تناقضت وتعددت الآراء بشأن قضية اعتقال القيادي البارز “أبو ماريا القحطاني”، من طرف هيئة تحرير الشام، وتصدر الحدث الواجهات اﻹعلامية للصحف والمواقع اﻹخبارية الكبرى، نظرًا لمكانته الرفيعة في صفوف الهيئة ودوره البارز في محاربة تنظيم الدولة “داعش”، ولا يزال الغموض يخيم على قضيته منذ إعلان القبض عليه وتجميد صلاحيته وفقًا لبيان رسمي صدر عن تحرير الشام في 4 أغسطس/آب الماضي.
ورغم أن تحرير الشام لم تتبن بداية خبر اعتقال القحطاني عبر إعلامها الرديف، فإن انكشاف القضية أتى في أعقاب إعلان جهاز الأمن العام التابع لـ”هيئة تحرير الشام” ضبط خلية جاسوسية في صفوفها تعمل لصالح جهات معادية (التحالف الدولي ومخابرات روسية ومخابرات إيرانية والموساد ومخابرات النظام)، دفع بها إلى إخراج بيان رسمي، جمدت بموجبه صلاحياته واتهمته بالعمالة وسوء اتصالاته، رغم توصيفه بـ”اﻷخ”!
على عكس تلك التصريحات، انقسم المتابعون بين من يؤكد تورط القحطاني، ومن يشير إلى أن دوافع أخرى خلف عملية اﻻعتقال، أتت على خلفية مساعيه في الانقلاب على زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني وتوليه منصبه، ومن ثم عزله أو إنهاء مهامه.
ما القصة؟
في مطلع شهر يوليو/تموز الماضي، تسربت معلومات في منطقة إدلب، أن جهاز الأمن العام التابع لـ”هيئة تحرير الشام” اعتقل المئات من عناصره، بينهم قادة عسكريون بتهمة التخابر مع التحالف الدولي وروسيا ونظام الأسد، بيّد أن تحرير الشام تحفظت على الرد على تلك الأنباء.
وبعد أيام قليلة من انتشار أنباء اعتقال العملاء، انتشرت حواجز مكثفة ثابتة وغير ثابتة (حواجز طيارة) لجهاز الأمن العام على امتداد محافظة إدلب، واستنفار أمني مكثف وتشديد على جميع الحواجز ومداخل المدن والبلدات.
واستمرت هذه الأحداث، وفقًا لما رصده “نون بوست” حتى 25 يوليو/تموز الفائت، إذ خرج وقتئذٍ المتحدث باسم جهاز الأمن العام في هيئة تحرير الشام، ضياء العمر، في بيان مصور نشرته وكالات رديفة للهيئة”، وأكد ضبط خلية عمالة وجواسيس في صفوف “الهيئة” وتعمل لصالح جهات خارجية، لافتًا إلى أن اعتقالهم جاء بعد مراقبة استمرت أكثر من ستة أشهر، وفق قوله.
العمر أكد في البيان وقتها أن غالبية أعضاء الخلية هم عناصر لم يمضِ على انضمامهم وقت طويل في صفوف هيئة تحرير الشام، وأن الاعترافات أو التحقيقات الأوليّة لهم أثبتت أنهم جُندوا لأجهزة مخابرات تابعة لجهات لم يسمها.
وفي 30 يوليو/تموز، خرج ضياء العمر وأكد أيضًا أن خلية العملاء التي تم اعتقالها هم عناصر في صفوف الهيئة، منهم شخصيات مدنية ومنهم يعملون في فصائل عسكرية.
وذكر العمر أن المتورطين يتعاملون مع المخابرات الروسية وأفرع النظام، ويتلقون الأوامر بشكل مباشر منهم، وبعضهم لديه تواصل مع جهات خارجية (لم يسمِّها)، لافتًا إلى أن التحقيق لا يزال مستمرًا.
وبعد قرابة 18 يومًا على صدور البيان آنف الذكر – الذي كشف عن العمالة والاختراق داخل تحرير الشام – وفي 17 أغسطس/آب تحديدًا صدر بيان آخر نص على تجميد صلاحيات ومهام أبو ماريا القحطاني، بسبب ما وصفته بخطئه في إدارة تواصلاته دون اعتبار لحساسية موقعه، لافتةً إلى أنه تم إحالته للقضاء لمساءلته.
وذكر البيان أن اعتقاله جاء بعد ظهور اسم أبو ماريا القحطاني في بعض التحقيقات التي أجريت مؤخرًا.
