ترجمة و تحرير نون بوست
تشترك القيادات السياسية على غرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والمرشحة للانتخابات الرئاسية الفرنسية، مارين لوبان والقيادية بحزب البديل من أجل ألمانيا، فراوكا بيتري، فضلا عن تنظيم الدولة في نقدهم للعولمة. وعلى الرغم من أن الترابط الاقتصادي الذي يجمع بين دول العالم قد مكننا من التمتع بالعديد من المنتجات بأبخس الأثمان وحقق لنا فرص أفضل للتصدير، إلا أن مصطلح العولمة أصبح مكروها.
عموما، تعارض مختلف الأطياف السياسية العولمة، إلا أن اليمين يعتبر أشد الرافضين لمبادئ العولمة. في الحقيقة، يعد ذلك أمرا طبيعيا للغاية نظرا لأن اليمين ذو توجهات قومية، وهذا التوجه بدوره يعد الدافع الأساسي لمقاومة العولمة.
وتجدر الإشارة إلى أن القومية متجذرة في صلب المبادئ السياسية لليمين. وفي الوقت نفسه، نلاحظ مفارقة غريبة، والمتمثلة في كون العولمة تدخل في إطار مشروع النيوليبرالية التي تعتبر إيديولوجية أساسية تندرج ضمن الركائز الأساسية التي يقوم عليها اليمين منذ قرون طويلة.
كيف حدث هذا الترابط؟ لفهم التناقض، علينا إلقاء نظرة على التاريخ، ففي القرن 19، انتشرت شبكة تجارية في كافة أنحاء العالم. وفي الأثناء، كانت أبرز القوى في أوروبا الغربية على غرار بريطانيا العظمى وفرنسا وهولندا والبرتغال تراقب وتنظم التجارة العالمية.
وفي تلك الفترة، انتشرت الإمبريالية العسكرية والاقتصادية التي أدت في نهاية المطاف إلى صراع حول احتلال الدول الإفريقية، ترتب عنه اندلاع الحرب العالمية الأولى.
الجانب الأسود: كره الأجانب
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عاد عصر التجارة الحرة. وفي الوقت ذاته، لم تعد أوروبا تتحكم في مقتضيات العولمة، وإنما أصبحت خاضعة لسلطة الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الأثناء، ألغيت الحواجز التجارية بين الدول الغربية في حين تم استثناء الاتحاد السوفياتي والصين وحلفائهم من هذا التمشي الجديد نتيجة للحرب الباردة.
ومن جهة أخرى، لم يشكل هذا التطور أي خطر على السيادة الوطنية بالنسبة للدول الغربية. علاوة على ذلك، عاشت العديد من الدول الأوروبية آنذاك في سلام لم تشهد له مثيلا من قبل. ولكن كان هناك مشكل كبير تمثل في تزايد إقبال المهاجرين على هاته الدول الصناعية مما أدى تبعا إلى انتشار ظاهرة كره المهاجرين.
عندما ننظر إلى الصراعات الدائرة حول العولمة على أنها إعادة إحياء للنقاش التاريخي بين فلسفة التنوير والأنظمة القديمة، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل العديد من الظواهر المربكة
وقد برزت هذه الظاهرة خاصة في المملكة المتحدة وفرنسا وبلجيكا وهولندا، حيث قدم عدد كبير من المهاجرين الوافدين من مستعمراتها السابقة. وفي الوقت نفسه، قد شهدت ألمانيا والنمسا وسويسرا موجة هجرة غير مسبوقة نظرا لأن هذه الدول أعلنت صراحة استعدادها لاستقبال اليد العاملة.
ومع مرور الوقت، وجدت هذه الدول الطرق المناسبة لمواجهة أزمة كره الأجانب، حيث ساهم النمو السريع للاقتصاد وحاجة الدول إلى يد عاملة أجنبية نظرا لانخفاض عدد الولادات، في إيجاد الحلول المناسبة للتعاطي مع هذه المشاكل.
و لم تتوقف الصراعات، إلا أن النخب السياسية والاقتصادية التي لم تنس العواقب الناتجة عن العنصرية خلال الثلاثينات في ألمانيا، قاومت، وبدرجة كبيرة، أي محاولة لاستغلال الوضع المتوتر والاستفادة منه لخدمة أغراض دنيئة.
إثر ذلك شهد العالم الموجة الثالثة من العولمة، التي شهدت تسارعا في نسق نمو المبادلات التجارية وإلغاء التعريفات الجمركية، وكانت عملية تفكيك الحواجز الوطنية والدولية القائمة تتم بنسق حثيث، وتصدر الليبراليون الجدد المشهد.
