كل شيء يوحي بهزيمة ويشير إلى مرحلة عذابات جديدة، لكن يبدو أن بعض حِكَم فيسبوك العشوائية ستصحّ في حال النهضة. يوجد خير في الشر، ولعله خير كثير، فالزوبعة التي ثارت في الأسبوعَين المنصرمَين والمتعلقة بإمكان انجاز المؤتمر الـ 11 للحزب، كشفت أمورًا كثيرة، أهمها:
إن جسم النهضة لا يزال متماسكًا حول مبدئية معارضة الانقلاب، وهو الموقف الديمقراطي الذي ينزه الحزب عن الغدر بالديمقراطية، كما هو متهم بها منذ خرج للوجود، وهو موقف مكلف من جهة للعذابات التي يتعرض لها الحزب وقياداته، ومن أخرى لخساراته مكاسب محتملة من مهادنة الانقلاب، لكن للمبدئية أيضًا ثمن جزيل.
كما كشفت الزوبعة أن ليس للمنقلب ومن يناصره برنامج غير مطاردة النهضة بما يكشف عجزًا وقصورًا وضيق أفق، لا يمكن قراءته إلا كمؤشرات موت سياسي للمنظومة الفاشلة، لذلك ربما يفتح على وضع سياسي يستفيد منه الحزب المنظَّم ولو بعد حين، وهو الأمر المشروط بصبر طويل نظن أن الإسلاميين هم الأقدر عليه.
الدعوة إلى المؤتمر كانت اختراقًا
كانت الساحة السياسية هادئة في خضوعها للانقلاب، وقد طرحت أسئلة كثيرة عن تراخي جبهة الخلاص في المعارضة وغيابها عن الشارع مند نهاية الربيع. تبيّن أن عصب المعارضة -حزب النهضة أو قيادته المؤقتة- بعد اعتقال الغنوشي، قد دخلت في مرحلة تفاوض مع الانقلاب، وقد رُشّح أن هدف المناورة التخلي عن الموقف المعارض والتفاوض على وضع يمكن وصفه بهدنة مفتوحة.
لم تتبيّن لنا فيها مطالب قيادة الحزب بوضوح، لكن نرجّح أن هدف هذه القيادة المؤقتة كان حفظ جسم الحزب من التلاشي، وربما -أقول ربما- إطلاق سراح القيادة المعتقلة مقابل سحبها من المشهد لصالح قيادة جديدة.
جسم الحزب في مجمله (دون أن تتوفر لنا أرقام دالة) عارض عقد المؤتمر، وعارض بالخصوص التضحية بالقيادة السجينة من أجل مكاسب غير واضحة، وأصرّت الكثير من أقلام الحزب النشطة على مبدئية الموقف المعارض للانقلاب بقطع النظر عن مصير القيادة، ما جعل رئيس الحزب بالنيابة، الدكتور منذر الونيسي، مرتبكًا ويتحرك بلا بوصلة ولا خطاب مقنع، وقد انتهى به الأمر معتقلًا دون سبب واضح حتى لفريق الدفاع الذي يصاحبه إلى مكاتب التحقيق.
ملخّص ما دار حول المؤتمر ومعارضته توحي بأنه جهة نافذة حاولت اختراق الحزب بكسر مبدئية معارضته للانقلاب، وتذويب جبهة الخلاص، فغياب النهضة ينهي فعاليتها، وهو ما يسهّل مرور منظومة 25-07 إلى انتخابات المجالس المحلية لعام 2023 والانتخابات الرئاسية لعام 2024 دون معارضة.
انكشاف الأحجام (المع والضد) أثبتت أن الحزب متماسك رغم الاختراق الجدّي، وأن إخراجه من موقف معارض إلى موقف موالٍ ليس بالأمر الهيّن حتى الآن، كما كشف أن موقع الحزب في المشهد السياسي برمّته لا يزال محددًا ومؤثرًا، فلا شيء يتم دون النهضة حتى وهي في حالة سبات سياسي.
لم تظهر أحزاب معارضة تملأ مكان النهضة والأحزاب الموالية لا تفلح في الإقناع بأن الانقلاب يحقق مكاسب تسمح له بالبقاء دون إسناد من النهضة، فما دامت النهضة في المعارضة فالانقلاب يعيش قلق نهاياته القريبة، وهذا الدرس الأبلغ من محاولة الاختراق.