وأضاف أن اللجنة بادرت باستدعائه ومساءلته بكل شفافية ووضوح، تقديرًا لدرء الشبهات وإزالة اللبس، حيث تبين للجنة المكلفة أنه قد أخطأ في إدارة تواصلاته دون اعتبار لحساسية موقعه، أو ضرورة الاستئذان وإيضاح المقصود من هذا التواصل، وعليه أوصت اللجنة بتجميد مهامه وصلاحياته.
لكن هذا البيان كشف زيف البيان الأول، أو إن صح القول ما ورد على لسان العمر، الذي أكّد خلاله بأن شبكة الجواسيس التي جرى اعتقالها هم من المنتسبين الجدد، والقحطاني لا يحسب على المنتسبين الجدد، بينما له قصة ومسيرة طويلة مع هيئة تحرير الشام، خاصة عندما كانت “الهيئة” تحت مسمى فتح الشام سابقًا، وقبلها جبهة النصرة.
ولعل ما يؤكد أيضًا زيف البيان الأول، هي المعلومات التي حصل عليها موقع “نون بوست” وأكّدت أن عمليات الاعتقال استهدفت قياديين من الصف الأول في هيئة تحرير الشام كما أنهم يشغلون مواقع حساسة في منطقة إدلب، أبرزهم “الأمير العسكري أبو اليمان تفتناز – القيادي في لواء علي بن أبي طالب أبو صبحي تل حديا – مسؤول كتلة الشرقية المدعو أبو خالد – مسؤول كاميرات المراقبة وخطوط الإنترنت على خطوط التماس مع قوات النظام – مسؤول الموارد البشرية في الجناح العسكري المتهم بتقديم نسخ كاملة من سجلّات العسكريين في الهيئة مع صور بطاقاتهم العسكرية لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA – مدير مكتب حكومة الإنقاذ – مسؤول الدراسات الأمنية عن منطقتي سرمدا والوسطى – ومسؤول المعابر”.
من هو القحطاني؟
هو “ميسر بن علي الجبوري القحطاني” ويحمل لقبين هما: “أبو ماريا القحطاني” و”الهراري” كناية إلى قرية “هرارة” العراقية، ولد ميسر عام 1976 وهو أخ وحيد لـ8 بنات، كما درس كلية الشريعة في جامعة بغداد وحصل على دبلوم إدارة من جامعة بغداد.
انتمى للقاعدة منذ عام 2004 عقب الغزو الأمريكي للعراق وقاتل في صفوفها، وسجنته الولايات المتحدة مرتين إحداهما في سجن بوكا المخصص للجهاديين.
تتلمذ على يد مشايخ أبرزهم أبو عبد الله المياحي والشيخ فارس فالح الموصلي، كما أجازه الشيخ عبد الرزاق المهدي، الذي ترك تحرير الشام ليعمل مستقلًا في ديسمبر/كانون الثاني 2017.
يُعد القحطاني أحد أهم مؤسسي جبهة النصرة، وعرف بأنه أبرز المنظرين الذين يوصفون بـ”الإصلاحيين”، حتى بات معروفًا بأنه أكثر الأشخاص اعتدالًا في ضمن تنظيمات الجهادية السفلية.
تسريبات وفضائح
انقسمت اﻵراء بشأن شخصية أبو ماريا القحطاني، إﻻ أن التسريبات التي ضجت بها مواقع التواصل اﻻجتماعي، سواء الصفحة التي كان يديرها المحامي عصام الخطيب المختطف من طرف “تحرير الشام” مؤخرًا وأغلقت منذ أيام، أم الشيخ أبو يحيى الشامي أحد القياديين البارزين المنشقين عن الهيئة، فالمسألة حسمت وفق نشطاء إعلاميين، فضلوا عدم ذكر أسمائهم لـ”نون بوست” ﻷسباب أمنية، أن صراعًا داخليًا، تكشف ضمن صفوف الهيئة، بالتزامن مع فضح تزعم القحطاني شبكة عمالة مرتبطة بـ”التحالف الدولي”.
ويرى النشطاء الذين تحدثتا إليهم أن اﻻنقسام داخل الهيئة إلى معسكرين بقيادة ما يسمى “جناح بنش” ويتزعمه أبو أحمد حدود القيادي الأمني المحنك، رفقة زميله أبو حفص بنش الذي تربطه علاقة مصاهرة بالجولاني، والشرعي عبد الرحيم عطون، والمعسكر الثاني بقيادة القحطاني وزميله جهاد عيسى الشيخ المعروف باسم “أبو أحمد زكور”، وقيام هذا الجناح بمحاولة انقلاب على الجوﻻني، أدى إلى بروز الهشاشة والتفكك عبر اﻹعلام، كنوع من تصفية الحسابات الداخلية.