وخلال فترة الثمانينات، اختفت الصناعات القديمة على غرار صناعة الفولاذ وصناعة السفن. في المقابل، برزت شركات يابانية وكورية على الساحة.
ثمن النمو
عند انهيار الاتحاد السوفياتي، اقتربت دول وسط وشرق أوروبا من الاتحاد الأوروبي. وبالإضافة إلى ذلك، انضمت الصين الاشتراكية لمنظمة التجارة العالمية. وفي ظل هذه الظروف، اضطرت بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية إلى تحرير النظام المالي العالمي. وقد أدى ذلك إلى نمو القطاعين الاقتصادي والمالي. وبالتالي، انتشرت ظاهرة المضاربة في الأسعار بشكل ملحوظ، مما أدى إلى اندلاع أزمة مالية سنة 2008.
ومع ذلك، فقد استفادت عدة دول من العولمة. وفي هذا الإطار، تراجعت المهن البسيطة في الدول الغنية، وحلت مكانها مهن أعلى قيمة منها أو مهن الخدمات التي لا يمكن توريدها على غرار قطاعات الرعاية الصحية والتعليم وتجارة التجزئة.
فضلا عن ذلك، شهدت الدول الفقيرة على غرار الهند والصين أيضا نموا اقتصاديا. وظهرت داخل هذه الدول طبقة متوسطة ساهمت في استيراد العديد من البضاعة المصنوعة في أوروبا واليابان. والجدير بالذكر أن هذه الدول دفعت ثمن تقدمها، فقد عانى العمال الصينيون من ظروف العمل القاسية والهواء الملوث في المدن الصناعية التي شهدت نموا سريعا.
بالنسبة للمحافظين فإن القيم التي تبنتها الأنظمة القديمة في ذلك العهد تبدو صالحة لهذا العصر أيضا، ولا يزال من السهل الدفاع عنها
ومن جهتهم، كان العمال الأوروبيون والأمريكيون شاهدين على سقوط الشركات في المناطق الصناعية القديمة في بلدانهم، أين أفنوا شطرا من حياتهم، وظهرت مهن جديدة في إطار القطاعات ضعيفة الأجور. وقد كانت هذه المهن موجهة للنساء اللاتي يسعين إلى كسب إضافي.
فقد الغرب السيطرة
ولعل الأهم من ذلك؛ هو أن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وشريكتهم اليابان قد فقدوا سيطرتهم على مسار العولمة، حيث أصبحت هذه الظاهرة تسير وتتطور بشكل مستقل خارج إرادتهم، ولم تعد الدول الغنية قادرة على منع المبادلات التجارية التي لا تخدم مصالحها. وعند اندلاع الأزمة المالية في كل من إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية سنة 2008، اشتد الخوف، وكان الغرب في ذلك الوقت قد فقد السيطرة على العالم.
وفي الوقت نفسه، ساهمت التجارة العالمية في ربط جميع العلاقات المتاحة على مستوى كل أجزاء العالم، حيث تمكنا من زيارة بلدان أخرى والاطلاع على عاداتهم وحياتهم.
في الواقع، تعتبر الدول الغنية مهمة بالنسبة للمواطنين القاطنين داخل الدول الفقيرة، إذا أنها تعتبر أبرز وجهة للهجرة. فعلى سبيل المثال، انتشرت الهجرة من أوروبا الشرقية إلى أوروبا الغربية، فضلا عن ازدياد الوفود المهاجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي ظل هذه الظروف، ظهرت التوترات العرقية مجددا. وقد مثلت هذه التوترات الجانب المظلم من الموجة الأولى من العولمة بعد الحربين العالميتين التي ساهمتا في ظهور بوادر فقدان السيطرة على مستوى العالم. وفي هذا الإطار، سرت موجة من عدم الاستقرار خاصة في صفوف المواطنين الطاعنين في السن والأشخاص الذين فقدوا مهنهم الصناعية.
في الحقيقة، إن هذه الظاهرة التاريخية لا يمكن تفسير الأسباب الكامنة وراء نشأتها وتفاقمها إلا إذا اعتبرناها نتيجة منطقية للعولمة الاقتصادية، خاصة في ظل وجود الليبرالية الجديدة كقوة دافعة للسياسات العالمية. ولكن هنالك أيضا عامل آخر: فالعلاقات بين الغرب وخاصة والولايات المتحدة من جهة، والشرق الأوسط والعالم الإسلامي من جهة أخرى، شهدت تدهورا كبيرا وترتب عن ذلك تعمق التوترات القائمة بين الجانبين.
