لا يمكن أن تعتبر استقالة مستشار الأمن القومي السابق، مايكل فلين، غير المتوقعة، التي أعلن عنها ليلة الاثنين سوى بداية سياسة الاستنكار لجملة من الاستنتاجات. ومن خلال تخليه عن هذا المنصب، حلّ فلين السؤال المطروح حول مسألة واضحة ألا وهي، هل سيتمكن فلين من الصمود بعد تضليله لنائب الرئيس وللشعب الأمريكي؟ لكن الإجابة عن هذا السؤال ستفسح حتما المجال أمام أسئلة أخرى أكثر تعقيدا.
وفي أغلب الأحوال، ما زال الوقت مبكرا على تكهن الإجابات التي من الممكن أن تجيب عن مختلف التساؤلات التي يمكن أن تطرح في هذه المرحلة، خاصة وأن هذا الموضوع أماط اللثام عن جملة من الأسرار التي ظلت غامضة إلى حد يوم الثلاثاء.
من سيخلف مايكل فلين؟
على الصعيد التقني، تعد إشكالية من سيشغل منصب مستشار الأمن القومي إحدى أهم المسائل الملحة في الوقت الحالي. ووفقا لتقرير نيويورك تايمز، فإن سلسلة الاستقالات لن تقف فقط عند مايكل فلين، بل من المرجح أن تغادر نائبته أيضا، كاثلين ترويا، البيت الأبيض. وعلى ضوء هذا الإشكال المطروح، فإن الجنرال المتقاعد، كيث كيلوج، الذي شغل منصب رئيس موظفي مجلس الأمن القومي، يعدّ من بين المرشحين ليخلف مايكل فلين.
من بين المرشحين الآخرين، يوجد الجنرال المتقاعد والمدير السابق لوكالة المخابرات المركزية، ديفيد بتريوس، الذي تم ترشيحه ليشغل مناصب أخرى في الإدارة الأمريكية، فضلا عن اللواء المتقاعد، روبيرت هاورد، الذي تقلد سابقا منصب نائب وزير الدفاع عندما كان وزير الدفاع الحالي، جيمس ماتيس، يتولى رئاسة القيادة المركزية الأمريكية.
وتجدر الإشارة إلى أن بتريوس قد يكون من بين أبرز المرشحين لهذا المنصب لأنه أثبت مقدار الخبرة السياسية التي يتمتع بها منذ إدارة أوباما، لكنه كان مجبرا على التراجع لتُوجّه إليه فيما بعد تهمة مشاركة معلومات سرية مع كاتبته.
ماذا يعلم البيت الأبيض، ومن يعلم بهذه المسألة، ومتى علموا بذلك؟
من الواضح أن فلين لم يكن مستعدا لمواجهة التطور السريع الذي شهدته الأحداث عندما أطلع نائب الرئيس، مايك بينس، على هذا السر، ولعل هذا ما أفصح عنه لاحقا في خطاب استقالته حينما قال: “لسوء الحظ، وبسبب وتيرة الأحداث المتسارعة لقد أطلعت نائب الرئيس والرئيس المنتخب، عن غير قصد، على معلومات منقوصة بشأن المكالمات الهاتفية التي أجريتها مع السفير الروسي”. وبناء على هذا التصريح، يكمن السؤال في مدى وضوح المعلومات التي اطلع كل منهما عليها.
كسرت صحيفة واشنطن بوست الصمت الذي كان يكتنف هذه القصة والتي مفادها أن فلين كان يناقش مع السفير الروسي مسألة العقوبات المسلطة على روسيا، قبيل حفل تنصيب ترامب، وهو ما ينافي الرواية التي وردت في تصريحات فلين
في الواقع، كسرت صحيفة واشنطن بوست الصمت الذي كان يكتنف هذه القصة والتي مفادها أن فلين كان يناقش مع السفير الروسي مسألة العقوبات المسلطة على روسيا، قبيل حفل تنصيب ترامب، وهو ما ينافي الرواية التي وردت في تصريحات فلين.
أما في التقرير الذي ورد في واشنطن بوست، فإن القائمة بأعمال النائب العام، سالي ييتس، قد أعلمت مستشار البيت الأبيض، دون ماكغان، في كانون الثاني/ يناير، أن فلين لم يطلعهم على الحقيقة كاملة حيال الاتصالات التي أجراها، محذرة بذلك من أن مستشار الأمن القومي قد يكون عرضة للابتزاز الروسي.
كما ناقشت ييتس هذه النقطة الحساسة مع مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، جيمس كومي، الذي كان في البداية مترددا بشأن إخبار البيت الأبيض قبل أن يتمكن في نهاية المطاف من ذلك. (وقد طردت ييتس، التي عينها أوباما، بسبب إعلانها عن أن وزارة العدل لن تنفذ أمر ترامب التنفيذي الخاص بالهجرة).