ويتهم الجوﻻني بحسب معارضيه من خلال ما ينشر عبر التلغرام، بأنه متخبط في مسألة تحييد القحطاني، ﻷنه قد يؤدي إلى تغيير موازين القوى بين الجناحين المتصارعين، واكتفى بناءً على ذلك بتجميد صلاحياته من دون عزله أو إنهاء عضويته في التنظيم.
ويلفت معارضو الجوﻻني إلى أن اﻷخير، يحاول المفاوضة مع “كردستان العراق” في سبيل إخراج القحطاني المقيم حاليًّا بإحدى الفلل داخل إدلب، كإقامة جبرية، وبصورة تضمن “الحفاظ على ماء الوجه”، ما يفسر عدم البت في الملف حتى تاريخه.
ورغم محاولة بعض مناصري القحطاني، وسم اﻷخير، باﻻعتدال، فإن هناك إجماعًا لدى الفصائل، أن الدماء التي سفكت في معارك السيطرة تحت مسمى “البغي” كانت بمباركة من جناحي تحرير الشام المتصارعين على السلطة اليوم.
وﻻ يخفى وفق نشطاء تحدثوا إلى “نون بوست”، أن جناح القحطاني قاد الجهود التي يبذلها الجولاني من أجل تلميع صورة تنظيمه ومحاولة رفعه عن قوائم التصنيف العالمية، كما كان وراء تشبيك العلاقات الاستخبارية مع قوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيمي داعش والقاعدة التي أثمرت عن مقتل اثنين من خلفاء الأول في مناطق سيطرة الهيئة، وعن مقتل واعتقال العشرات من عناصر وقادة جماعة حراس الدين المبايعة لتنظيم القاعدة.
كما يُنسب إلى هذا الجناح أنه لم يكن يمانع تمرير التفاهمات الروسية التركية بخصوص منطقة خفض التصعيد في إدلب طالما لا يؤدي ذلك إلى تجاهل دور الهيئة على الأرض.
وسار جناح القحطاني باتجاهين مع الجيش الوطني: الترغيب ومحاولة تقوية العلاقات مع بعض الفصائل التي كان يتهمها بـ”الدعارة والاتجار بالمخدرات”، والترهيب، كما حدث في بعض المعارك الخاضعة لفصائل الجيش الوطني الممول من تركيا في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، والهدف اختراق هاتين المنطقتين والعمل على مدّ نفوذ الهيئة إليهما.
ما علاقة تنظيم القاعدة باعتقال القحطاني؟
في 17 فبراير/شباط تحديدًا، اتهم أبو ماريا القحطاني، تنظيم القاعدة في اليمن بأن له علاقات مع إيران، عبر بيان له نشره على حسابه الرسمي في تطبيق “تلغرام”، واستند إلى أن القاعدة نصبت القيادي سيف العدل أحد أبرز القيادات في التنظيم وأقدمهم، بعد الدكتور أيمن الظواهري، كخليفة للأخير بعد تسريبات عن مقتله في أفغانستان.
وطالب القحطاني عناصر القاعدة بترك التنظيم”، وكتب: “إن صح خبر تعيين سيف العدل زعيمًا للقاعدة فهذا يعني أن قرار القاعدة أصبح بيد الحرس الثوري وهذا ما تكلمت به قبل أعوام، لكن البعض أزعجهم كلامي، وقبل عام نصحت شباب اليمن ترك القاعدة وسحب جميع الذرائع والالتحام مع الشعب اليمني في مواجهة إيران، كيف لعاقل أن يبايع أميرًا وأمره ليس بيده وهو يقيم بين ظهراني أجرم دولة احتلت عدة عواصم سنية ودمرتها، تنظيم القاعدة انتهى وهذا ما قلته قبل أعوام، الحرس الثوري الإيراني هو صاحب القرار كون سيف العدل مقيم”.
وأضاف “خالد باطرفي بعد أن دمر اليمن يحاول تحريك فلول تنظيمه في الشام للتحالف مع النطيحة والمتردية لتكون خلايا تخدم مصالح إيران والنظام”.
إثر ما نشره القحطاني، رد تنظيم “القاعدة” على تلك الاتهامات عبر إصدار مرئي حمل عنوان “وإن هم إلا يخرصون” ونفى هذه الاتهامات متوعدًا القحطاني بالمحاسبة.
