة الإخوان المسلمين في مصر أو حركة النهضة في تونس. وحين اعتلوا مراكز حساسة في السلطة أثاروا حفيظة الشعب الذي اتخذ موقفا معارضا ضدهم. إلا أن تركيا لم تشهد نفس الوضع، عندما اعتلى حزبها الإسلامي الحكم.
ومن جهة أخرى، بعد سنة 2011، صدم الإخوان المسلمون في مصر، عندما تعالت الأصوات المطالبة بإعمال العلمانية؛ وهو مصطلح يعتبره الأصوليون في العالم العربي اليوم مثل الإهانة أو الشتيمة، الذي لا يجرؤ اليسار على توظيفه حتى أثناء الحديث عن الحالة المدنية.
هل لإظهار شخصيات مثل صدام حسين أو بشار الأسد أنفسهم كمدافعين عن العلمانية، صلة بذلك؟
طبعا لا، ففرنسا هي التي أظهرتهم على ذلك النحو. عموما، إن كل ما قام به صدام حسين يعتبر نوعا من المزايدة الدينية.
وفي الأثناء، إذا مُني الإخوان المسلمين بانقلاب الشعب ضدهم بعد سنة واحدة من وصولهم للحكم، فذلك يرد إلى النسق السريع الذي اتبعوه من أجل احتكار السلطة و “أخونة” المؤسسات. علاوة على ذلك، سرعان ما لوحظ أنهم على استعداد لتحويل العملية الثورية في اتجاه رجعي، وهو ما جعل الكثيرين يعتبرون فترة حكمهم الأسوأ، وانتهى بهم الأمر إلى الخروج من السلطة؛ وهو ما حدث في إيران بعد الثورة ضد الشاه. ونتيجة لذلك، ازدادت مأساة اليسار المصري، الذي انتقل من التحالف مع الإخوان المسلمين إلى التحالف مع الجيش، وهو ما أدى إلى عودة الدكتاتورية العسكرية.
هل توجد قوى معارضة للسلطة اليوم في إيران أكثر من مصر؟
من وجهة نظري، إن إيران هي أكثر دكتاتورية من مصر السيسي، فضلا عن أن المعارضة في مصر لا زالت قائمة. ومن جهة أخرى، إن الجرائم التي ارتكبها السيسي في حق المعارضة، لا زالت بعيدة كل البعد عن درجة اضطهاد المعارضة في إيران. وفي الوقت ذاته، إن السيسي لا يحتكر النفوذ وحده، وله معارضة شديدة من قبل الصحافة في مصر، خاصة في ظل الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي تسبب السيسي بتدهوره.
أما في إيران، وبما أن الرئيس لا يمثل السلطة الحقيقة في البلاد، فإن الصحافة تستطيع انتقاده علنيا. في المقابل، فهي لا تجرؤ على انتقاد السلطة العليا في البلاد، التي تتجسد في شخص المرشد الأعلى. فضلا عن ذلك، إن النظام الإيراني أقوى بكثير من النظام المصري، مع رفاهية اجتماعية، مرتبطة ارتباطا وثيقا بعائدات النفط، ودولة موازية يمثلها الحرس الثوري الإيراني.
إذا أخذنا على سبيل المثال الوضع في بلدك الأم، لبنان. ألا تحتضن لبنان حزبا إسلاميا محافظا مثل حزب الله، الذي يحاول أن يمارس لعبة الديمقراطية داخل البلاد؟ فما هو رأيك بشأن هذا الحزب، إذا وضعنا جانبا تصرفات الميليشيات المسلحة في سوريا، وعلى الحدود المتاخمة لإسرائيل؟
في الواقع، يمارس حزب الله لعبة الديمقراطية، لأن هذا يندرج ضمن اهتماماته، خاصة وأن هذه الاستراتيجية ستمكنه من الوصول إلى مبتغاه، الذي يتمحور أساسا في إحكام قبضته على المجتمع الشيعي. لذلك، يحاول فرض سيطرته بالقوة، من خلال تصفية كل شيعي ماركسي مثقف، ومنح نفسه الحق لاحتكار المقاومة ضد إسرائيل، مع العلم أن المقاومة ضد الكيان الصهيوني قد بدأت أساسا مع الشيوعيين.
ومن بين النقاط التي يرتكز عليها برنامج حزب الله، إنشاء دولة إسلامية، إلا أنه على يقين تام بأن ذلك لن يتحقق ما لم يعتنق جميع المسيحيين في لبنان الدين الإسلامي. وتبعا لهذا المعطى، يحاول هذا الحزب التأقلم، لكن كان من الممكن أن يكون الوضع مختلفا، لو كانت لبنان ذات أغلبية ديمغرافية شيعية.
ما الدروس الإستراتيجية التي يمكن استخلاصها من الوضع الحرج الذي تعيشه الثورات العربية، بعد مرور ستة سنوات على اندلاعها؟
بداية، ينبغي على كل ثورة تهدف إلى إحداث تغييرات اقتصادية، أو اجتماعية جذرية، وليس تغييرات سياسية فقط، أن تقوم بتحليل دقيق لجهاز الدولة الذي تحاربه. خلافا لذلك، وبالنسبة للدول العربية التي يستحيل فيها أن تؤمن أجهزة الحكم انتقالا سلميا، ليس هناك خيارات أخرى، حتى ولو أنه من الصعب جدا ان تتبع استراتيجية لتحييد أجهزة الدولة، ومنعها من تحطيم الحركات الثورية.