على أعقاب صدور هذا التقرير، لم يعلق ماكغان على المعلومات التي وردت فيه، لكن إذا كانت المعلومات صحيحة فهذا يعني أن موظفين رفيعي المستوى في البيت الأبيض كانوا على يقين بازدواجية فلين وخداعه قبل وقت طويل من كشف ذلك للشعب الأمريكي في أواخر الأسبوع الماضي.
بالتالي، من أعلم ماكغان بهذه المعلومات أيضا؟ وهل كان رئيس موظفي البيت الأبيض، رينسبريبوس، على علم بهذه المعطيات؟ وماذا عن مساعدي الرئيس؛ ستيف بانون وجاريد كوشنر وكيليان كونواي؟ هل كان دونالد ترامب على علم بهذا؟ (عندما سئل ترامب، يوم الجمعة، عن التقرير الذي نشرته واشنطن بوست والذي اعترف من خلاله فلين بتضليله لبينس، ادعى بأنه لم يطّلع على التقرير).
إذن، هل كان بينس على علم بذلك؟ وإن لم يكن كذلك، فلماذا لم يعلم ماكغان المسؤولين بهذه المعلومات؟ وكيف كانت ردة فعله إذا أعلمهم؟ وفي ظهر يوم الاثنين، كان كبار مساعدي ترامب يعتبرون أن مايكل فلين يحظى بثقة ترامب المطلقة، لكن بعد سويعات قليلة ألقي به خارج البيت الأبيض.
لماذا أبعد فلين عن البيت الأبيض، ومن التالي؟
أثناء تحليل هذا الشأن المتعلق بالبيت الأبيض، تم اعتماد منظورين مختلفين؛ إذ أن العدسة الأولى كانت مركزة على الفريق الذي كان حول بريبوس، والثانية كانت مسلطة على فريق المتمردين الذي يقوده بانون. وعلى الرغم من أن فلين كان مقربا من بانون، إلا أنه وفقا لتقارير صحيفتي البوليتيكو وتايمز، فإن بانون كان أول من أراد طرد فلين في وقت مبكر يوم الجمعة ليستقر الأمر في نهاية المطاف عند مطالبته له بتقديم استقالته.
في الأثناء، كان الرئيس الأمريكي يراقب الأوضاع وينتظر كيف سيصمد مايكل فلين في وجه هذه الفضيحة، ولعل هذه الزاوية هي التي كانت تستند عليها تقارير فيل راكل المنشورة في صحيفة واشنطن بوست. والمثير للاهتمام في هذه القضية هو أن فريق بانون هو الذي تخلى عن أحد أتباعه بعدما ثبت تورطه. فضلا عن ذلك، من المفاجئ أنه كان يمكن لفلين أن يصمد في وجه الرياح العاتية حتى عندما صار واضحا أنه قد ضلل نائب الرئيس والشعب على حد سواء، وذلك من خلال تردد ترامب في التوقيع على ملف استقالته، واستغلال تورط بينس من موقعه في مجريات الأحداث.
أحيانا يُجبر كبار الموظفين على الاستقالة من مناصبهم حتى قبل أن يشرعوا في القيام بمهامهم الرسمية، لكن لم يسبق لأحد أن غادر البيت الأبيض بنفس سرعة مايكل فلين
ووفقا لهذه المعطيات، فإن استقالة مسؤول رفيع المستوى وتركه للإدارة بهذه السرعة يعد أمرا غير عادي، إذ غادر منصبه في غضون ثلاثة أسابيع. (أحيانا يُجبر كبار الموظفين على الاستقالة من مناصبهم حتى قبل أن يشرعوا في القيام بمهامهم الرسمية، لكن لم يسبق لأحد أن غادر البيت الأبيض بنفس سرعة مايكل فلين).
وكنت قد أشرت خلال الأسبوع المنصرم، إلى أن إدارة ترامب قد بدت شبيهة ببرامج تلفزيون الواقع يكون عنوانه: “من سيبقى على قيد الحياة في الجناح الغربي”. وإذا كان الأمر كذلك، فإن فلين كان أول من سقط. في المقابل، هناك دائما جولة استبعاد قادمة. إذن، من هي الشخصية القادمة التي ستغادر فوضى البيت الأبيض، وهل ستكون من بين فريق فلين ولنفس الأسباب التي رمت به بعيدا، أو لأسباب مختلفة؟
هل مازال مكتب التحقيقات الفدرالي يستكمل تحقيقاته المتعلقة بعلاقة إدارة ترامب بروسيا؟
بمجرد كشف مسألة نقاش العقوبات مع المسؤولين الروس، تعددت التكهنات التي تفيد بأن مايكل فلين ربما يكون قد انتهك قانون لوغان، الذي يقضي بمنع المواطنين غير المصرح لهم من التفاوض على السياسة الأمريكية. لكن يبدو أن احتمال مقاضاة قانون لوغان كان دائما مستبعدا، لأن السؤال الأهم يجب أن يطرح حول طبيعة العلاقات التي تجمع بين إدارة ترامب والروس بشكل عام، وعما إذا كانت روسيا قد تدخلت في الانتخابات الرئاسية لمساعدة ترامب والإطاحة بهيلاري كلينتون.
