يعاني الاقتصاد الأردني من صعوبات وتحديات كثيرة، لكن تبقى مشكلته الأكبر هي الدين العام الذي شكّل عائقًا كبيرًا في طريق نمو الاقتصاد ورفاهية المجتمع.
يُعرف الدين العام (السيادي) بأنه تلك المبالغ التي تدين بها البلاد ممثلةً بحكومتها لأطراف محلية وخارجية، سواء كان بالعملة المحلية أو العملات الأجنبية الرئيسية.
وقد دأبت المؤسسات الدولية وبيوت الخبرة الاقتصادية على اعتبار أن الدين العام يكون مقبولًا وصحيًّا بشرط عدم تجاوزه 70% من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) للبلاد، وفي حالة الأردن بلغ الدين العام حتى نهاية عام 2022 حوالي 114% من الناتج المحلي الإجمالي، ليبلغ 38.50 مليار دينار أردني (54.20 مليار دولار أميركي)، منه حوالي 56% دين داخلي و44% دين خارجي بالعملات الأجنبية.
وعمومًا تصبح البلاد مُدينة بطريقَين:
الأول: عجز الموازنة العامة للدولة، وتعني الفرق بين إيرادات الحكومة من ضرائب ورسوم واستثمارات أحيانًا، وبين نفقات الحكومة التي تتحمّلها كي تقوم بمهامها وواجباتها تجاه المجتمع، فإذا زادت هذه النفقات عن الإيرادات يولد لدى الحكومة عجز في الموازنة العامة، وهذا هو الحال في الأردن.
فحسب بيانات وزارة المالية الأردنية، يبلغ العجز في الموازنة العامة للدولة عام 2023 حوالي 1.86 مليار دينار (2.62 مليار دولار أميركي)، وهذا العجز يتم تغطيته من خلال الهبات والمعونات الخارجية، وكذلك الاقتراض سواء كان محليًّا من البنوك التجارية والمواطنين أنفسهم، أو خارجيًّا من خلال المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والمستثمرين والمانحين.
الثاني: العجز في ميزان المدفوعات، ويُقصد به الفرق بين التدفقات النقدية الداخلة وتلك المغادرة من البلاد، والمسؤول عنه بشكل رئيسي هو العجز في الميزان التجاري أو زيادة المستوردات من السلع والخدمات عن صادرات البلاد.
يعني هذا أن صادرات البلاد تعاني من ضعف في التنافسية مع دول العالم بسبب مشكلات بنيوية، إما بسبب الجودة وإما ارتفاع تكاليف الإنتاج، ويعاني الاقتصاد الأردني من فجوة واسعة جدًّا بين الصادرات والواردات هي 10.6 مليارات دينار (15 مليار دولار تقريبًا)، ما عمّق العجز في ميزان المدفوعات.
وصل العجز في ميزان المدفوعات إلى 2.2 مليار دينار (3 مليارات دولار أميركي)، ولذلك وكما هو الحال في تغطية العجز في الموازنة العامة للدولة، يتم أيضًا الاعتماد على المساعدات والهبات والقروض الخارجية في إغلاق العجز في ميزان المدفوعات الأردني.
لذلك، ونتيجة الفشل في التخلص من العجز أو على الأقل الحد منه، تفاقم الدين العام عامًا بعد عام حتى وصل إلى الأرقام المرعبة الآن.
المؤشرات الحاسمة
بسبب العبء الكبير الذي يتحمّله الأردن في خدمة الدين العام الذي يستمر في الارتفاع، بسبب ما تقدم ذكره من عجز في الموازنة العامة وميزان المدفوعات، فإن المؤشرات الاقتصادية الهامة تعاني من صعوبات هائلة، فمثلًا:
حسب تقارير البنك الدولي للعام 2022، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي في الأردن حوالي 47.50 مليار دولار بالأسعار الجارية، وهو في الواقع دون الطموح، خصوصًا في بلد كالأردن يتمتع بطاقة بشرية متعلمة ومتدرّبة بشكل جيد وموقع جغرافي مميَّز.
