قبل 100 عام تحديدًا عام 1917 انتهت أكبر مجاعة ضربت مدينة الموصل بدخول الإنجليز وانسحاب الجيش العثماني منها وبذلك خرجت آخر المدن العراقية من حكم الرجل العجوز الذي حكمها قرابة 4 قرون من الزمن، دخل الإنجليز محملين بالتمور من مدينة البصرة العراقية، في تلك المجاعة وصل الأمر بالناس لأكل الجيف والحجر والشجر، وانتشر الموت بين الأهالي، وبلغت المعاناة مبلغًا كبيرًا جدًا لم يصلنا منها غير بعض الصور من الأرشيف العثماني وصور وأخبار من بعض الجرائد القديمة، ولم توثق بالشكل الكافي ولم يتم كذلك التفاعل معها.
بعد قرن من تلك المجاعة تقترب الموصل من الكارثة مرة ثانية بخطوات ثابتة، فعلى الرغم من كل التطور التكنولوجي تم إهمال المدينة إعلاميًا لتواجه مصيرها وحيدة دون أي بادرة لإغاثة 750 ألف مدني في جانب الموصل الغربي الذي تسيطر عليه داعش.
لكل جانب من جوانب الموصل معاناة خاصة وطريقة مبتكرة يبتدعها الموت في المدينة التي تقدم القربان اليومي من دماء أبنائها من كل الأعمار والأجناس
تنقسم الموصل بفعل نهر دجلة لقسمين الأيمن “الغربي” والأيسر “الشرقي”، ويتقاسم السيطرة على المدينة القوات العراقية وداعش حيث تسيطر القوات العراقية على الجانب الأيسر فيما تزال داعش تحتفظ بالجانب الأيمن أين تقع المدينة القديمة والتي تحتوى على كثافة سكانية كبيرة، بينما تم استرجاع الجانب الأيسر (الموصل الحديثة) بيد القوات العراقية.
لكل جانب من جوانب الموصل معاناة خاصة وطريقة مبتكرة يبتدعها الموت في المدينة التي تقدم القربان اليومي من دماء أبنائها من كل الأعمار والأجناس، والأقسى من ذلك أنها متهمة من الجانبين بأن أهالها مساندون للطرف الآخر، والحقيقة أن المدينة مساندة لحق الحياة المسلوب منها منذ سنوات.
معاناة الجانب الأيمن “مدينة الموصل القديمة”
تتركز معاناة الجانب الأيمن لمدينة الموصل بثلاث نقاط رئيسية أبرزها الجوع الناتج عن منع دخول الطعام والشراب للمدينة من قبل قوات الحشد الشعبي المتمركزة بالجانب الغربي للمدينة، وقتل داعش لكل شخص من الأهالي يحاول عبور دجلة، الأمر الذي جعلهم دروعًا بشرية يستغلها التنظيم بشكل واضح، حيث أعدم إلى الآن ما يقارب 50 شخصًا بسبب محاولتهم عبور دجلة للهرب باتجاه المناطق التي تسيطر عليها القوات العراقية، إضافة لطول فترة الحصار الذي تجاوز الثلاثة أشهر مما جعل المدينة تفقد مخزونها من الطعام والشراب وعدم وجود أي موارد اقتصادية الأمر الذي فاقم الصعوبة على الفقراء.
ويتعمد التنظيم إحداث مجاعة عن طريق منع تجار المدينة من توزيع الطعام والشراب أو المساعدات بشكل مباشر على الأهالي، وقد عاقب بعض المخالفين بالجلد كما حدث مع ثلاثة من تجار المدينة من أهالي منطقة اليرموك غرب الجانب الأيمن.
القصص التي تصل من هناك صعبة جدًا فقد فقدت الموصل عددًا من الأطفال خلال الأسابيع الماضية بسبب عدم وجود حليب الأطفال وهناك طفل في السادسة من العمر فارق الحياة بسبب الجوع بينما أقوم أكتب هذا التقرير
القصص التي تصل من هناك صعبة جدًا فقد فقدت الموصل عددًا من الأطفال خلال الأسابيع الماضية بسبب عدم وجود حليب الأطفال وهناك طفل في السادسة من العمر فارق الحياة بسبب الجوع بينما أكتب هذا التقرير، فيما كان يقول أحد الأقارب في الاتصال الأخير معه إن بعض الرجال لا يستطيعون الوقوف بسبب الجوع، وهناك مخاوف من استمرار الحصار دون بارقة أمل.