وكالة الاستخبارات الداخلية، التي تدعى مكتب التحقيقات الفيدرالي، ما زالت تستكمل أبحاثها حول علاقة إدارة ترامب بروسيا، وذلك من خلال التحقيق في المحادثات التي أجراها فلين
ووفقا لتقارير وكالة الأنباء “سي آن آن” الصادرة في كانون الثاني/ يناير، فإنه من المعروف أن وكالة الاستخبارات الداخلية، التي تدعى مكتب التحقيقات الفيدرالي، ما زالت تستكمل أبحاثها حول علاقة إدارة ترامب بروسيا، وذلك من خلال التحقيق في المحادثات التي أجراها فلين. لكن هل ما زال التحقيق جاريا؟ وما الذي ستأخذه الوكالة بعين الاعتبار؟ ومتى ستخرج هذه المعلومات إلى العلن؟ ولماذا كان مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كومي، الذي كان سريعا جدا عندما أعلن عن تطورات ملف بريد كلينتون الإلكتروني، مترددا جدا حيال مواجهة البيت الأبيض بما يعلمه عن فلين؟
علاوة على ذلك، ووفقا لصحيفة تايمز، فإن الجيش الأمريكي أيضا بصدد التحقيق فيما إذا كان مايكل فلين قد تلقى أموالا من الحكومة الروسية خلال رحلة سنة 2015، مما قد يمثل خرقا من للقانون.
كيف ستكون ردة فعل بقية أعضاء الحزب الجمهوري؟
وفي خضم أبحاث مكتب التحقيقات الفيدرالي والجيش، من الواضح أنه لا تزال هناك العديد من الأسئلة بلا إجابات حول المعاملات التي كان يجريها فلين. كما أن المعضلة لا تكمن في خط إدارة ترامب، ولا في تعلق “القصة الحقيقية” أساسا بتضليل أكبر مساعدي الرئيس لنائب الرئيس والشعب الأمريكي، إنما تكمن في التسريبات التي كانت مادة إعلامية دسمة، بما في ذلك مكالمة ييتس لماكغان، وحقيقة أن مكتب التحقيقات الفيدرالي الذي يحقق في مكالمات فلين، هو المصدر نفسه الذي كذّب فلين.
وعقب هذه الفضيحة، كيف ستكون ردة فعل بقية الأعضاء التابعين لحزب الرئيس؟ علما وأنه إلى حد الآن مازال العديد منهم غير مستعدين لتوريط أنفسهم في هذا الموضوع الشائك. وفي هذا الإطار، قال قائد لجنة رقابة البيت الأبيض، جيسون شافيتز، إن القصة قد كانت على وشك الانتهاء بمجرد إعلان مايكل فلين عن استقالته. وفي يوم الاثنين، دافع الممثل وقائد لجنة استخبارات البيت الأبيض، ديفين نونز، بشراسة عن مايكل فلين إذ اعتبر أنه لم يكن هناك داع لاستقالته. أما خلال يوم الثلاثاء، قال نونز إن اللجنة لن تحقق مع ترامب ولن تنظر في مكالمات فلين، ولكنه في المقابل ونقلا عن صلاحيات السلطة التنفيذية، يريد من مكتب التحقيقات الفيدرالي أن يشرح له سبب تسريب مكالمات فلين.
دعا السناتور روي بلانت، إلى تشكيل لجنة لفتح تحقيق شامل حول طبيعة العلاقة التي تجمع بين ترامب وروسيا لاستجواب فلين
أما بالنسبة لمجلس الشيوخ، حيث كان أعضاء الحزب الجمهوري حريصين على التحقيق في التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، دعا السناتور روي بلانت، إلى تشكيل لجنة لفتح تحقيق شامل حول طبيعة العلاقة التي تجمع بين ترامب وروسيا لاستجواب فلين. وفي السياق نفسه، صرح إيلي لايك أنه قد لا يكون من الخطأ أن تنغمس أجهزة الاستخبارات في التحقيق مع فلين، وهو الشخص الذي أشار إلى علاقة فلين بالجواسيس الروس.
لكن تجدر الإشارة إلى أنه في حال كان الجمهوريون في الكونغرس مهتمون بعلاقة فلين المشبوهة بالحكومة الروسية أو بالإشكالية التي تطرحها التسريبات التي دفعته إلى الاستقالة، فإن ذلك سيحدد أولوياتهم في الوقت الحالي، خاصة بشأن مدى استعدادهم للوقوف في وجه الإدارة في البيت الأبيض.
المصدر: الأتلانتيك