ترجمة وتحرير نون بوست
مهدت أزمة الصحافة الطريق لظهور العديد من المواقع الإلكترونية التي تفتعل أخبار زائفة وتقدمها لجمهور متعطش لتغذية تحيزه وأفكاره المسبقة. في حقيقة الأمر، فقد الصحفيون جوهر عملهم؛ إلى درجة أن المعلومات الزائفة والإشاعات، أصبحت أكثر أهمية من الحقيقة المثبتة. وفي هذا الإطار، يمكننا الحديث عن مواقع إلكترونية “مكافحة” مثل شبكة “فوكس نيوز” الإخبارية التي لا تبحث عن نقل الأحداث وإنما تسعى لتوفير مادة إعلامية مثيرة للجدل، سواء كانت صحيحة أم كاذبة؛ لجمهور يتطلع لدعم أحكامه المسبقة.
ونتيجة لذلك، نشأت وترعرعت من صلب الأوساط اللامبالية والمتجاهلة للواقع، شبكات للتحريض وإثارة الجدل على غرار صحيفة برايبارت الأمريكية، التي تأسست على يد المؤمن “بسيادة البيض”، ستيف بانون، الذي يعد كبير مستشاري الرئيس الأمريكي الجديد، دونالد ترامب.
ومن جهة أخرى، يخضع الصحفيون في الوقت الراهن، لسيطرة دكتاتورية “المواضيع المتداولة”، بالإضافة إلى العديد من التأثيرات وفترة “الذروة” الإعلامية للخبر. ونتيجة لذلك، ضاع الهدف الرئيسي للصحافة وأصبح مفقودا؛ الذي كان يتمحور أساسا حول سرد وقائع تشرح العوالم المعقدة.
عموما، إن وصف الركود الاقتصادي الذي عرفه العالم سنة 2008، بأنه السبب الأساسي وراء كل المصائب ومنبع كل الشرور، ما هو إلا وصف من قبيل التبسيط. وتجدر الإشارة إلى أن الأزمة الاقتصادية قد استُغلت بشكل أو بآخر لطرد الصحفيين بهدف تقليص مصاريف الأخبار، بالإضافة إلى تجريدها من قيمها الأخلاقية وجودتها.
لا يمكن اعتبار وسائل التواصل الاجتماعي بمثابة بديل كاف ودائم، على الرغم من أنها ساهمت في إيصال أصوات الكثيرين وتقويض احتكار وسائل الاعلام التقليدية لمجال الاعلام
ومن الجلي أن مسؤولية نزع السلاح الأخلاقي للصحافة المهنية، التي تم إضعافها في وجه دونالد ترامب وقادة آخرين مشابهين له؛ ذنب تتحمله وسائل الإعلام في حد ذاتها. ولعل أبرز شاهد على تواطؤ وسائل الإعلام هو استبدالها للمصداقية بالطاعة والخضوع إلى المساهمين والشركاء.
الولادة الفجائية لظاهرة ترامب
في الواقع، يعتبر بروز “ظاهرة ترامب” بمثابة مفاجأة للجميع وإعلانا عن ميلاد كل ما هو مصطنع ومبتذل؛ شأنها شأن حدث انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو ما سيحدث في فرنسا في شهر أيار/ مايو القادم.
في الحقيقة، يمكن القول إن الإعلام قد فشل في جس نبض الشارع ومشاعره نظرا لأنه خير البقاء في منأى عنه. وبهذه الطريقة، أصبح المجتمع الذي يتحكم فيه الإعلام، جزءً من تكتل القوى ودفاعهم عن مصالحهم. وعلى الرغم من أن هذه الحقيقة ليست صائبة في جميع الحالات، إلا أن الجمهور والمواطنين عامة، يضعون كل وسائل الإعلام في كفة واحدة.
ومن هذا المنطلق، فقد المواطنون ثقتهم في وسائل الإعلام، خاصة في المواقف الحساسة، التي يحتاج خلالها المواطن إلى الصحافة الدقيقة والصادقة، التي من شأنها أن تساعد الشعوب على الدفاع عن حقوقهم أمام الحكومات الاستبدادية، التي تهدد جوهر الديمقراطية.
وهنا، يمكن الحديث عن دونالد ترامب، وعن هفوات القوانين واستراتيجية التحيل. أما في فرنسا، فيمكن الحديث عن قوانين الطوارئ، التي تكبل العمل الصحفي.
في الوقت الر اهن، يشهد العالم نوعا من التراجع في حرية التعبير. وقد خلف ذلك حالة من الخوف؛ الخوف من فقدان وظيفة، أو أن يزج بأحدهم في السجن بسبب تغريدة على موقع التويتر.
وقائع أو حقائق بديلة
في شهر حزيران/ يونيو، أعلن الرئيس الأمريكي تمرده وصرح أنه “بإمكانه إطلاق النار على الناس في الجادة الخامسة في نيويورك الأمريكية، دون أن يخسر سباق التصويت لصالحه”. وبمرور الوقت، اكتشف العالم أنه كان محقا؛ إذ أصبح ترامب أول رئيس أمريكي يرفض الكشف عن دخله. وعلى الرغم من أنه لا يمكن اعتبار هذه الممارسات “إطلاق نار”، لكنها تعتبر إهانة في حق جميع المواطنين.
