علىتعدّ كركوك خامس أكبر المحافظات العراقية، ويبلغ عدد سكانها قرابة 1.6 مليون نسمة وفق إحصائية عام 2018، تقع إلى الشمال الشرقي من العاصمة بغداد، ويسكنها خليط سكاني معقّد، إذ تضم خليطًا من العرب والأكراد والتركمان والآشوريين، فضلًا عن أن العرب والتركمان ينقسمون إلى سنّة وشيعة، ويوجد أكثر من مذهب مسيحي في المحافظة، وتضم في حدودها الإدارية 4 أقضية هي كركوك والدبس وداقوق، إضافة إلى قضاء الحويجة ذي الأغلبية العربية.
تبلغ مساحة محافظة كركوك 10 آلاف كيلومتر مربع، وتبعد عن بغداد 250 كيلومترًا، ويعدّ اكتشاف النفط في عشرينيات القرن الماضي نقطة مفصلية في وضع كركوك سياسيًّا وتاريخيًّا، وعلى مدى العقود التي أعقبت ذلك.
على مدى العقود الماضية التي أعقبت اكتشاف النفط في محافظة كركوك، شهدت المحافظة كثيرًا من التقلبات السياسية والديموغرافية والأمنية، حتى الغزو الأمريكي للبلاد الذي زاد من حدة التنافس على المحافظة، لتتحول إلى إحدى المناطق المتنازع عليها بين الحكومة الاتحادية ببغداد وحكومة إقليم كردستان وفق نص المادة 140 من الدستور، التي لم تفلح حتى اللحظة في وضع حد لوضع المحافظة.
تاريخ مضطرب
يعود تاريخ الاضطراب في كركوك إلى قرون ماضية، وتحديدًا إلى عهد الدولة العثمانية وحربها مع الصفويين، يقول المؤرخ مصطفى أحمد في حديثه لـ”نون بوست” إن المرحلة الزمنية التي شهدت احتلال الصفويين لكركوك في عهد الشاه إسماعيل الصفوي، تعدّ اللحظة التي بدأ فيها التركمان في استيطان المنطقة.
يتابع أن الصفويين حاولوا فرض معتقداتهم على سكانها الأكراد، وذلك بغية استبدال المسلمين السنّة بالشيعة، الأمر الذي أدّى بالعثمانيين إلى مصالحة أكراد المنطقة وتشجيعهم على التمرد على الصفويين، حيث استمرت الحرب في سجال بين العثمانيين والفرس طيلة العقود التالية، لا سيما خلال حكم كل من الشاه طهماسب عباس، والشاه نادر شاه.
إحصاء عام 1997 أشار إلى أن عدد العرب ارتفع إلى أكثر من 540 ألف نسمة، مع تراجع عدد الأكراد إلى زهاء 155 ألف نسمة ثم التركمان بـ 50 ألف نسمة
بالنظر إلى وضع محافظة كركوك خلال العقود الماضية، حيث شهدت تغييرًا في تركيبتها السكانية، يشير إحصاء عام 1957 بالعراق، والذي يعدّ مرجعًا لوزارة التخطيط العراقية، أن التوزيع السكاني للمحافظة يشير آنذاك إلى أن الأكراد كانوا يشكّلون أغلبية المحافظة بعدد سكان يناهز 189 ألف نسمة، يليهم العرب بعدد سكان يقارب 110 آلاف نسمة، ثم التركمان بقرابة 84 ألف نسمة، ثم بقية المكونات مثل السريان واليهود وغيرهما، حيث كان عدد السكان بالمجمل يقدَّر بـ 400 ألف نسمة.
أما في العقود اللاحقة، فقد شهدت المحافظة تغييرًا ديموغرافيًّا متعمّدًا بدأ مع بداية سبعينيات القرن الماضي، حيث يشير تعداد عام 1977 إلى أن العرب شكّلوا أغلبية المحافظة بعدد سكان يقدَّر بـ 219 ألف نسمة ثم الأكراد بـ 185 ألف نسمة، يليهم التركمان بـ 81 ألف نسمة، وهو ما يؤكد أن تغييرًا ديموغرافيًّا كبيرًا شهدته المنطقة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فإحصاء عام 1997 أشار إلى أن عدد العرب ارتفع إلى أكثر من 540 ألف نسمة، مع تراجع عدد الأكراد إلى زهاء 155 ألف نسمة ثم التركمان بـ 50 ألف نسمة، وهو ما كان يرفضه الأكراد انطلاقًا من أن كثيرًا من أكراد كركوك تعرضوا للتهجير إلى مناطق أخرى.