الهيئة تُغلق الملفات الشائكة
مع استمرار حملة هيئة تحرير الشام بشن حملة على ما وصفتهم بـ”العملاء”، التي ترافقت بنشر حواجز على كل الطرقات الرئيسية والفرعية في منطقة إدلب – (أربعة حواجز على طريق إدلب – باب الهوى، وأربعة حواجز أخرى على طريق M4 ) – غابت تعليقات القياديين في الهيئة عن تلك الحملة بشكل كامل، واقتصرت فقط على تعليق واحد صُدر عن أبو ماريا القحطاني قبيل اعتقاله بـ”سبعة أيام” فقط، معلّقًا على الحملة بقوله: “جميع الأخبار المتداولة عن اتهامات مرة بالإرهاب ومرة بالعمالة هي محاولة لتقويض البناء وهدم الثقة وتشكيك الناس بحملة المشروع الإسلامي”.
وأضاف “ليس من المعيب أن يكشف أهل الإيمان في أحد جيوشهم عينًا للأعداء، وأن تطهير أي جماعة لصفها من فرد تدور حوله شبهات لهو دليل طهر وصدق”.
كما جاء كلام القحطاني بعد يومين فقط من اعتقال تحرير الشام لمرافقه الشخصي وهو “أبو يزن الديري”، الذي اعترف وفقًا لمصدر مطلع من تحرير الشام لـ”نون بوست” بأن القحطاني يتزعم الكثير من الخلايا في إدلب مهامها الرئيسية التواصل مع أجهزة استخبارات غربية وتزويدها بمعلومات أمنية خطيرة، وفق قوله.
يقول المصدر: “بعد سبعة أيام فقط من اعتقال الديري، أقدمت تحرير الشام على توقيف أبو ماريا القحطاني، وتحديدًا في 15 أغسطس/آب الماضي، ما يعني أن توقيفه جاء بعد قرابة 63 يومًا من انطلاق الحملة ضد من وصفتهم بالعملاء”.
وبعد مضي يومين فقط من توقيفه أصدرت هيئة تحرير الشام بيانًا توضيحيًا بخصوص اعتقال “القحطاني”.
مراقبون يكشفون الأسباب
نشرت صفحة “أس الصراع في الشام” على موقع X، التي تعود ملكيتها للقيادي المنشق عن تحرير الشام صالح الحموي، تغريدة أكّد خلالها أن قضية اعتقال القحطاني ليس عمالة، وأن قضيته تُختصر بأن الجولاني يعتبر أن تواصل أي قيادي مع جهة خارجية دولة أو غيرها بمثابة تجهيز لانقلاب ضده.
وأضاف في تغريدته: “لقد استغلوا فساد بعض مرافقي القحطاني وتواصلات أبو ماريا الخارجية، ومن ثم أوقفوه ليلة ونصف، وصولًا إلى وضعه في إقامة جبرية مع منعه من التواصل”.
من جهته رأى حساب “مزمجر الشام” على حسابه أيضًا على موقع “X” – الذي يشتهر بمتابعة أخبار تحرير الشام وكشف القضايا الخفية عن قيادات جبهة النصرة والجماعات الإسلامية – “أن القحطاني الذي تسلم مسؤولية ملفي الدولة والقاعدة كان على توافق تام مع الجولاني، الأخير ومنذ عام 2018 فتح بنفسه أبواب هيئة تحرير الشام أمام أجهزة الاستخبارات، فمن الوصاية على الجناح العسكري والتصنيع الحربي، مرورًا بمكافحة الإرهاب، إلى تسليم مطلوبين وذاتيات المقاتلين.
وتابع “سبب التغيّر بموقف الجولاني تجاه رفيق دربه يعود إلى خوفه من تقويض سلطته في إدلب، وأن إحدى الإفادات تتهم القحطاني بمحاولة الإطاحة بقيادة الهيئة، بعد إخطار إحدى الدول الغربية بذلك، إضافةً إلى تهديدات من قيادات رفيعة في الهيئة بالتحرك إن تجاهل الجولاني محاسبة القحطاني”.
وأوضح “الجولاني يعلم أن جل قيادات الصف الأول في الهيئة على رأسهم المسؤول الأمني العام على تواصل وتنسيق مع أجهزة استخبارات، لكن صراع الأجنحة داخل الهيئة واستغلالهم لملف العمالة أجبره على اتخاذ موقف”.