وعليه يكون نصيب الفرد من الدخل المحلي الإجمالي حوالي 4 آلاف و200 دولار أمريكي سنويًّا، والذي يعتبَر حسب تصنيف المؤسسات الدولية دخلًا متوسطًا منخفضًا (Lower Middle Income)، ويأتي ذلك بسبب ضعف النمو الاقتصادي في الأردن الذي بلغ 2.5% لغاية العام 2022، وهو نمو متواضع إذا ما قورن بدول نامية أخرى كالصين مثلًا 6%، أو الهند 7.5%، أو إندونيسيا 5.25%، أو حتى في مصر 4%.
تبقى البطالة هي المشكلة الأكبر التي يعاني منها الناس في الأردن، فكنتيجة لضعف النمو الاقتصادي والاستنزاف اللذين تسبّبهما خدمة الدين العام، ارتفعت البطالة لأرقام قياسية بلغت حسب آخر تحديث أقل قليلًا من 23%، فقد أصبحت البطالة مع الأسف مشكلة مزمنة، خصوصًا بين الشباب الذين يعاني ثلثهم من عدم الالتزام بعمل دائم ومستقر.
وللبطالة أسباب، فبجانب الوضع الاقتصادي العام هناك عدم تجانس بين مخرجات التعليم ومتطلبات العمل، وكذلك إصرار الشباب الأردني على الوظيفة عوضًا عن الاستثمار أو العمل الحر الذي قد ينهض بالشاب نفسه وبالاقتصاد كذلك، ومن ناحية أخرى قد يرفد الاقتصاد بالعملات الأجنبية.
نسبة البطالة المرعبة مع نسب التضخم المرتفعة التي اجتاحت العالم خلال العامَين الماضيَين، وأدّت إلى ارتفاع في أسعار بعض السلع على مستوى العالم خصوصًا مصادر الطاقة والحبوب، أدّت أيضًا إلى ارتفاع نسبة الفقر لأرقام غير مسبوقة، إذ يعيش ثلث السكان تحت خط الفقر.
التضخُّم في الأسعار في الأردن يعتبر من ضمن المؤشرات الاقتصادية الأقل سوءًا، إذ بلغ 3% حتى يوليو/ تموز من العام الماضي، وهذه النسبة المعتدلة تُعزى إلى ضعف النمو الاقتصادي ككل، وكذلك بسبب بعض السياسات التي انتهجها البنك المركزي العام الماضي من خلال رفع أسعار الفائدة، الأمر الذي أدّى للأسف إلى تراجع في نمو الاستثمار في البلاد.
أمّا بالنسبة إلى الغلاء الذي يلمسه المواطن الأردني، فيعود بالأساس إلى المشاكل الآنفة الذكر من فقر وبطالة بشكل خاص، كذلك ساهم ارتفاع مصادر الطاقة، خصوصًا مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، في ارتفاع أسعار بيع هذه المواد، ما أدّى إلى الغلاء الذي يشعر به المواطن يوميًّا.
الفرص والحلول
يحتاج حلّ مشكلات الاقتصاد الأردني إلى خطط تنموية على المدى المتوسط والبعيد حتى، وهو عادة ما لا تحتمله الأُسر الأردنية التي تعاني من ضعف مداخيلها ومن البطالة بين أبنائها الشباب، لذلك الحكومة بين شقَّي رحى، فمن ناحية ترغب في تخفيف العجز من خلال تطوير أو زيادة العبء الضريبي، لدرجة أن الشارع اعتاد على تسمية الحكومات المتعاقبة بأنها حكومات جباية.
ومن ناحية أخرى، تحاول الحكومة امتصاص غضب الشارع من خلال توفير وظائف للشباب حتى لو كان على حساب الموازنة العامة، وفي الإجرائَين لن تُحل مشكلات الاقتصاد وعلى رأسها المديونية، إنما ما يحتاجه الاقتصاد الأردني هو حلول تنموية متوسطة إلى طويلة الأجل، تستند أساسًا على تعظيم دور القطاع الخاص، خصوصًا الشباب الأردني المسلح بالتعليم العالي.
