“لن نقبل أي تدخل أيًا كان في عمليتنا الانتخابية، لا من روسيا ولا من أي دولة أخرى، هذه مسألة تخص ديموقراطيتنا وسيادتنا واستقلالنا الوطني” بهذه الكلمات استهل وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إرولت كلمته أمام البرلمان الفرنسي ردًا على ما أثارته حملة مرشح تيار الوسط إيمانويل ماكرون، بشأن تعرضه لعمليات قرصنة إلكترونية فضلاً عن تعمد بعض وسائل الإعلام الروسية نشر أخبار كاذبة عنه مما قد يؤثر على فرصه في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراء مرحلتها الأولى في الأول من أبريل القادم.
البيان الفرنسي شديد اللهجة الصادر بشأن التحذير من محاولات التأثير على سير ونتائج العملية الانتخابية، والذي يخص موسكو في المقام الأول، يقود إلى مزيد من التوتر في العلاقات الأوروبية الروسية، مما دفع باريس إلى التعهد باتخاذ الاحتياطات الأمنية والتقنية للحيلولة دون تكرار السيناريو الأمريكي مرة أخرى.
تهديد فرنسي واستنكار روسي
تصريحات وزير الخارجية الفرنسي أمام البرلمان تضمنت بين ثناياها “تهديدًا” للإدارة الروسية، حيث تعهد إرولت بأن القيود التي ستضعها فرنسا ردًا على هذا التدخل “تشمل إجراءات انتقامية إذا اقتضت الضرورة لأنه ما من دولة أجنبية تستطيع أن تؤثر على اختيار الفرنسيين وما من دولة أجنبية تستطيع أن تختار رئيس الجمهورية في المستقبل”.
وفي المقابل استنكرت موسكو هذه الاتهامات، حيث نفى دميتري بيسكوف المتحدث باسم الرئاسة الروسية (الكرملين)، الاتهامات الفرنسية بالقرصنة الروسية على بعض مرشحي الانتخابات الرئاسية، واصفًا إياها بالسخيفة.
الكرملين: أي اتهامات ضد مسؤولي موسكو بتورطهم المزعوم (في هذه الهجمات)، هي اتهامات سخيفة
وفي تصريحات له نشرتها وكالة أنباء “تاس” الروسية، قال بيسكوف: “لا يمكن الحديث عن وجود أي نوع من التواطؤ من قبل مسؤولي موسكو في هذه الهجمات، سواء حدثت بالفعل أم لا”، مضيفًا “أي اتهامات ضد مسؤولي موسكو بتورطهم المزعوم (في هذه الهجمات)، هي اتهامات سخيفة”.
المتحدث باسم الكرملين لفت إلى أن هذه الاتهامات ليست الأولى، حيث وجهت واشنطن نفس تلك الاتهامات إبان الانتخابات الرئاسية التي فاز بها دونالد ترامب، منوهًا: “لم يكن لدينا وليس لدينا أي خطط للتدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى، فضلاً عن التدخل في عملياتها الانتخابية”.
إيمانويل ماكرون مرشح تيار الوسط الذي تعرض لقرصنة إلكترونية
تكرار السيناريو الأمريكي
حالة من القلق تسود الأجواء الفرنسية جراء ما كشفه المرشح إيمانويل ماكرون بشأن تعرضه لهجمات قرصنة، خشية تكرار السيناريو الأمريكي، حيث واجهت المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون العديد من الحملات الإلكترونية الممنهجة، فضلاً عن عمليات تجسس على بريدها الإلكتروني، ونشر ما به من رسائل – بعضها مسيء -، ساهمت بشكل كبير في تشويه صورتها لدى قطاع عريض من الناخبين الأمريكيين.
التجسس الذي أُتهمت به موسكو حينها ضد كلينتون، ساهم بشكل كبير في زيادة فرص الجمهوري دونالد ترامب، وهو ما أهله للفوز في الانتخابات على عكس المتوقع، وفي صورة مناقضة تمامًا لما خرجت به استطلاعات الرأي والدراسات الميدانية.
فوز اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وما تمخض عنه من مواقف عدائية قد تهدد العالم أجمع، دفع الفرنسيين إلى القلق من تكرار نفس السيناريو، وهو ما حذر منه خبراء فرنسيون أكثر من مرة، من أن فوز اليمين المتطرف في الانتخابات القادمة قد يقود إلى انهيار فرنسا بالكامل، وهذا ما يفسر القلق الفرنسي من محاولات القرصنة التي يتعرض لها بعض المرشحين.
من تؤيد موسكو في الانتخابات الفرنسية؟
لا شك أن اسم رئيس فرنسا القادم مسألة تهم جميع الدول والحكومات، لما لفرنسا من دور محوري في التأثير على الخارطة السياسية والاقتصادية العالمية، ومن ثم فمتابعة السباق نحو الإليزيه، وتفضيل مرشح على آخر، مسألة عادية في عرف السياسة الدولية، مهما ادعت الدول والأنظمة أنها تقف على نفس المسافة من جميع المرشحين.