إن كنا نريد اجتناب سيناريو الحرب الأهلية، فإن الحل الوحيد يكمن في تقويض وتفكيك جهاز الدولة من الداخل. لن تتمكن ثورة من تفكيك الجهاز العسكري الأمني للدولة، قبل أن تنجح في كسب قلوب وعقول قواتها، بدلا من ارتكاب الخطأ الكارثي، والبحث عن دعم القوى البارزة في هيكلة الجهاز العسكري، مثل ما حدث في الحالة المصرية بين 2011 و2013.
دورة الثورات معقدة جدا، ولكن الوضع اليوم يبدو مأساويا بالنسبة للعديد من الثوار العرب، حيث يقبع أغلبهم في السجون أو المهجر. ما الذي سيتيح لهم رفع رؤوسهم مرة أخرى؟
الأمل باق، لأن الدول الأساسية التي قامت فيها الثورات العربية سنة 2011، لم تدمر بالكامل. صحيح أنه يوجد في مصر وسوريا عدد كبير من الذين أطلقوا انتفاضة 2011 في المهجر، لأنهم لم يشعر بالأمان في المناطق التي تخضع لسيطرة النظام، أو تلك التي تديرها المجموعات المسلحة. علاوة على ذلك، لا تزال كل الاحتمالات قائمة في مصر حتى اليوم، حيث يتنامى الغضب من توجهات السيسي، الذي يواصل تطبيق الوصفة القديمة نفسها لصندوق النقد الدولي، مع انحدار مستوى المعيشة في البلاد. وفي تونس أيضا، فالانفجار الاجتماعي ليس بعيدا بالضرورة.
لذا، من المهم التفرقة بين الأمل والتفاؤل. قد لا تكون هناك الكثير من الأسباب الباعثة على التفاؤل، ولكن يبقى الأمل.
نحن ندرك تماما ما هو الأسوأ، في ظل تفاقم المشهد الدموي في سوريا، الذي قد يزداد سوءا، ولكن هذا لا يعني استحالة تغير الوضع. شاهدنا المرحلة الأولى، وهي المرحلة الثورية بين 2011 و2013، ثم التحول المضاد لكل ما هو ثوري انطلاقا من سنة 2013، مع الصدمة التي وقعت بين قطبي المعارضة للثورة.
أفضل سيناريو متاح، وبلا شك، هو التحالف بين القطبين المعارضين للثورة -أي النظام القديم والأصوليين-، الذي سيمكن فور تطبيقه كل الأطراف تجنب المزيد من إراقة الدماء، ومن ثم التوجه نحو تأسيس سيناريو كلاسيكي يتعارض فيه معسكر الثورة والمعسكر المعادي للثورة، وسيخفض هذا من ميول التقدميين نحو التحالف مع أحد المعسكرين، لأن هذا لن يجلب إلا المزيد من الخراب.
في الأثناء، ومع انتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة، هناك مخاوف من أن يدمر هذا الخيار المتوفر كل الأطراف ما عدا النظام القديم، ومن بينهم هؤلاء التقدميون والإسلاميون. علاوة على ذلك، ليس من قبيل الصدفة أن كان المشير السيسي أول قائد عربي يقابل ترامب… ولكن سلوكه تجاه إيران عقد الوضع وجعله خاضعا للعديد من الاحتمالات.
هل تكمن الصعوبة أيضا في أن الشعوب لا ترغب في تحمل القليل من حالات الفوضى، خاصة وأن الإجراءات الثورية تمر حتما بالفوضى؟
كل هذا مرتبط بدرجة الفوضى. إن كان الأمر على شاكلة حرب كل شيء ضد كل شيء، وفق سيناريو “هوبز”، فإن الإجابة المحتملة هي القوة المطلقة ” للوياثان”. ولكن إن وضعتها في مشهد وفق “جون لوك”، فقد يتوافق الشعب مع شيء آخر غير الاستبداد الشمولي. يمكننا أن نقول، انطلاقا مما يحدث في سوريا، لكل أعداء الديمقراطية، “انظروا إما نحن أو الكابوس السوري”، إلا أن العالم العربي ليس مدانا بمثل هذه البدائل.
ما هي المواقف الجيدة التي يمكن للغرب تبنيها تجاه الشعوب العربية ورغبتها في التحرر؟ قلنا في ليبيا كان يجب عليهم ألا يتدخلوا؛ وفي سوريا يجب عليهم وبلا تردد ألا يسمحوا بتجاوز الخطوط الحمراء…
مرة أخرى، إن أفضل سيناريو يقتضي تحالف القطبين المضادين للثورة، وبالتالي يمكن للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الدفع نحو الأفضل. وعلى ضوء هذه المعطيات، سيتمثل الاختبار القادم في مشروع إعلان الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، بدعم من السيسي. ومن الوارد جدا أن يكوّن ترامب مع بوتين فريقا لمساندة الدكتاتوريين. والجدير بالذكر ان مبادرة أستانة من قبل بوتين كانت بهدف إظهار سيطرته على الوضع. وفي الأثناء، من المبكر جدا معرفة ما سيحدث مع الحكومة الجديدة للولايات المتحدة.
المصدر: ميديابار