فلا نذيع سرًّا بالقول إن الموارد الطبيعية في الأردن شحيحة، سواء كان ذلك من حيث مصادر الطاقة التي ترهق كاهل ميزان المدفوعات بسبب فاتورة المشتقات النفطية الباهظة، أو حتى من ناحية الفقر المائي والذي يعدّ المسؤول بدرجة كبيرة عن تواضع مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي.
لذلك تعدّ الطاقة البشرية أهم مصدر طبيعي يمكن التعويل عليه، فمن المعروف أن الشعب الأردني متعلم ومدرَّب جيدًا، لهذا عند تناول قضية تطوير مساهمة العنصر الشبابي في الاقتصاد لا بدَّ من اتخاذ إجراءات، سواء في مخرجات التعليم أو في السياسات النقدية والمالية التي تنتهجها الحكومة، وبشكل عام وعلى طريق النهوض بالاقتصاد الأردني، نحتاج إلى تغيير وتطوير متبادل من قبل الحكومات ومن قبل الجمهور أيضًا:
محاربة الفساد وتعزيز سيادة القانون، لأنه لا معنى للتخطيط الاقتصادي في ظل تفشي الفساد في أي مجتمع.
التعليم والتدريب التقني: فمثلًا على الحكومة زيادة الاستثمار في المعاهد الفنية التي تخرّج المؤهّلين للعمل في القطاعات التقنية، مثل السيارات الكهربائية والهجينة، وتقنية المعلومات، والذكاء الاصطناعي وغيرها الكثير من القطاعات التي تزدهر اليوم كثيرًا وعلى مستوى العالم.
الائتمان المصرفي: تتميز السياسة النقدية في البلاد بتحفظها المبالَغ به، لذلك نجد أن البنوك التجارية في الأردن تركّز وتفضّل الاستثمار في الصيرفة بالتجزئة (Retail Banking)، بمعنى أن القروض تمنَح للأسر والأفراد من أجل تمويل شراء سلع استهلاكية غير منتجة معظمها يدخل في بند الكماليات، وفي المقابل تتشدد البنوك عند تمويل الأعمال التجارية الصغيرة ومتناهية الصغر.
بحسب التقرير السنوي للبنك المركزي الأردني للعام 2022، كان حوالي 50% من قيمة القروض الممنوحة من البنوك التجارية والإسلامية هي لقطاع الإنشاءات وقطاعات استهلاكية غير منتجة، ومن ناحية المستفيدين ذكر التقرير أيضًا أن القروض الممنوحة للأفراد شكّلت حوالي 45% من إجمالي القروض، وهو ما يعني أن أكثر من 14 مليار دينار (20 مليار دولار) ذهبت للأفراد والأسر لإنفاقها على قطاعات كمالية واستهلاكية غير منتجة.
لذلك لا بدَّ من إجراءات شجاعة بهذا الخصوص، فعندما يتمكّن الشباب حديثي التخرج من الحصول على التمويل اللازم لوضع أفكارهم ومشاريعهم الخلاقة قيد التنفيذ، تنخفض البطالة من ناحية، هذا بالإضافة إلى إمكانية رفد المشاريع الشبابية الصغيرة للموازنة العامة للدولة وميزان المدفوعات بالعملات الأجنبية.
إصلاحات ضريبية: إضافة إلى التسهيلات الائتمانية، لا بدَّ أن تتمتع الشركات الصغيرة والمتناهية الصغر بإعفاءات ضريبية لدعمها في تطوير أعمالها وتحقيق أرباح.
النفقات الحكومية: تحتاج الحكومة إلى الخفض الضروري لنفقاتها، ولا بأس بتقليص أو إغلاق بعض المؤسسات والهيئات الحكومية ذات الأحمال الزائدة.
الاستثمار الأجنبي: تحاول الحكومات المتعاقبة منذ عقود جذب المستثمرين الأجانب إلى البلاد، لكن يبدو أن النجاح في هذا المجال كان متواضعًا جدًّا، وهذا ما يلمسه المواطن العادي.
