تريثتُ كثيرًا قبل أن أنسجَ كلماتي لما صدر عن منظمة العفو الدولية لتوثيقات وشهادات ثلاثة عشر ألف سوري من أبناء بلدي سوريا الذين تم سلخُهم بشتّى أنواع الطرق المحدثة لوسائل تعذيب ما كنا نسمع بها إلا في العصر القديم عن بداية البشرية.
لم أجد في قواميس اللغة العربية مفرداتٍ مناسبة لإنصاف حق المقال عن تلك الصور التي تَقشَعِرُ لها الأبدان ويندى لها الجبين، فمن غير المنطق أن يكون ما نتحدث عنه ينطبق على مفهوم الإنسانية في العصر الحديث فكيف يمكن فهم تطور نسق العلم والوصول لتصحيح مساره من نظريات تم إسقاطها وأخرى تم التعديل عليها بأبحاث علمية وتجارب استطاع من خلالها الإنسان أن يسيطر على كامل مظاهر الطبيعة ويُخضعها لخدمة البشرية لتحقق له رغد العيش الكريم، كيف ذلك يحدث وبنفس المسار الصاعد المتطور يوازيه مسارٌ هابطٌ ينقاد إلى هلاك البشرية من قبل طغاة الأرض القاتلة لكل مفاهيم الإنسانية والساعية لجر البشرية نحو عبودية محدثة.
هناك الآلاف من التقارير التي وثقها أبناء الشعب السوري عن جرائم أفظع ارتكبها نظام الأسد ليس تحت الأرض فقط وإنما فوق الأرض على مدار ست سنوات
توقفت كثيرًا عند الشهادات التي حصلت عليها منظمة العفو الدولية ممن كُتب لهم النجاة من المسلخ اللاإنساني، ذاك المكان الظلامي المخصص للذبيحة التي يتم ترويضها قبل تحديد موعد إعداد الوليمة، لتقفز ها هنا ذاكرتي باللاشعور وتستحضر أمام عينيّ قانون الغاب عن مشهد افتراسي لمجموعة أسود تتهيأ للانقضاض على فريستها حصان النهر وتنتظره حتى يخرج من الماء، حينها لا مفر للفريسة عند كثرة الأسود التي استقوت وكشرت أنيابها لينتهي المطاف بالضحية اليتيمة المسلّمة مصيرها لحكم الطبيعة بقانون يقاضي بينهم حسب قانون (البقاء للأقوى).
“لقد كنا ننام فوق أناس يختنقون حتى الموت” هي إحدى الشهادات الموثقة في تقرير العفو وأخرى تتحدث عن صوت طأطأة العظام وهم مساقون فرادا وجماعة لمنصة الموت الحتمي فلا فرق عندي بين الأسد المنقض على فريسته وهذا المشهد والجلاد يتلذذ بسماع الأصوات الصادرة عن تلك الأرواح المحررة من أسوار سجن جُهٍزَ بأجنحة ثلاثية تخيل للناظر لها أنها مقصات حادة ما إن تدور بنقطة مركزها الوسطي حتى تدور معها عجلة الموت لتزهق كل من يعترض رياحها.
نحن هنا لا نتكلم عن رواية خيالية مبتكرة لنيل جائرة أفضل روائي جسد حكايته بفيلم سينمائي قصير، ما إن عُرض على شاشات مستطيلة حتى صفقت له الجماهير الحاضرة لشدة تأثرهم بالألم، فربما هنا يكون مقدار الجائزة بحجم ما استحوذ على الناظرين له من شعور التلذذ بالتعذيب والمعاناة والألم، وما إن ينتهي دور الجمهور ليأتي دور التقييم من قبل لجنة متخصصة وباحثة ومبتكرة للأساليب الحديثة لصناعة الموت وربما تضع ملاحظاتها الإيجابية والسلبية عن الطُرق المستخدمة والمستنبطة لتوليد الألم والأدوات القاتلة التي تخلق شعور الألم داخل الأحشاء الأكثر استشعارًا للألم، فيكون هنا الإبداع بمقدار الألم.
