في الوقت الذي تتوجه فيه أنظار العالم صوب منطقة الشرق الأوسط “الملتهبة”، والصراع الدموي داخل سوريا واليمن والعراق، والحديث عن خطورة التسلح الإيراني وضرورة تمزيق الاتفاق النووي، فضلا عن قرارات الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب والتي أثارت الجدل داخل الأوساط الأمريكية والإقليمية والدولية، تجاهل الجميع بؤرة جديدة للصراع ربما تقود العالم إلى حرب عالمية ثالثة.
الصراع المتأجج في منطقة دول البلطيق (شرق أوروبا)، لاسيما الدول الثلاث (أستونيا ولتفيا وليتوانيا) بين روسيا الساعية إلى إحياء أمجاد الدولة السوفيتية القديمة، واستعادة هذه الدول التي كانت تحتلها قبيل الانهيار، وأوروبا المتخوفة من إعادة سيناريو القرم من جديد، ومحاولة خلق اتحاد أوروآسيوي ينافس الاتحاد الأوروبي، دفع العديد من الدول الإقليمية إلى التعبير عن قلقها من هذا الصدام غير المعلن، خاصة في ظل توتر العلاقات بين ترامب ودول أوروبا، وهو ما قد يلقي بظلاله على مستقبل المواجهات بين موسكو ودول شرق القارة العجوز..
التواجد الروسي في دول البلطيق
تاريخ التواجد الروسي في دول البلطيق يعود إلى بدايات القرن السابع عشر، حيث التوغل السوفيتي حينها في الشئون الداخلية للدول الثلاث (أستونيا ولتفيا وليتوانيا)، إلى أن تم احتلالها بالكامل عقب الحرب العالمية الثانية عن طريق الاتحاد السوفيتي.
ومع انهيار الاتحاد أواخر تسعينيات القرن الماضي نالت هذه الدول استقلالها، ثم كان الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي “الناتو” في العام 2004، لتدخل هذه المنطقة الواقعة شرق أوروبا في نفق مشتعل من صراع النفوذ بين روسيا والاتحاد الأوروبي، حيث يسعى الأخير إلى إحكام السيطرة عليها بصورة كاملة، في الوقت الذي بذلت فيه موسكو قصارى جهدها لاستعادة نفوذها داخل هذه الدول مرة أخرى.
نجحت موسكو في بسط نفوذها على هذه الدول الثلاث (استونيا ولتفيا وليتوانيا) من خلال استراتيجيات الاقتصاد والإغراءات المالية، إذ أن 90% من احتياجات البلدان الثلاث النفطية تعتمد على النفط الروسي
وبالرغم من إحكام أوروبا السيطرة على دول البلطيق إداريًا، إلا أن الواقع السياسي والاقتصادي يقول عكس ذلك بصورة كبيرة، فلروسيا في هذه المنطقة مميزات عدة منحتها الأفضلية عن الاتحاد الأوروبي، فبعيدًا عن كون هذه الدول كانت تحت الاحتلال السوفيتي يومًا ما، إلا أن ضعف النظام السياسي نتيجة هشاشة المؤسسات السيادية والاقتصادية بها، جعل سياسات هذه البلدان سهلة الانجرار إلى النفوذ الروسي، خاصة أن الأقليات الروسية الهامة في لتفيا واستونيا لعبت دورا أساسيا في تمكين روسيا من تكوين شبكات مبنية على اللغة والقيم والمصالح المشتركة، حيث تمثل الجاليات الروسية في لتفيا واستونيا، عامل ضغط مهم لمصلحة موسكو، فهي تقترب من حاجز الـ 30% في كلا البلدين، وقد تعاظم تأثير هذه الأقليات في السنوات الأخيرة، حين تولى بعض الموالين لروسيا العديد من البلديات والمناصب الهامة في تلك البلدان.
كما نجحت موسكو في بسط نفوذها على هذه الدول من خلال استراتيجيات الاقتصاد والإغراءات المالية، حيث تتمحور وسائل الضغط الروسي في مجال الطاقة، إذ أن 90% من احتياجات البلدان الثلاث النفطية تعتمد على النفط الروسي، أما الغاز الطبيعي فيصل إلى 100% من الغاز الروسي.