اكتشاف النفط
في أكتوبر/ تشرين الأول 1927، تم الإعلان عن اكتشاف حقل نفط في كركوك في بابا كركر، وهو أول الحقول النفطية الكبيرة التي تم الكشف عنها في البلاد، إذ كانت شركة نفط العراق المحدودة المعروفة باسم “IPC” المملوكة لعدد من المستثمرين الأوروبيين، هي الجهة المسؤولة عن الحفر والتنقيب واستخراج النفط في تلك الفترة.
وفي عام 1934 بدأ إنتاج خام النفط في كركوك بشكل فعلي، وبدأت عمليات التصدير عبر 4 خطوط أنابيب تربط بين كركوك العراقية من جهة وموانئ البحر المتوسط من جهة أخرى، حيث يقدَّر حجم احتياطيات النفط في كركوك بـ 13 مليار برميل، بما يشكّل 12% من مجمل الاحتياطيات النفطية العراقية.
يقول الباحث السياسي رياض الزبيدي، إن اكتشاف النفط في كركوك والنزعة الانفصالية للأكراد منذ عقود، أدّيا بالأنظمة الحاكمة في العراق إلى محاولة تحجيم الكثافة السكانية للأكراد في كركوك، انطلاقًا من أن كركوك الغنية بالنفط ستشكل مركزًا اقتصاديًّا لأكراد العراق في حال حاولوا الاستقلال عن العراق.
يتابع الزبيدي في حديثه لـ”نون بوست” بأنه ومنذ عام 2003 ازدادت حدة الصراع في كركوك، على اعتبار أن الأكراد كانوا يسيطرون على العديد من الحقول النفطية، وهي كركوك وباي حسن وجمبور وخباز، ويعملون على تصدير إنتاجها عبر العديد من الطرق التي تعتبرها الحكومة العراقية غير قانونية وبعيدة عن القانون والدستور العراقيَّين.
ويرى الزبيدي أن سبب تمسك الأكراد الأول بمحافظة كركوك يعزى للثروة النفطية التي تقبع عليها المحافظة، لا سيما أن نفط كركوك يعدّ من النفط الجيد غير المكلف من حيث الاستخراج والمعالجة، وهو على عكس حقول إقليم كردستان التي يعدّ نفطها ثقيلًا ومكلفًا في الاستخراج والإنتاج، بحسب قوله.
سجال سياسي
كان الوضع في محافظة كركوك بعد عام 2003 مشوبًا بالحذر وسط تواجد قوات للشرطة الاتحادية والشرطة المحلية التابعة لبغداد، ووجود قوات البيشمركة والأسايش الكردية في المحافظة، بيد أن سيطرة تنظيم “داعش” على الموصل في يونيو/ حزيران 2014 وما تبعه من انسحاب الجيش العراقي من محافظات عديدة، من بينها أجزاء من كركوك، أدّى إلى دخول قوات البيشمركة وسيطرتها على كركوك بالكامل، باستثناء قضاء الحويجة الذي سقط عسكريًّا بيد مقاتلي “داعش”.
استمر وضع المحافظة على هذا الحال، حتى عمليات فرض القانون التي أطلقها رئيس الوزراء العراقي في 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، في ردّ عسكري على استفتاء انفصال إقليم كردستان الذي أجراه الأكراد في 25 سبتمبر/ أيلول من العام ذاته، حيث استطاعت القوات العراقية دفع البيشمركة الكردية، وفرض سيطرتها على المحافظة مع إغلاق جميع مقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني، وعلى رأسها المقر الرئيسي الذي بات فيما بعد يعرَف باسم المقر المتقدم للقوات العراقية التابعة لبغداد.
في السياق، يقول الباحث الأمني حسن العبيدي إن وضع محافظة كركوك يعدّ غاية في التعقيد، فوجود القوات العراقية في المحافظة لا يزال يؤرق الأكراد الذين فقدوا السيطرة على المدينة عام 2017، فضلًا عن أن الوضع السياسي المتأزّم في كركوك يعزى لعدم إجراء أي انتخابات محلية فيها منذ عام 2005، وبذلك تعدّ كركوك المحافظة العراقية الوحيدة التي لم تشهد منذ الغزو الأمريكي إلا انتخابات واحدة يصفها المراقبون بـ”اليتيمة”.