إذ يحتاج الأردن إلى خطة على أعلى المستويات للتحول إلى جهة جاذبة للمستثمرين الأجانب، خصوصًا الشركات متعددة الجنسيات، ولنا في هونغ كونغ وأيرلندا أمثلة جيدة، وهذه الخطة ترتكز على توفير بيئة استثمارية مناسبة ومشجّعة، سواء كان ذلك من خلال الإعفاءات الضريبية المنافسة أو تيسير وتحديث الإجراءات الروتينية، على سبيل المثال بعض الدول الصغيرة الناجحة في جذب المستثمرين خصّصت مكتبًا وحيدًا لإجراء معاملات تقييم وقبول الاستثمارات الأجنبية، وحتى من خلال السفارات والقنصليات.
هذا بالإضافة إلى الجهد التسويقي المهم، مثل المشاركة في معارض دولية لتسويق الأردن كقبلة جاذبة ومربحة للمستثمرين الأجانب، كذلك تنظيم زيارات لبعض رؤساء الشركات الكبيرة للبلاد، خصوصًا الجامعات الأكاديمية والتقنية من أجل عرض إمكانات الشباب والقوى العاملة الأردنية.
الاستثمار في الطاقة النظيفة كبلد فقير في مصادر الطاقة، والتي ترهق ميزان المدفوعات من خلال فاتورتها الباهظة التي تشكّل حوالي 13% من إجمالي مستوردات المملكة أو 3.5 مليارات دولار، لذلك لا بدَّ لنا كمستوردين لمصادر الطاقة البحث عن مصادر طاقة بديلة، وقد بدأت بالفعل تزدهر مبيعات السيارات الكهربائية في السوق الأردني.
وكذلك الاستفادة من الطاقة الشمسية في كهربة المباني، وهناك تقدم خجول على هذا الصعيد أيضًا، لذلك وجب على الحكومة تشجيع التحول للطاقة النظيفة من خلال الإعفاءات الجمركية والضريبية، وكذلك المساعدة في التمويل، وهنا قد تعاني الحكومة من انخفاض تحصيلها الضريبي المرتفع، نتيجة انخفاض استهلاك المشتقات النفطية، لكن في النهاية نحن نتحدث عن وفر كبير من العملات الأجنبية.
أما عن دور الجمهور وتحديدًا الشباب الذي اعتاد الاعتماد على الوظيفة بعد حصوله على الدرجة العلمية، وهو ما يشكّل ضغطًا على الحكومة وعلى الشاب نفسه وعلى الاقتصاد أيضًا، فالشباب الأردني يحتاج إلى التفكير خارج الصندوق من خلال الاستثمار في مؤهّلاته وخبراته.
العالم في عصر تقنية المعلومات وتطور الاتصالات أصبح بلا حدود، وبات الاستثمار العابر للحدود غير مكلف، لذلك يستطيع الشباب المؤهَّل الاستثمار في أسواق مزدهرة بما يعود عليه بدخل جيد، ومن ناحية أخرى يفيد ميزان المدفوعات للبلاد، لكن هذه القضية تحديدًا تستلزم ما تم ذكره من ضرورة التوسع الائتماني من قبل البنك المركزي والبنوك التجارية.
من ناحية أخرى فيما يتعلق بالدور الشعبي، فنحتاج إلى تصحيح سلوكنا الاستهلاكي الكمالي إذا جاز التعبير، وهو ما يتميز به الشعب الأردني، حيث يميل الناس إلى اقتناء السلع الكمالية على حساب استثمار أموالهم في مشاريع نافعه لهم وللبلاد، وفي معظم الأحيان يضطرون للاقتراض، لذلك نجد أن حجم القروض الفردية بلغ حوالي 20 مليار دولار، فيلاحظ مثلًا أن فاتورة استيراد المركبات تشكّل أكثر من 7% من حجم المستوردات الإجمالية، وهي بالمناسبة تحتل المرتبة الثانية بعد النفط ومشتقاته وتفوق مستورداتنا من القمح والحبوب.