معاداة الإسلام
في الواقع، إن هذا المشكل ذو وجهين: إذ أن عدد الأشخاص الذين يبحثون عن الحماية من الحرب ومن العنف في بلدانهم يتزايد بشكل سريع، في حين أن عدد الهجمات الإرهابية في المدن الغربية، التي يقف وراءها عدد صغير جدا من الشباب المسلم الذي ينظر للغرب كعدو له، بات في تزايد مستمر. كلتا الظاهرتين لا ترتبطان ببعضهما بشكل مباشر، ولكن كلاهما يمثل تحديا حقيقيا لسكان العالم الغربي الذي يشهد تدفقا لعدد كبير من الوافدين من ثقافات مختلفة، الذين قد يندس من بينهم العديد من الإرهابيين.
على مستوى أكثر عمقا، وهو ثقافي أكثر منه اقتصادي، يرتبط الصراع بين الغرب والإسلام بالعولمة في إطار دوامة خطيرة؛ إذ أن العولمة تقربنا أكثر فأكثر من بقية الثقافات المختلفة عنا
خلافا لذلك، إن العولمة الاقتصادية بمفردها ليست كافية لتفسير صعود النزعة القومية واستعادتها لقوتها، إذ أن كل التيارات المعادية للأجانب التي تتحرك في أوروبا الآن تستغل أيضا تنامي المشاعر المعادية للإسلام. وفي الأثناء، تحظى، هذه المجموعات المعادية للأجانب بحضور بارز وقوة جذب في المدن الأكثر ازدهارا في غرب وشمال أوروبا، مثل بريطانيا، وهولندا وسويسرا أكثر من مدن جنوب أوروبا، وهذا يثبت أن العوامل الاقتصادية لم تكن الوحيدة التي غذت هذا الصعود.
ومن ناحية أخرى، حقق حزب البديل من أجل ألمانيا شعبية كبيرة عندما قرر جعل معاداة الإسلام في قلب استراتيجيته الدعائية، علاوة على أن حكومة كل من المجر وبولندا وجمهورية التشيك، وهي بالمناسبة دول استفادة كثيرا من انضمامها للاتحاد الأوروبي، قد انخرطت في خطاب معادي للقارة الأوروبية وتنصلت من واجبها في مساعدة اليونان وإيطاليا في معالجة قضية اللاجئين. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، لا يمكن لدونالد ترامب أن يساوي بين المسلمين والمهاجرين المكسيكيين، ولكنه لا يتردد في إقحامهما في السياق نفسه عندما يتعلق الأمر بخطابه الترهيبي.
الغرب، الإسلام والعولمة
على مستوى أكثر عمقا، وهو ثقافي أكثر منه اقتصادي، يرتبط الصراع بين الغرب والإسلام بالعولمة في إطار دوامة خطيرة؛ إذ أن العولمة تقربنا أكثر فأكثر من بقية الثقافات المختلفة عنا، ويمكننا أن نعتبر الأمر تجربة مثرية وننخرط في عملية التواصل مع الآخر، ولكن هذا الآخر يمكن أن ينظر لهذه المسألة على أنها مخيفة ومثيرة للريبة.
عموما، أظهر بعض الأشخاص في العالم الإسلامي رفضا قطعيا لكل القيم والأفكار التي شعروا بأنها مفروضة عليهم من قبل الغرب. فعلى سبيل المثال، أبى المواطنون قبول القيم الوافدة فيما يتعلق بالحرية الجنسية، خاصة وأن نشر مثل هذه الأفكار قد تزامن مع قيام طائرات غربية بقصف مدنهم.
ومن ناحية أخرى، وفي العالم الغربي كان المواطنون يرفضون كل الشعائر والرموز التي يعبر من خلالها المسلمون عن هويتهم الذاتية داخل هذا المجتمع الذي يعيشون فيه، وإلا كيف يمكن أن نفسر ردود الفعل الهستيرية التي ينخرط فيها البعض لدى رؤيتهم لامرأة مسلمة ترتدي الحجاب؟ وكيف يمكن لنا أن نفسر توجه المزيد والمزيد من الفتيات المسلمات المتعلمات نحو ارتداء الحجاب تعبيرا منهن عن هويتهن الثقافية؟
في الحقيقة، ساهم كلا الطرفين في تغذية هذه الاختلافات. وقد أدت هذه الظروف لتقوية حاجة الناس لحماية أنفسهم من الآخر، والتراجع إلى الخلف والانكماش فيما يبدو لهم أنه “المنطقة الآمنة”. ومن هذا المنطلق، فإن العولمة وعودة النزعة القومية يعتبران من أبرز الخصوم السياسية في عصرنا الحالي، وهما يعوضان الصراعات التي كانت دائرة بين الأحزاب في القرن العشرين.