يمكن القول إن الإعلام قد فشل في جس نبض الشارع ومشاعره نظرا لأنه خير البقاء في منأى عنه
من جانب آخر، وجهت مستشارة الاتصالات في فريق ترامب، كيليان كونواي، العديد من الاتهامات للصحافة إثر حديثها عن “الحقائق البديلة”. والجدير بالذكر أن كيليان كونواي، قد ابتكرت حادثة مذبحة بولينج جرين التي وقعت سنة 2011 في كنتاكي، بغية الدفاع عن قرار ترامب، المتعلق بحظر دخول سبعة بلدان من ذوي الأغلبية المسلمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. والمشكلة الأساسية هنا أن ناخبي ترامب والمجتمع المقسم، قليل القراءة وقليل الحماس، أصبح لا يبالي بشيء. ومن جهتها، وصفت صحيفة ّ”ذي إيكونوميست” هذه الظاهرة “بعصر ما بعد الحقيقة”. وتجدر الإشارة إلى أنه ليس من الغريب أن يتفوه القادة في العالم بالأكاذيب؛ ولكن المفاجئ أن المواطنين أصبح لا يهتم بالحقيقة.
من اللافت للانتباه أن ترامب يعي جيدا المميزات التي تتمتع بهم كونواي التي تعرف بذكائها وخبرتها، خاصة عندما يتهجم على الصحفيين والممثلين والقضاة. فضلا عن ذلك، ومن وراء الستار، يبدو أن مستشارة اتصالات ترامب ناجحة للغاية في عملها. ولعل أفضل دليل على ذلك، أن 50 بالمائة من الناخبين الجمهوريين يعتقدون أن ترامب تمكن من الفوز على المرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، على الرغم من خسارة حوالي ثلاثة ملايين صوت، بفضل جهودها وتفانيها في خدمته.
ومن المرجح أن يحكم ترامب البيت الأبيض لثماني سنوات كاملة في حال نجح في فرض خطابه الاستبدادي والمتغطرس، وبالتالي، سيصبح الضرر المعنوي الذي سينجر عن سياسيات هذا الأخير وتصريحاته غير قابل للاحتواء.
من جهة أخرى، ساهم ترامب في تقويض الصحافة المتضررة، في حين تمكنت فقط بعض الوسائل الكبرى، على غرار ” نيويورك تايمز” أو “واشنطن بوست”، من البقاء على قيد الحياة. لكن، لا زال خطر الاندثار قائما، في حال أهملت هذه الوسائل التحدي الكبير الذي تواجهه والهدف الحقيقي من وراء عملها.
ولسائل أن يسأل، في الوقت الذي نشرت فيه العديد من القصص الإنسانية حول المتضررين من “قرار ترامب المعادي للمهاجرين”؛ هل وصلت هذه القصص إلى عدد كبير من الجمهور؟ هل غيرت نظرة الأغلبية؟
شبكات التواصل الاجتماعي، ليست بوسائل بديلة
إلى حد الآن، لا يمكن اعتبار وسائل التواصل الاجتماعي بمثابة بديل كاف ودائم، على الرغم من أنها ساهمت في إيصال أصوات الكثيرين وتقويض احتكار وسائل الاعلام التقليدية لمجال الاعلام.
إن الحقيقة هي التي تنتصر في نهاية المطاف. وعلى الرغم من تدفق العديد من القصص الرائعة على شبكة الانترنت، إلا أن الكثير منها لا يلاقى اهتماما كبيرا من قبل القراء. وقد دافع رئيس تحرير صحيفة “النيويوركر” عن هذه الفكرة بشراسة، علما وأن هذه المجلة المرجعية تعتبر من أبرز المنصات الإعلامية المقاومة لترامب.
مهدت أزمة الصحافة الطريق لظهور العديد من المواقع الإلكترونية التي تفتعل أخبار زائفة وتقدمها لجمهور متعطش لتغذية تحيزه وأفكاره المسبقة
من جهة أخرى، كانت في السابق أكشاك مرموقة تختار المهم من السطحي من بين الصحف، إلا أن العديد منها قد تخلت عن وظيفتها، بسبب المعلومات المقلدة والمتداولة في كل مكان.
في الواقع، قد تكون الصحافة البديلة أقل ثمنا، لكنها تقتل روح وعمق الصحافة. ويمكن القول هنا، إن المصداقية تبنى لبنة إثر لبنة على مر السنين، إلا أنها يمكن أن تتهاوى في دقيقة واحدة.
وبغض النظر عن كل هذه المعطيات، فإن هناك العديد من الأطراف التي قد أعلنت عن تصديها لسياسة ترامب على غرار البعض من وسائل الإعلام الصادقة والمظاهرات وتحركات المقاومة وتزايد التبرعات للمنظمات المدافعة عن الحقوق المدنية. علاوة على ذلك، تتجلى روح المقاومة أيضا في البرامج الكوميدية، مثل برنامج ساترداي نايت لايف. في المقابل، أوضح رئيس تحرير صحيفة “ذي نيو ريبابليك”، أن “الفكاهة لا يمكن أن تطيح بترامب… فقد ساعدت النكات ترامب على الفوز بالرئاسة. أما الآن، فربما تساعد المعارضة على البقاء على قيد الحياة”.
المصدر: البيريوديكو