“الغاية تبرر الوسيلة” لم يتوقع البعض أن تلك المقولة التي قالها الفيلسوف الإيطالي نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلّي نهاية خمسينيات القرن السادس الميلادي ستصبح فيما بعد النظرية المؤسسة لعلم الواقعية السياسية الذي يعتمد في المقام الأول على مبدأ النفعية.
زيارة المرشح الأوفر حظًا في الانتخابات الفرنسية، إيمانويل ماكرون، للجزائر، أمس الإثنين، والتي التقى خلالها عددًا من المسؤولين والوزراء الجزائريين، تجسد بصورة كبيرة هذا المعتقد السياسي النفعي، فبعيدًا عن الأسباب المعلنة لهذه الزيارة من تقوية العلاقات الفرنسية الجزائرية، إلا أن الكثير من التلميحات تشير إلى أن أصوات الفرنسيين من أصول جزائرية هي الدافع الأول لتلك الزيارة.
الزيارة الثالثة من نوعها
البرنامج المعد للمرشح الفرنسي يعكس بصورة كبيرة تركيزه على القضايا المحورية التي تهم الجزائريين في الداخل والخارج، حيث التقى في اليوم الأول لزيارته التي تستغرق يومين، وزير الصناعة عبد السلام بوشوارب، ثم وزير الخارجية رمطان لعمامرة، مختتمًا بلقاء ممثل عن رئيس الوزراء عبد المالك سلال بقصر الحكومة.
أما ثاني أيام زيارته اليوم الثلاثاء فمقرر له أن يلتقي وزير الشؤون الدينية محمد عيسى، ووزيرة التعليم نورية بن غبريط، إلى جانب علي حداد رئيس منتدى رؤساء المؤسسات، وهو أكبر تنظيم لرجال الأعمال في الجزائر موالٍ للنظام الحاكم بالبلاد.
زيارة ماكرون للجزائر ليست الأولى للمرشحين الفرنسيين، فهي تعد الثالثة خلال الأسابيع القليلة الماضية، وذلك بعد زيارة آلان جوبيه (يمين)، وأرنولد مونتبرغ (يسار) اللذين أُقصيا في الانتخابات التمهيدية.
تقلد ماكرون حقيبة وزارة الاقتصاد الفرنسية خلال (2014-2016)، ثم تحول إلى ظاهرة سياسية منذ استقالته من منصبه الوزاري في شهر أغسطس 2016 ليؤسس حركة “إلى الأمام، وتصفه وسائل إعلام فرنسية بـ”النجم الصاعد” في السياسة الفرنسية، كما أنه ووفق مراقبين يمثل تيارًا وسطًا بين اليمين واليسار في فرنسا.
أما عن نظرة الأحزاب السياسية له، فيصفه اليمينيون بـ”العميل”، ويرون فيه المنافس الأشرس والذي يمكن أن يشكل عقبة أمام وصول فرانسوا فيون إلى سدة الحكم، بينما اليساريون يلقبونه بـ”بروتوس جديد”، ذلك السياسي الفيلسوف الذي شارك في قتل الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر عام 44 قبل الميلاد، رغم أنه هو الذي صقل مسيرته ومنحه كل النعم والخيرات حتى إن فرانسوا أولاند لمح إليه سابقًا بأنه “خان” ثقته فيه.
الرئيس الفرنسي أولاند ونظيره الجزائري بوتفليقة
ما الهدف من الزيارة؟
“من البديهي أن أقوم بهذه الزيارة بالنظر إلى دور الجزائر في تاريخنا وفي بلادنا وفي مستقبلنا وفي مستقبل المغرب العربي، وهذه الزيارة أمر لا غنى عنه في أثناء حملة انتخابية رئاسية فرنسية” بهذه الكلمات استهل إيمانويل ماكرون حديثه عن أسباب ودوافع زيارته للجزائر.
ماكرون في حوار له مع صحيفة “الخبر” الجزائرية أشار إلى أن زيارته للجزائر ضرورية “لندرك في كل لحظة حجم ثقل الماضي ولاعتماد خطاب تفاهمي بشأن أهمية المستقبل”، وبسؤاله عن الماضي المؤلم بين البلدين دعا إلى ضرورة “التجاوز من أجل بناء مستقبل”.
كما أشار إلى مجالات التعاون المشترك المحتملة بين البلدين، حيث لفت إلى العديد من محاور التنمية الاستراتيجية، بينها تعزيز التعاون في المستويين الدبلوماسي والأمني، خصوصًا في ليبيا من جهة، ومالي من جهة أخرى، مبديًا رغبة بلاده في مساعدة الجزائر في تنويع مصادر اقتصادها، وتابع “نحن هنا في أول بلد في العالم على مستوى القدرات الكامنة في مجال الطاقة الشمسية، لدينا إرادة في أن تتزعم فرنسا العالم في هذه التكنولوجيات وهذه الفترة الانتقالية في مجال الطاقة”.
زيارة ماكرون للجزائر ليست الأولى للمرشحين الفرنسيين، فهي تعد الثالثة خلال الأسابيع القليلة الماضية، وذلك بعد زيارة آلان جوبيه (يمين)، وأرنولد مونتبرغ (يسار) اللذين أُقصيا في الانتخابات التمهيدية.
ماذا عن الكتلة التصويتية للجزائريين؟
تحتل الجالية الجزائرية المرتبة الأولى بين الجاليات المقيمة في فرنسا خلال السنوات العشرة الأخيرة، ففي تقرير صادر عن المعهد الوطني للإحصائيات والدراسات الاقتصادية “إ. نسي” في 2015، كشف أن عدد المهاجرين الجزائريين المقيمين في فرنسا بلغ 5.5 مليون شخص، منهم 460 ألف في العاصمة باريس.