خلال مباحثات حلحلة الأزمة الأوكرانية بين روسيا وأمريكا
سيناريو القرم والتخوف الأوروبي
لم يكن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم بأوكرانيا في مارس 2014 بالخطوة السهلة كما يراها البعض، فبالرغم من نجاح موسكو إحكام السيطرة عليها في هدوء وبعيدًا عن أعين العالم، حيث أرسلت روسيا آلافا من الجنود ليستقروا في القواعد العسكرية التي يسمح لروسيا بموجب المعاهدة بين موسكو وكييف بامتلاكها في القرم، وفي سرية تامة، فرضت موسكو سيطرتها الكاملة على المدينة، وباتت تحت قبضتها في عملية قيل عنها أنها أسلس عملية غزو في التاريخ الحديث، إلا أن هذه العملية فتحت الباب لصراع جديد بين أوروبا وروسيا.
وعلى الفور وعقب وقوع القرم في أيدي الروس، بدأ حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي يستشعران خطرا روسيا يهدد حلفاءها، خاصة بعد اتجاه الكرملين لخلق اتحاد أورو آسيوي ينافس الاتحاد الأوروبي، وهو ما دفع الأمين العام لحلف الناتو، أندرس فوج راسموسن، للمطالبة بتعزيز قوات الحلف في الدول الأعضاء الواقعة شرقي أوروبا، قائلا: إن الحلف يدرس خططا معدلة لعمليات ومناورات عسكرية، إضافة إلى تعزيزات مناسبة للقوات هناك، حيث تتجه النية إلى نقل المزيد من الطائرات إلى دول البلطيق.
وعلى الفور انبرت قيادات وحكومات دول أوروبا للمطالبة بالدفاع عن دول الشرق، محذرين من مزيد من التوسع الروسي في محاولة لإحياء الإمبراطورية السوفيتية القديمة في تلك المنطقة، حيث طالبت وزيرة الدفاع الألمانية، أورزولا فون دير لاين، حلف الناتو بالوقوف إلى جانب أعضائه في شرق أوروبا مثل دول البلطيق، وقالت “هذه الدول ترغب في التأكد من أن الناتو يقف إلى جوارها، وأنه ليس موجودا فقط على الورق”، فيما جدد رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، التزام الحلف بتوفير الأمن لدول البلطيق من أعضائه (لاتفيا وليتوانيا واستونيا وبولندا)
تحولت منطقة البلطيق إلى ساحة صراع بين القوى الإقليمية لإستعراض قدراتها العسكرية، مابين روسيا من جانب، والولايات المتحدة وأوروبا من جانب آخر.
رد أوروبي أمريكي
باتت منطقة البلطيق والدول الواقعة شرق أوروبا ساحة لاستعراض القوة من قبل القوى الدولة المتنازعة على هذه المنطقة، ففي الوقت الذي قدمت موسكو نفسها للعالم عبر الأزمة الأوكرانية وقدراتها المسلحة التي نجحت في السيطرة على القرم بتوغل عسكري هادئ، ما كان أمام أوروبا إلا الرد باستعراض قوى مماثل، حيث انحسر الصراع بين روسيا من جانب وأوروبا وأمريكا من جانب أخر.
وقد شهد 2014 العديد من المناورات التي قامت بها أوروبا بمشاركة أمريكية لإيصال رسالة روسيا مفادها أن المنطقة لم تعد مستباحة، وأن سيناريو القرم لن يتكرر مرة أخرى مع بقية الدول، حيث اختتمت الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي مناورة Baltops 2014 في بحر البلطيق، في العشرين من يونيو 2014، وقد أسهمت في وضع سلسلة من التدابير من قبل شركاء حلف شمالي الأطلسي لدعم الحلفاء في أوروبا الشرقية ودول البلطيق وطمأنتهم على خلفية الأزمة في أوكرانيا، وقبلها بأيام قليلة جرت المناورات العسكرية 2014 Saber Strike تحت قيادة القوات المسلحة الأميركية في أوروبا في دول البلطيق وشارك في المناورات جنود من كندا والدنمارك واستونيا وفنلندا وليتوانيا والنرويج وبريطانيا والولايات المتحدة.
وتعد تلك المناورات هي الأكبر في تاريخ شرق أوروبا، حيث شارك فيها 4700 جندي، منهم 500 من لاتفيا التي ناشدت حلف الناتو في وقت سابق لتعزيز وجود قوات الحلف في المنطقة خشية التدخل الروسي، وهو ما أقلق الجانب الروسي بشكل كبير حينها.
لكن الموقف تغير نسبيًا بعد وصول الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، والذي حمل معه موقفًا سلبيًا حيال الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، فضلا عن علاقته الجيدة مع روسيا، ما تسبب في قلق البعض من انسحاب واشنطن من التزاماتها حيال شرق أوروبا وتركها وحيدة في مواجهة موسكو، بحسب ما أشار التقرير الإستراتيجي السنوي لإسرائيل.
