“بدت ملامح المرأة الجالسة خلف مقود السيارة قاسية وباردة، تنعكس في عينيها الغيوم الرمادية بالخارج، وعندما تصل إلي وجهتها أخيرًا، توقف سيارتها على جانب الطريق، ثم تخرج وتتجه صوب حمار، تصوب مسدسها ناحيته وتطلق 3 رصاصات لترديه قتيلًا ثم تعود إلي سيارتها.”
نحن لا نعرف لماذا فعلت المرأة ذلك؟ بل نحن لن نراها مرة أخرى، ولن يفسر المشهد أبدًا. كما لو أراد المخرج يورغوس لانتيموس أن يهيأنا بهذا المشهد للدخول إلي عالمه الجديد السودواي والقاتم.
لا سعادة في العزلة
ديفيد (كولين فاريل) ينتمي إلى عالم مستقبلي فاسد، لا يختلف كثيرًا عن عوالم برادبري وأورويل الكابوسية، فإن كانت القراءة في عالم فهرنهايت 451 هي فعل ممنوع ويعاقب صاحبه بالحرق، فهنا في عالم لانتيموس نجد أن الوحدة جريمة عقابها المنتظر هي أن تتحول إلى حيوان. هنا الرقابة صارمة ولا يسمح لك أن تكون وحيدًا تمامًا، بل يجعلك ذلك عرضة للتساؤل والتشكك من قبل السلطات.
وديفيد ليس في مأمن من تلك العقوبة وخاصة بعد أن تركته زوجته من أجل رجل آخر. يرسل ديفيد بواسطة السلطات إلى فندق للوحيدين غايته هي أن يعثر على شريك جديد له خلال مدة 45 يومًا وإلا انتهي به الحال إلى حيوان.
“إليك هذه الحقيقة، ستتحول إلى حيوان إذا لم تغرم بأحد أثناء إقامتك هنا” – مديرة الفندق
يترك لديفيد حرية اختيار أي حيوان يريد فيختار (جراد البحر) لأنه – وللغرابة – يعيش أكثر من 100 عام، ولديه دماء زرقاء مثل النبلاء، ويبقي خصبًا طوال حياته.
في هذا العالم الذي يدفعك دفعًا للبحث عن الحب (شريك للحياة) بتلك الصورة الشمولية وفي بيئة مغلقة لابد وأن ينتج عنها تشوه في مفهوم الحب، فما الذي يعني بحق أن تغرم بأحدهن في فترة معينة وإلا فأنت هالك؟ أي حب ينتج عن ذلك؟
تريلر الفيلم
حب مشوه، فالحب لا يحتاج إلى أسباب أو مقدمات، لكنه هنا يأخذ شكل مختلف، فهو مرداف للبحث عن المتشابهات.. هل كلانا يعاني من قصر النظر؟ هل لدينا عرج طفيف متشابه؟ هل كلانا بارد المشاعر ولا نهتم للآخرين؟
هل يمكنني أن أسألك سؤالًا وتجاوبني عليه بصراحة؟ ما الأسوأ.. أن تموت من البرد والجوع في الغابة.. أن تتحول لحيوان سريعًا ما سيقتل أو يؤكل من قبل حيوان أكبر حجمًا أو أن تحظى بنزيف أنف من وقت لأخر؟
بهذا المنطق يبرر أحدهم نفسه أمام ديفيد، فهو لا يريد أن ينتهي به الحال التحول إلى حيوان، وأنه لا بأس بالتحايل، بأن يكون كاذبًا لينجو بنفسه من عقوبة التحول.
وهنا نجد أن الفيلم يتشابه بل يكاد يطابق الواقع كثيرًا، فأن تكون عازبًا لفترة طويلة يضعك تحت طائلة التساؤلات، بل يندفع البعض تحت وطأة الضغوط الاجتماعية والوحدة للرضوخ للمجتمع، أن يتخلى عن وحدته، أن يجمع صالون ما بين فتى وفتاة، وفي جلسة أو اثنتين يبحثان عن المتشابهات فيما بينهما.. يبحثان عن شرارة حب زائفة تجعلهما يعلنان للعالم (نحن معًا!).
ديفيد نفسه يتخلى عن قناعته ويقرر تزييف مشاعره فقط لتفادي مصير التحول إلا أنه يفشل في ذلك إذ أنه لا يمكن بناء العلاقات على الكذب.
جودو الذي جاء متأخرًا
يهرب ديفيد إلى الغابات ليتعثر في مجتمع الوحيدين الفارين، ومعه ننتقل من النقيض إلى النقيض، ومن تطرف الأغلبية والسلطة إلى تطرف الأقلية. ففي ذلك المجتمع الطوباوي المشوه تمجد الفردية، فهنا القوانين واضحة ومباشرة: العلاقات العاطفية ممنوعة، إذا وقعت في مأزق أو فخ فلا تتوقع مساعدة من (وحيد) أخر. وقبل كل شيء سوف تحفر قبرك بنفسك، لأنك لن تجد من يفعل ذلك لأجلك، وإن شعرت بدنو الموت، أذهب إلي قبرك وأدفن نفسك بنفسك.
في هذا الفصل نستأنف الملهاة والكوميديا السوداء، ففي المجتمع الذي ينبذ الحب ويجرمه، يأتي جودو ومعه كيوبيد يلقي بالسهم ويجد ديفيد نفسه واقع في الحب.
ومع ذلك نجد أن ديفيد لا واعيًا يتتبع نفس الطريقة التي أسبغها النظام الشمولي في ماهية الحب، فيسأل حبيبته (راشيل وايز) عن قصر نظرها، ويتابع التحقق من المتشابهات فيما بينهما. بل أنه يشعر بالغيرة حينما يحاول وحيد أخر التودد إليها، بل لا يصدقها ويقرر الذهاب إليه ليتأكد بنفسه من حقيقة أنه ليس قصير النظر أيضًا في إحالة واضحة لتخوفه من تكرار سيناريو زوجته السابقة.
لاحقًا تكتشف قائدة ذلك المجتمع ما حدث، فتقرر معاقبة راشيل بالعمى، وهنا تتهاوى ثقة راشيل، تبدو حياة صعبة أمامها، فهي كديفيد مازالت لم تتخلص من ترسبات القوانين الحاكمة لمجتمعها، فلوهلة ينتابها تشكك بأن ديفيد سيتخلى عنها.
ديفيد نفسه يمر بذات الصراع الداخلى، ويلجأ إلى سؤالها مرارًا وتكرارًا في بحث عن المتشابهات التي تجمعهما، شيء يبقيه معها، لكنه لا يجد شيء حقيقي.
ما الذي يدفعه للبقاء ويجذبه إليها؟ ربما لأنه عرف ولأول مرة الحب الخالص من دون أي تشوهات. في النهاية يدرك ديفيد تلك الحقيقة البسيطة – التي تناسها الجميع أو نزعت منهم-وهي أن الحب لا يحتاج إلى أن نكون متشابهين أو متماثلين.