العولمة هي النسخة الجديدة من فلسفة التنوير
عند هذه النقطة، يجب علينا أن نعود قليلا إلى الخلف، وبالتحديد إلى القرن الثامن عشر عندما شهد العالم صراعا محتدما بين الأنظمة القديمة وفلاسفة التنوير، إذ أن فلسفة التنوير بحسب الفيلسوف الألماني، إيمانويل كانت، كانت تعني صعود الأفكار المنطقية والكونية، المرفقة بنوع من المساواة في الحقوق. وفي الجانب الآخر، كان النظام القديم يرمز إلى التقاليد وإلى الإيمان الأعمى بالمسلّمات فيما يتعلق بالدين والطبقات الاجتماعية وانعدام المساواة الذي يتم تبريره غالبا بحجج تاريخية.
وفي الوقت الراهن، وبالنسبة للمحافظين فإن القيم التي تبنتها الأنظمة القديمة في ذلك العهد تبدو صالحة لهذا العصر أيضا، ولا يزال من السهل الدفاع عنها. خلافا لذلك، فإن قيم فلسفة التنوير تبدو من وجهة نظر هؤلاء المحافظين كفكر لا تستوعبه ولا تتبناه إلا النخبة المتعلمة. وبالتالي، إن هذا الصراع بين قيم التنوير وقيم النظام القديم هو الذي يشكل الصراعات السياسية التي نشهدها الآن.
في القرون الماضية، عمت أفكار التنوير في كامل أنحاء أوروبا بعد فترة من الزمن، وانتشرت أيضا في أجزاء أخرى من العالم سيطرت فيها الثقافة الأوروبية، وبذلك فازت قيم العلم واقتصاد السوق والحقوق الإنسانية والمدنية الكونية، ولوقت طويل دار الصراع السياسي فقط داخل النخبة المتنورة، بين أنصار اقتصاد السوق الليبيرالي ودعاة دولة الرعاية الاجتماعية.
في المقابل، نجت القيم المحافظة من الاندثار وساهمت عبر الزمن في تشكيل الهوية السياسية لليمين واليسار، فالليبرالية التي أنتجها فكر التنوير كانت مرتبطة بهذه القيم. علاوة على ذلك، كانت هذه القيم المحافظة موجودة وبقوة أيضا عندما قامت الأنظمة الاجتماعية الديمقراطية المنبثقة عن فكر التنوير ببناء دول الرعاية الاجتماعية داخل حدودها القومية فقط.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عاد عصر التجارة الحرة. وفي الوقت ذاته، لم تعد أوروبا تتحكم في مقتضيات العولمة، وإنما أصبحت خاضعة لسلطة الولايات المتحدة الأمريكية
ولكن إذا تعرضت قيم النظام القديم للهجوم، فإن عملية الشيطنة تبدأ في الحال، وهكذا كان الحال في العديد من الدول الأوروبية خلال سنوات العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين. ويمكن أن ينظر للعولمة أيضا على أنها هجوم على هذه القيم وعلى أنها نوع جديد من فلسفة التنوير التي لا تقبل التسويات والحلول الوسط، وهي فلسفة تتجسد في فكرة عقلنة السوق، بطريقة تجعل الأفكار الثقافية والحدود القومية القديمة تفقد أهميتها، ويحل محلها التبادل التجاري الكوني بطرق تتجاوز سبل التجارة التقليدية.
وفي الوقت الحالي، يقف الكثيرون ضد هذه الفلسفة لعل أبرزهم دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وأنصار البريكسيت في بريطانيا، وجميع الحركات المعادية للأجانب التي ظهرت في أوروبا، بالإضافة إلى النزعة الروسية نحو القومية، ورفض عديد المسلمين للقيم الغربية. وبعض هذه الحركات القومية معادية لبعضها البعض، ولكن في خضم هذا الصراع العميق بين نظرتين متناقضتين لطريقة إدارة هذا العالم، فإن جميعها تقف على الجانب نفسه.