أما عن الجزائريين المجنسين بجنسية فرنسية، ولهم حق المشاركة في الانتخابات الرئاسية القادمة، تمتلك الجزائر كتلة تصويتية كبيرة، فبحسب الأرقام الصادرة عن سفير الجزائر السابق في واشنطن عمار بن جامع، عام 2016 ، فإن هناك أكثر من مليون فرنسي من أصل جزائري لهم القدرة على تغيير الخارطة الانتخابية برمتها وترجيح كفة مرشح في مواجهة آخرين، حال إعلانهم تأييد هذا أو ذاك، ومن ثم فإن زيارة ماكرون – وبحسب خبراء – لا تخرج عن كونها محاولة لكسب تأييد أصوات الكتلة الجزائرية في فرنسا خلال الانتخابات المقبلة.
صراع ساخن نحو الإليزيه
الطريق نحو قصر الإليزيه ليس ممهدًا بالطبع، وهو ما ينبئ بمواجهات ساخنة قد تصل في بعضها إلى حد الصدام بين المرشحين لخوض الانتخابات الرئاسية الفرنسية المزمع إجراء مرحلتها الأولى في الأول من أبريل القادم، بينما تأتي المرحلة الثانية بعد شهر واحد من المرحلة الأولى.
ثلاث شخصيات – خلاف إيمانويل ماكرون – فرضت نفسها على بورصة الترشيحات لخلافة فرانسوا أولاند، تتنوع فيما بينها من حيث التوجهات، ما بين اليمين واليسار والوسط، وهو ما أضفى نوعًا من السخونة على هذه الانتخابات التي قد تمثل تحديًا كبيرًا للتيار المعتدل الوسطي داخل فرنسا، خاصة بعد التهديدات التي فرضها صعود اليمين المتطرف في بعض دول أوروبا الأخرى أو في الولايات المتحدة الأمريكية.
فرانسوا فيون: رئيس الوزراء السابق في حكومة نيكولا ساركوزي، دخل عام 2016 سباق الانتخابات التمهيدية لليمين الفرنسي لتحديد مرشح هذا التيار للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وفاز بها بنسبة مريحة، يمتلك – وفق ما أعلنه – مشروعًا ليبراليًا على الصعيد الاقتصادي يعتمد على سياسة التقشف وإعادة الهيكلة، حيث تعهد بإلغاء نحو نصف مليون وظيفة وخفض المساعدات الاجتماعية وتقليص النفقات الحكومية، كما تعهد برفع القيود عن الاقتصاد الفرنسي.
ماريان لوبان: وهي نجلة الزعيم اليميني المتطرف جون ماري لوبان، مرشحة حزب الجبهة الوطنية، وتمثل تيار اليمين المتشدد بصورة كبيرة، وهو ما أثار الجدل حيالها، خاصة أنها تعتمد في برنامجها الانتخابي على محورين خطيرين: الأول وهو منع الهجرة لبلادها، إلا أنها في كثير من المواقف أكدت أنها لا ترفض الهجرة كظاهرة، وأن المهاجرين مرحب بهم بشرط الاندماج في الثقافة الفرنسية، الثاني هو التحذير مما أسمته “خطر” الإسلام، حيث أشارت أنه يهدد الثقافة الفرنسية ولا بد من إعادة النظر في آليات التعامل معه.
مانويل فالس: ينتمي إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي، وممثل التيار اليساري في الانتخابات القادمة، تقلد عددًا من الوظائف الرسمية في فرنسا، بدءًا من عمدة إيفري لمدة عشر سنوات، مرورًا بمنصب وزير الداخلية منذ 16 من مايو 2012 حتى 2014، وصولاً إلى تعيينه رئيسًا للوزراء في عهد أولاند.
فالس في كلمة له بمدينة إيفري جنوب باريس، وجه دعوة للفرنسيين واليسار إلى توحيد الصفوف في مواجهة اليمين المتطرف، محذرًا من العواقب الناجمة حال فوز ماريان لوبان، والتي من أبرزها خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي كما فعلت بريطانيا.
منافسة شرسة بين المرشحين لخلافة أولاند
حالة من التناقض
حالة من التناقض تفرض نفسها على توجهات وسلوكيات مرشحي الانتخابات الرئاسية في فرنسا لا سيما فيما يتعلق بقضية الهجرة، ففي الوقت الذي يتسابق فيه المرشحون لكسب أصوات اللاجئين هنا وهناك، مؤكدين دعمهم لهجرة مواطني هذه الدول لفرنسا، والترحيب بهم، إذ بتصريحاتهم السابقة ومواقف بلدهم الرسمية، تكشف تلك الازدواجية.
رئيس الوزراء الفرنسي خلال القمة الأوروبية التي عقدت في بروكسيل العام الماضي أكد على ضرورة إعادة النظر في سياسة استقبال بلاده للمهاجرين واللاجئين، منوهًا أن فرنسا لن تستقبل سوى عدد قليل جدًا من اللاجئين مقارنة بنظيراتها من دول الاتحاد الأوروبي وهو ما أثار حفيظة البعض حينها.
الرفض الفرنسي للاجئين لم يقتصر على الجهات التنفيذية الرسمية فحسب، بل تعدى إلى أن بات رغبة جماهيرية لدى البعض، وهو ما جسدته التظاهرات التي خرجت أكتوبر الماضي في بعض مناطق فرنسية عدة تطالب برفض استقبال المزيد من اللاجئين والمهاجرين، وضرورة طردهم وإعادتهم إلى بلدانهم مرة أخرى.