فيما يشكل عدم توفر الوقود للطبخ والتدفئة في الشتاء والنقل معاناة كبيرة جدًا، فقد استخدم الأهالي الأخشاب وحتى بعض الأثاث المنزلي والكتب كوقود للتدفئة، وحرق أحد أساتذة جامعة الموصل مكتبته كتابًا بعد الثاني لغرض إعداد الطعام لأطفاله وتدفئتهم، بينما خلت بعض البيوت من أي قطعة خشب أو أي قطعة قابلة للاحتراق بغرض إعداد الخبز.
حال الماء والكهرباء لا يختلف بشكل كبير عن الطعام والوقود، فيما يعتمد الأهالي على مياه الآبار للشرب والاغتسال، ويتجنبون دجلة الذي أصبح منطقة عسكرية تصطف عليها قوات داعش والقوات العراقية كل من الطرف الذي يسيطر عليه، بينما تصل الكهرباء بشكل نادر جدًا ولا تكفي إلا لغرض شحن بطارية الهاتف للبقاء على اتصال مع العالم الخارجي.
أما الوضع العسكري فيعصف بالمدنيين من الأرض عبر داعش بعمليات تهجير للأهالي وسيطرة على البيوت على طرف نهر دجلة والجهة الشمالية الغربية، حيث هجرت داعش ما لا يقل عن 400 بيت في عموم الساحل الأيمن، فيما قصفت طائرات التحالف الشوارع الرئيسية، لتوقف حركة سير المركبات، وأقدمت على أكثر من مجزرة لم يسمع العالم بها بسبب انقطاع التغطية عن الجانب الأيمن التي فرضت بشكل قسري من تنظيم داعش.
هذه الأسباب مجتمعة تجعل المدنيين يعيشون أسوأ وضع مر على مدينة الموصل منذ أكثر من قرن من الزمن.
المعاناة في جانب الموصل الأيسر “المدينة الحدثية”
لم يمنع تحرير الأرض من استمرار معاناة الأهالي بالجانب الأيسر لمدينة الموصل، فمع بداية الجهود لإعادة الحياة فيها عبر مبادرات شبابية داخلية وتسارع عملية عودة الحياة في الشق المحرر، ظهرت تقنية جديدة لداعش عبر الطائرات المسيرة التي تم تطويرها بشكل يسمح لها بإلقاء قذائف صغيرة ناجحة في استهداف وقتل الأفراد، فتم استهداف كل وجوه الحياة في المدينة فسقط القتلى على أبواب المساجد وفي ساحات المدارس والشوارع ولم تسلم حتى الأسواق والمطاعم.
إضافة للقصف الصاروخي من الجانب الأيمن الذي لم يتوقف منذ بداية سيطرة القوات العراقية على أول منطقة في الجانب الأيسر، مما دفع عدد من أهالي ووجهاء المدينة للمطالبة بوقف المدراس وحتى صلاة الجماعة لحين ترتيب الوضع الأمني وهذا ما حدث.
لم تتوقف ماكينة القتل إلى هنا، فقد استخدمت داعش سلاحها التاريخي “الانتحاريين” لتضرب عددًا من نقاط الحياة الحيوية كما حدث في مطعم دورة سيدتي الجميلة في قلب الموصل ليرسل رسالة واضحة للجميع مفادها “لا يهمني ما تفكرون به ولا تبرير هذه الأعمال، ما يهمني هو الحفاظ على جمهورية الخوف”.
تحرير مكلف أفقد الجانب الأيسر 80% من بنيته التحتية وجعل الخدمات الأساسية حلم يراود الأهالي، فما زالت مشكلة الكهرباء والماء والوقود مستمرة وسط ضعف واضح جدًا ووعود ستطول في ملف إعادة إعمار مدينة الموصل
فيما خلق الانفلات الأمني ووجود حشود متباينة الرؤية بشأن إدارة المدينة حالة من الفوضى، حيث سجلت عمليات سرقة وسطو مسلح متعددة، كما أن عدم وجود مرجعية أمنية عليا واضحة يتم العودة إليها أدى لزيادة خلط الأوراق وحدوث حالات خطف داخل المدينة على يد مليشيات منفلتة اعترف رئيس الوزراء بحدوثها.
كل هذا يعقد المشهد في الجانب الأيسر، ويجعل عملية الإعمار وإعادة الحياة للمدينة أمر ليس بالسهل ولا القريب وستستمر المدينة بتقديم القرابين للموت ويبدو أنه بشهية منفتحة وأن قلعة الموصل ستغرق بالدم ما لم يتم إكمال التحرير ووضع خطة حقيقية لما بعد التحرير للعبور بالمدينة لحالة من الاستقرار الذي سيسمح بعودة الحياة وانطلاق عجلة إعادة البناء وتشييد ثاني أكبر مدن العراق التي فقدت الكثير من البشر والحجر.
لمشاهدة الجزء الأول من السلسلة اضغط هنا