وهذا يضعنا في الصورة التالية: القوة الصلبة للدولة ضد النهضة، وهو الوضع الصفري الذي كان زمن بن علي والذي لم ينكسر إلا بالثورة، وكلما عجزت الأجهزة الصلبة عن استثمار اقتصادي واجتماعي في الانقلاب، فإن الأزمة تقع آليًّا على عاتقها، وهو الوضع الذي يمكن للنهضة أن تمدّ فيه رجلها وتنتظر، ما يغنيها عن عار مؤتمر تحت الانقلاب.
كلفة الصبر في المعارضة أكثر فائدة للحزب
لا يجب الذهاب من خلال ما سبق إلى أن الحزب يعيش وضعًا صحيًّا، فالحيرة بادية في الخطاب، والحزب بلا مقرات وخيوط الاتصال منقطعة أو هكذا نعتقد، لكن أمام سيناريو التخلي عن المعارضة والانتقال إلى موالاة المنظومة حصل ما يشبه انتفاضة الغريق وخروجه إلى السطح.
لقد فضّلت القيادة الباقية خارج السجون مواصلة تحمل كلفة المعارضة (وهو ثمن مرشح للزيادة)، وقد تم اعتقال رئيس مجلس الشورى المعارض للمؤتمر، عبد الكريم الهاروني. فارتفاع الكلفة استثمار يحبه الإسلاميون عامة، إذ يقوم مقام اللاحم للمنفصل والحامي من التسيُّب.
ونرى أنه لو كان الانقلاب يحقق للناس منافع في معيشهم اليومي، لتمَّ تجاوز حزب النهضة مهما كان حجمه ومهما كانت حدة معارضته، لكن العجز البادي على الانقلاب لا يمكن إلا أن يخدم معارضيه، وفي مقدمتهم النهضة ومن تحالف معها.
لا يحتاج المرء إلى ذكاء كثير ليرى الانقلاب ماضيًا في مخططه، فهيئة الانتخابات المعينة بدأت تعدّ لانتخابات مجالس محلية، لن تكون المشاركة فيها أفضل من المشاركة في انتخابات برلمان لا يعلم أحد ما يصنع نوابه (عدا قبض رواتب مجزية)، كما أن كل المؤشرات تكشف أن المنقلب ماضٍ نحو فترة رئاسية ثانية لا يلوي على شيء (وهذا سرّ حاجته إلى أصوات النهضة عبر مناورة المؤتمر).
المجالس المحلية ستولد ميتة، والفترة الرئاسية الثانية لن تجعل المنقلب يقبَل شعبيًّا أو دوليًّا، لذلك نراها تنويعًا على مقام الفشل الذريع، بل إننا نذهب إلى أن مناورة مؤتمر النهضة أو الاختراق تكشف أن شعبية المنقلب انحدرت إلى مستويات ترعبه وترعب حزامه القريب، والأرقام المذاعة عن الشعبية الكبيرة ليست سوى تمويه لا يصدقه حتى من يبثها.
هنا يطرح السؤال عن جدوى استعجال الخروج من المعارضة إلى الموالاة، فالثمرة توشك أن تقع بين يدَي المعارضة (دعنا من كفاءة المعارضة وقدرتها على إدارة ما بعد الانقلاب فهذا موضوع آخر)، لكننا نرى من الغباء الذهاب إلى نجدة الانقلاب في هذه المرحلة، وسيكون غباء مضاعفًا نجدة من يحل محله ممّن يسنده الآن (وهي آخر مناورات القوى الصلبة الاستئصالية).
تحتاج المنظومة المعادية للديمقراطية أن تعرف حق المعرفة كلفة معاداتها للديمقراطية، ولا نراها تفلح دونها، إنها مرحلة الصبر المرّ وسيغنمها المدرَّبون على الصبر، فالبقاء على قيد الحياة في هذه المرحلة انتصار كبير يمهّد للبقاء بعدها بصحة جيدة، وهذا ما نراه من خير كامن في الشر.