مناورات عسكرية أوروبية أمريكية في بحر البلطيق 2014
ترامب وتوجهاته حيال أوروبا
في التقدير الإستراتيجي الإسرائيلي السنوي الصادر هذا العام عن معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، تناول العديد من التحديات التي تواجه إسرائيل، وتحليل آثارها وما تعكسه من تداعيات، لعرضها على المؤسسات المعنية لبلورتها وتحديد ما يمكن اتخاذه في الاتجاهين السياسي والعسكري.
التقرير المنشور في مائتي صفحة تناول عددًا من التهديدات التي تواجه أمن تل أبيب، جاء على رأسها “حزب الله” اللبناني، حيث ربط بين تعاظم القدرات العسكرية للحزب وضرورة الاستعداد لمواجهة احتمالية نشوب أي مواجهة عسكرية معه، ثم جاء التهديد الإيراني في المرتبة الثانية، وذلك بعد تراجع حدة تهديده لإسرائيل عقب الاتفاق النووي الموقع في 2015، إلا أن التقرير طالب بضرورة الاستعداد لأي احتمالية صدام مع طهران، كما احتلت المقاومة الفلسطينية المرتبة الثالثة في قائمة التهديدات، تلتها الجماعات المسلحة في سيناء وسوريا وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
وتحت عنوان “تأثير ترامب في أوروبا الشرقية: التقديرات الخاطئة لزيادة مخاطر الناتو وروسيا” أفرد التقرير فصلا كاملا عن أطماع روسيا في دول البلطيق، حيث حذرت الكاتبة سارا فينبرج من مغبة الدخول في صدام قد يشعل العالم أجمع وليس شرق أوروبا وفقط.
فينبرج في تقريرها الذي جاء في 13صفحة استعرضت بداية الصراع على النفوذ في تلك المنطقة، ومساعي موسكو لإحياء فترة الاحتلال التي انتهت عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، كما تطرقت إلى أزمة أوكرانيا، وكيف أنها كشفت عن نوايا روسيا تجاه دول شرق أوروبا، كما تناول الاستعدادات العسكرية الروسية المكثفة على الشريط الحدودي مع أوروبا.
ترامب ورئيسة وزراء بريطانيا تريزا ماي
ثم تطرق التقرير إلى الحديث عن سياسة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب حيال أوروبا عمومًا وشرق أوروبا بصورة خاصة، محذرًا مما وصفه بـ”الميل نحو سوء تقدير” للمخاطر الروسية في منطقة البلطيق، فضلا عن عن دعم سياسة الـ “بريكست” وتأييد الانسلاخ من الاتحاد الأوروبي، والمطالبة بحذو بريطانيا في هذا الاتجاه، ما يشير إلى عدم اكتراثه بالأمن الأوروبي والخطر الروسي الذي يحدق بها، وهو ما أثار غضب وحفيظة قيادات أوروبا وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية.
التقرير حذر مما وصفه بـ”الميل نحو سوء تقدير” للمخاطر الروسية في منطقة البلطيق، فضلا عن عن دعم سياسة الـ “بريكست” وتأييد الانسلاخ من الاتحاد الأوروبي، والمطالبة بحذو بريطانيا في هذا الاتجاه
سياسة ترامب تجاه تفكك أوروبا والتقليل من شأن حلف “الناتو” سينعكس بصورة سلبية على المواجهة بين أوروبا وروسيا، إذ أن المستفيد الأول من هذه الفجوة بين واشنطن والاتحاد الأوروبي هي موسكو، ومن ثم فلن تتوانى في الإقدام على المزيد من المواجهات الدموية لتحقيق أطماعها في شرق أوروبا، كما أشار التقرير.
وخلص التقرير إلى ضرورة مزيد من التنسيق بين الإدارة الأمريكية الجديدة ودول الإتحاد الأوروبي من أجل كبح جماح روسيا في منطقة شرق أوروبا، كذلك في سوريا، إذ أن التوجهات الأمريكية الأخيرة حيال موسكو من الممكن أن تعطي الضوء الأخضر للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المضي قدمًا نحو مزيد من التوغل، وهو ما قد يحول المواجهات مستقبلا بينه وبين الناتو إلى صراع مسلح، ربما يقود إلى حرب عالمية ثالثة، وهذا هو التخوف النهائي الذي خلص إليه التقرير.