نحن هنا لسنا بصدد الحديث عن رواية خيالية بل إننا نتكلم عن رواية من وحي الواقع في سوريا الأسد، سوريا التي أسسها الأب المقبور على هيئة كل شيء إلا ما شابه الوطن، الوطن الأم هو ما يقطنني وليس ما أقطنه، فكيف السبيل له إذا كان داخل كل سورية منا عتمة زنزانة وصوت الجلاد.
الشعوب الغربية وإن اصطدمت اليوم بواقعنا المعاصر إلا أننا نحن كأبناء القضية سنبقى نعول على ضمائرهم ونوجه خطابنا لهم حتى يدركوا أن نظامنا المجرم ما كان ليبقى يوم واحد في سدة الحكم لولا رؤساء دولهم
سوريا محاطة بكل مدنها بشبكة مبرمجة من سجون موزعة بين المدن والأرياف، فسجن صيدنايا هو الأقل وطأة من باقي السجون المتأهبة دومًا لتنفيذ الاعتقالات وكأنهم كلاب مفترسة أطلقوا لإشباع غرائزهم الحيوانية من حب القتل التعسفي والإبادة الجماعية، سجن صيدنايا ليس الأول ولا الأخير ناهيكم عن السجون السرية تحت الأرض وخارجها في اللاذقية والقلمون ودمشق وحلب مضافة لها أفرع أمنية وجوية ومخابراتية وأجهزة وخلايا جميعها تنشط وتحيا لخدمة الشعب في اعتقالهم ثم قتلهم من أجل الحفاظ على سوريا بيد العائلة الديكتاتورية، من كان يصدق أننا كشعب سوري نعيش وسط هذا السلطان على مدى أربعة عقود ويزيد.
وقد لا تُصدق الشعوب الغربية ما نسطره من أحدث القصص عن سوريتنا المغتصبة وما ينتج عنها بين الحين والآخر من جرائم وتقارير تتصدر وسائل الإعلام الغربي قبل العربي لم تكن لتظهر لولا انطلاق الثورة منذ 2011 والذي أصبح بالنسبة لنا هذا العام هو بداية التاريخ.
الشعوب الغربية وإن اصطدمت اليوم بواقعنا المعاصر إلا أننا نحن كأبناء القضية سنبقى نعول على ضمائرهم ونوجه خطابنا لهم حتى يدركوا أن نظامنا المجرم ما كان ليبقى يوم واحد في سدة الحكم لولا رؤساء دولهم الذين يكذبون عليهم بأنهم حمائم السلام ورعاة الديمقراطية، هذه الخدعة التي تم تخديرهم بها من قبل أنظمتهم المستبدة الراعية للأسد الأب والابن في دمشق.
نقول لهم إن كنتم لا تعلمون ما يفعله نظام الأسد بحق أبناء شعبه من قتل وتعذيب فإن الساسة عندكم يعلمون حتى دبيب النمل في بلدنا المدمر بل ويدعمونه ويحمونه ويمدونه ويدفعونه لسفك المزيد من الدماء وما صدر عن سجن صيدنايا هو غيض من فيض.
“لقد كنا ننام فوق أناس يختنقون حتى الموت” هي إحدى الشهادات الموثقة في تقرير العفو وأخرى تتحدث عن صوت طقطقة العظام وهم مساقون فرادا وجماعة لمنصة الموت
هناك الآلاف من التقارير التي وثقها أبناء الشعب السوري عن جرائم أفظع ارتكبها نظام الأسد ليس تحت الأرض فقط وإنما فوق الأرض على مدار ست سنوات وتم نقلها بشكل مباشر عبر شاشات التلفاز وجميعها موثقة عبر اليوتيوب.
وسنبقى نوثق ونكتب حتى يحق الحق ويزهق الباطل ويحاكم المجرمون الذين عاثوا في الأرض فسادًا وخرابًا وتدميرًا.
نخاطب ضمائركم ونحن واثقون أنكم ستصحون يومًا ما وتنتفضون على حكامكم الخادعين لكم كما نحن خُدعنا لتنالوا حريتكم الحق كما نحن سننال يومًا حريتنا الحق وننهي زمن المسالخ البشرية التي أصبحنا نحن أدواتها بيد صانعي جُدارنها.