عموما، عندما ننظر إلى الصراعات الدائرة حول العولمة على أنها إعادة إحياء للنقاش التاريخي بين فلسفة التنوير والأنظمة القديمة، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل العديد من الظواهر المربكة. وعلى سبيل المثال، نلاحظ أن جزء كبيرا من الناخبين رفض الاستماع للحقائق وصوت الحكمة عندما تعلق الأمر بالتصويت لترامب والتصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى عودة ظاهرة قديمة تتمثل في معاداة العلم والمنطق، حيث أن هذه الأفكار وجدت صدى في أوساط المواطنين المتأثرين بهذه النخب المروجة لها. ولكن الفكر المحافظ الحقيقي لا يدعو لتوفير الأمن عبر إعادة توزيع الثروة، بل عبر رفعه للشعارات والقيم القديمة، والتركيز على قوة الزعماء القوميين. ودعاة هذا الفكر المحافظ في العصر الحالي دائما ما يسعون لشيطنة النخب التي لا توافقهم الرأي، ولكنهم لا يضمرون أي حقد للنخب بشكل عام.
هذا الصراع ينبثق من مشاعر عميقة
في الواقع، سيكون لهذا الصراع عواقب وخيمة، لأنه صراع يمس المشاعر العميقة، إذ أن التعبير عن التعصب القومي كان ظاهرا في المعسكر المحافظ، ولكن عمليات الدعاية والحملات الانتخابية المركزة على العاطفة في بريطانيا والولايات المتحدة، أظهرت أن أنصار فكر التنوير أيضا لديهم نزعة عاطفية، وإذا خسروا الرهان فإنهم سيشعرون بألم كبير على مستوى وعيهم الذاتي ونظرتهم للإنسان المعاصر.
والجدير بالذكر أن جذور هذا الصراع عميقة لدرجة أنه يصعب توقع مستقبل هذه المواجهة، إذ أننا لا نعرف كيف سيكون مصير أكبر وأهم التحالفات الحكومية في عديد الدول، التي تجمع بين الليبراليين الجدد والمحافظين، خاصة وأن كلا الطرفين يساندان موقفان مختلفان في خضم هذا الانقسام الكبير.
في الحقيقة، إن هذا التحالف لن يكون ممكنا إلا إذا قاوم المحافظون الرغبة الملحة في استغلال معاداة الأجانب كما هو الحال في ألمانيا مثلا، أو إذا قبل الليبراليون الجدد هذا الأمر على أنه ضريبة يجب دفعها لعقد تسوية في صالح استراتيجية اقتصاد السوق، التي يدافعون عنها في بريطانيا.
تشترك القيادات السياسية على غرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والمرشحة للانتخابات الرئاسية الفرنسية، مارين لوبان والقيادية بحزب البديل من أجل ألمانيا، فراوكا بيتري، فضلا عن تنظيم الدولة في نقدهم للعولمة
في المقابل، وفي البلدان التي تتمتع فيها الحركات المحافظة والمتشددة بأكثر قوة وشعبية فإن المسألة تبدو أكثر تعقيدا، خاصة في فرنسا ودول شمال أوروبا، إذ أن التكتلات وسط اليمين نفسه تبدو في حالة ضعف في خضم هذه الأزمة.
وهنالك معضلة أخرى بالنسبة للاشتراكيين الديمقراطيين، فخلال صياغتهم لبعض أفكارهم المحافظة، تم تضمين شيئين رئيسيين دون التطرق لهما بشكل صريح: وهما القاعدة القومية التي ينبني عليها فكرهم الوطني، ودفاعهم الصامت عن الطبقة العاملة.
في الوقت الحاضر تهاجم الحركات المعادية للأجانب هاتين القاعدتين من خلال ربط الدفاع عن دولة الرعاية الاجتماعية بالفكر القومي وبطرد المهاجرين. وهذه الحركات تعكس رؤى مختلفة من الفكر الاجتماعي المحافظ. فعلى سبيل المثال تصنف هذه الحركات الناس حسب الجنس، والماضي الإجرامي وحسب السلوك، للتعويض على غياب الرؤية المجتمعية. ولكن الناخبون الجدد المساندون للاشتراكيين الديمقراطيين، خاصة النساء والموظفين والنخبة المتعلمة التي صعدت بعد فترة الاقتصاد الصناعي، بالإضافة إلى دعاة حماية البيئة والمناخ، يرفضون التخلي عن قيم التنوير.
في الماضي، لطالما كانت هنالك تسويات وتنازلات بين فكر التنوير والفكر المحافظ للأنظمة القديمة، وبعض هذه التسويات لا تزال قائمة ويمكن تحليلها وتقييمها. ولكن ما سيحدث الآن في ظل وجود مواجهة جديد بين الجانبين، هو أمر لا يمكن توقعه.
المصدر: تسايت