رغم مطالبة الأكراد بعودتهم إلى كركوك وعودة مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني، بيد أن جميع المحاولات والاتفاقيات التي جرت بين بغداد وأربيل لم تثمر عن أي نتائج مُرضية للأكراد، حتى جاءت الاتفاقية الأخيرة ضمن تحالف “إدارة الدولة” التي وعدت فيها الأحزاب الشيعية الحزب الديمقراطي الكردستاني باستعادة مقرهم القديم (مقر قيادة العمليات المتقدم)، مقابل دخولهم التحالف السياسي الذي أفضى إلى تشكيل حكومة رئيس الوزراء العراقي الحالي محمد شياع السوداني.
السبب الرئيسي لتجدد الصراع السياسي في كركوك يعزى لقرب إجراء الانتخابات المحلية التي من المقرر عقدها في ديسمبر/ كانون الأول القادم
في حديثه لـ”نون بوست”، أشار العبيدي إلى أن استمرار مطالبة الأكراد بمقرهم القديم، أدّى إلى تأزيم الوضع الأمني في كركوك في الأيام الماضية، حيث قُتل وأُصيب عدد من الأشخاص المتظاهرين والقوات الأمنية إثر مواجهات مع القوات الأمنية العراقية، إذ نقلت مصادر أمنية عن أن المظاهرات ضمّت سكانًا من الأكراد من جهة وآخرين من العرب والتركمان من جهة أخرى، حيث انتشرت قوات الأمن للفصل بين الجانبَين، وأطلقت عيارات نارية تحذيرية لإرغام المتظاهرين الأكراد على التراجع.
كما نقلت المصادر أن التوترات التي حدثت الأسبوع الماضي جاءت على خلفية تنظيم محتجّين من العرب والتركمان اعتصامًا قرب المقر العام لقوات الأمن العراقية في محافظة كركوك، إثر معلومات مفادها أن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أمرَ قوات الأمن بتسليم هذا المقر للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي سبق أن شغله قبل عام 2017.
وعلى إثر الصدامات الدامية، فرضت قوات الأمن العراقية حظرًا للتجوال استمر قرابة 24 ساعة، مع فتح السلطات تحقيقًا رسميًّا في أسباب سقوط قتلى وجرحى، حيث انتشرت قوات أمنية إضافية في الأحياء والطرق العامة بكركوك، لأجل ضمان عدم اندلاع احتجاجات مجددًا.
تأجيل للأزمة
يجمع العديد من المراقبين أن السبب الرئيسي لتجدد الصراع السياسي في كركوك يعزى لقرب إجراء الانتخابات المحلية التي من المقرر عقدها في ديسمبر/ كانون الأول القادم، إذ يشير الباحث السياسي رياض الزبيدي إلى أن الهدف الكردي من المطالبة بمقرهم القديم يعزى لمحاولتهم التواجد السياسي الفعلي في المحافظة، من أجل ترتيب أوراقهم قبيل الانتخابات.
إلا أنه ورغم المحاولات الكردية، يبدو أن المحكمة الاتحادية العليا في البلاد جاءت بما لم يرغب به الأكراد، حيث أوقفت المحكمة الاتحادية العراقية، الأحد الماضي، قرار تسليم مقر قيادة العمليات المتقدم في كركوك للحزب الديمقراطي الكردستاني.
أفاد بيان صادر عن المحكمة الاتحادية أنها ناقشت الدعوى التي رفعها النائب العربي عن محافظة كركوك وصفي العاصي لديها، وقررت بعد المداولة “إيقاف قرار رئيس الوزراء محمد شياع السوداني المتعلق بإخلاء مقر قوات العمليات المشتركة في كركوك، ويعتبر قرار المحكمة نهائيًّا وملزمًا لجميع المسؤولين”، وفق المحكمة.
وفي ظل استمرار المطالبات الكردية وموقف المحكمة الاتحادية والكتل السياسية المناوئة للأكراد، يبدو أن الصراع السياسي في كركوك قد تمَّ تأجيله في الوقت الذي يشير فيه القادة الأكراد إلى أن جميع الوعود التي قطعها تحالف إدارة الدولة للأكراد لم يتم الإيفاء بها، لا سيما ما يتعلق بكركوك وحصة الإقليم من الموازنة العامة والمناطق المتنازع عليها وفق المادة 140 من الدستور.