أحد الحكام الظلمة أمر باعتقال مواطن وحبسه انفراديًا في زنزانة مساحتها ثلاثة أمتار مربعة دون أي سبب، فغضب المواطن وظل يركل باب زنزانته ويصرخ: “أنا بريء، لماذا تم اعتقالي وإيداعي السجن”، ولأنه تجرأ ورفع صوته قائلًا “أنا بريء” وأحدث بعض الضجيج، أتت الأوامر بنقله إلى زنزانة مساحتها متر مربع فقط، فعاود صراخه، لكن هذه المرة لم يقُل أنا بريء وإنما قال: “حرام تسجنونني في زنزانة لا يمكنني النوم فيها إلا جالسًا”!
صراخ المواطن مرةً أخرى أزعج سجانه، فأمر الأخير بإدخال تسعة سجناء آخرين معه في نفس الزنزانة، ولأن الوضع أصبح غير محتمل، نادى المساجين العشر مستغيثين: “هذا الأمر غير مقبول، كيف لعشرة أشخاص أن يُحْشروا في زنزانةٍ مساحتها متر مربع واحد؟ هكذا سنختنق ونموت، أرجوكم انقلوا خمسة منا على الأقل إلى زنزانةٍ أخرى”، فما كان من السجان الذي غضب منهم كثيرًا بسبب صوتهم المرتفع، إلا أن أمر بإدخال خنزير في زنزانتهم وتركه يعيش بينهم.
جُن جنون هؤلاء المساكين وأخذوا يرددون: “كيف سنعيش مع هذا الحيوان القذر في زنزانة واحدة، شكله مقزز، ورائحة فضلاته التي ملأت المكان تكاد تقتلنا، أرجوكم لا نريد سوى إخراجه من هنا”، فأمر الحاكم السجان بإخراج الخنزير وتنظيف الزنزانة لهم، وبعد أيام، مر عليهم وسألهم عن أحوالهم، فقالوا: “حمدًا لله، لقد انتهت جميع مشاكلنا”!
هكذا تحولت القضية إلى المطالبة بإخراج الخنزير من السجن فقط، ونُسيت قضية مساحة السجن والقضية التي قبلها والتي قبلها والتي قبلها، حتى القضية الرئيسية الأولى وهي “سجن المواطن الأول ظلمًا” لم يعد أحد يتذكرها، بمن فيهم أنت عزيزي القارئ، وهذه هي “نظرية الخنزير” باختصار.
قصة السجين والخنزير تتطابق تمامًا مع السيناريو الذي تعايشه الشعوب العربية منذ عقود طويلة، فهذه النظرية جزء أصيل من سياسة إلهاء الشعوب التي تطبقها الأنظمة الديكتاتورية من أجل سلب إرادة المواطنين وإشغالهم عن قضاياهم الرئيسية بمطالب ثانوية
القصة تتطابق تمامًا مع السيناريو الذي تعايشه الشعوب العربية منذ عقود طويلة، فهذه النظرية جزء أصيل من سياسة إلهاء الشعوب التي تطبقها الأنظمة الديكتاتورية من أجل سلب إرادة المواطنين وإشغالهم عن قضاياهم الرئيسية بمطالب ثانوية، والمؤسف أن هذه السياسة حققت نجاحًا لافتًا في بلداننا، لدرجة أن المواطن العربي أصبح يتعايش مع الفساد والفقر والواسطة وتردي الخدمات وكأنها أصل، أما النزاهة وصيانة المال العام وتحسين الخدمات أضحت أقرب إلى الشذوذ.
ويتصدر لهذه المهمة “القذرة” إعلام السلطة والإعلام القريب منها، حيث يسعى جاهدًا إلى التعتيم على الأمور التي لطالما حلم بها المواطن العربي، كمكافحة الفساد وإيقاف الهدر المالي وتحقيق العدالة الاجتماعية، وغيرها من الأشياء التي تُعتبر من المُسلمات في الدول التي تحترم مواطنيها، وفي المقابل يعمل بين فترة وأخرى على إبراز قضايا هامشية وتافهة لينشغل بها الناس، وحين تؤتي أُكُلها وتستنفد أغراضها، يستبدلها بقضايا هامشية جديدة، وهكذا.
وحسب الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي، فإن وسائل السيطرة على الشعوب تتضمن معاملة الشعوب بوصفهم أطفال واستثارة عاطفتهم بدلًا من فكرهم، لتعطيل التحليل المنطقي والحس النقدي، وإبقائهم في حالة جهل وحماقة، وتشجيعهم على استحسان الرداءة وتبني استراتيجية التأجيل والتسويف والاعتياد على الحاضر وأخطائه باعتبار أن الأفضل سيأتي في الغد، وتعويض التمرد والثورة على الواقع الـمُر بخلق إحساس وهمي بالذنب تجاه الذات، أي جعل الفرد يظن أنه المسؤول عن تعاسته بسبب نقصٍ في ذكائه وقدراته، وبدلًا من أن يثور على النظام، يثور على نفسه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن سياسة “إلهاء الشعوب” قديمة، وفي التاريخ الحديث تبناها الزعيم النازي أدولف هتلر صاحب المقولة الشهيرة: “إذا أردت السيطرة على الناس أخبرهم أنهم معرضون للخطر، وحذرهم من أن أمنهم تحت التهديد، ثم شكك في وطنية معارضيك”، وسارت على نهجه الأنظمة الديكتاتورية من بعده، ومهما تغيرت الأسماء والأماكن يبقى الهدف الأوحد لها هو البقاء في الحكم، لذلك تنبه جيدًا، ولا تسمح للخنزير أن يُلهيك ويُنسيك قضيتك الأساسية!