المرشحون الأربع – الأكثر حظًا – لخلافة أولاند في قصر الإليزيه، وهم فرنسوا فيون وإيمانويل ماكرون وماريان لوبان ومانويل فالس، قدموا برامجهم الانتخابية بصورة تفصيلية، كما أنهم أعلنوا ملامح توجهاتهم حيال بعض الدول ومنها روسيا وبعض ملفات الشرق الأوسط كالملف السوري واللاجئين العرب والمسلمين.
الموقف الروسي من الانتخابات الفرنسية وإن لم يعلن عنه بصورة واضحة كما هو الحال في الانتخابات الأمريكية، إلا أن المؤشرات تقود إلى الارتياح لمرشحي اليمين واليمين المتطرف، فرانسوا فيون وماريان لوبان، وهو ما كشفت عنه بعض وسائل الإعلام الروسية التي رحبت بفوز رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق المحافظ فيون، في الانتخابات التمهيدية التي قادته إلى تمثيل اليمين في السباق إلى الرئاسة، وهو الذي يعرف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جيدًا ويدعو إلى الحوار وليس التهديد للتعامل معه، كما يرغب أيضًا في التقارب بين روسيا وأوروبا، والتدخل لرفع العقوبات عنها.
ومن المعروف أن فيون الذي كان رئيسًا للوزراء في ولاية ساركوزي، يمتلك مشروعًا ليبراليًا على الصعيد الاقتصادي يعتمد على سياسة التقشف وإعادة الهيكلة، حيث تعهد بإلغاء نحو نصف مليون وظيفة وخفض المساعدات الاجتماعية وتقليص النفقات الحكومية، كما تعهد برفع القيود عن الاقتصاد الفرنسي.
الموقف الروسي من الانتخابات الفرنسية وإن لم يعلن عنه بصورة واضحة كما هو الحال في الانتخابات الأمريكية، إلا أن المؤشرات تقود إلى الارتياح لمرشحي اليمين واليمين المتطرف
وفي المقابل هناك من يشير إلى ارتياح روسي حيال نجلة الزعيم اليميني المتطرف جون ماري لوبان، مرشحة حزب الجبهة الوطنية، والتي تعتمد في برنامجها الانتخابي على محور منع الهجرة لبلادها، والتحذير مما أسمته “خطر الإسلام”، حيث أشارت أنه يهدد الثقافة الفرنسية ولا بد من إعادة النظر في آليات التعامل معه.
وفي استطلاع رأي نشرته مؤخرًا مؤسسة هاريس إنتر أكتيف، أظهر أن لوبان ستفوز على الأرجح بالجولة الأولى للانتخابات، وذلك بحصولها على 24% مقابل 21% لماكرون، في حين أشارت استطلاعات أخرى إلى أنها ستخسر جولة الإعادة، وجاء في المركز الثالث المرشح المحافظ فرانسوا فيون والذي حصل على 19% من الأصوات.
الميل الروسي لفيون ولوبان، كان وراء الهجمة الفرنسية الشرسة ضد موسكو، والتي حذرت من التدخل في الانتخابات الرئاسية القادمة، خوفًا من إعادة استنساخ التجربة الأمريكية، والإتيان باليمين المتطرف على رأس الإدارة الحاكمة في فرنسا، مما قد يهدد مستقبل البلاد، حسبما أشار المرشح مانويل فالس، خلال كلمة له بمدينة إيفري جنوب باريس، حيث وجه دعوة للفرنسيين واليسار إلى توحيد الصفوف في مواجهة اليمين المتطرف، محذرًا من العواقب الناجمة حال فوز ماريان لوبان، والتي من أبرزها خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي كما فعلت بريطانيا، لتدخل العلاقات الروسية الفرنسية نفقًا جديدًا من التوتر.
قلق فرنسي من فوز مرشحة اليمين المتطرف ماريان لوبان
توتر العلاقات الروسية الفرنسية
تشهد العلاقات الروسية الأوروبية بصفة عامة والفرنسية بصورة خاصة حالة من التوتر خلال السنوات الماضية نتيجة تباين وجهات النظر حيال عدد من الملفات الأوروبية والشرق أوسطية، في إطار صراع النفوذ والهيمنة وفرض السيادة بين البلدين، حيث تبادل الطرفان اتهامات التدخل في شؤون الدول الأخرى، وصلت إلى حد التهديد في بعض الأحيان، إلا أن الملفين الأبرز في إشعال حدة التوتر بين فرنسا وروسيا هما القرم وسوريا.
ملف القرم
كانت السيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم في مارس 2014، نقطة الاشتعال في العلاقات بين روسيا من جانب، ودول أوروبا من جانب آخر، حيث استشعر قادة أوروبا الخطر الحادق بدول شرق القارة من قبل موسكو الساعية إلى استعادة مستعمراتها القديمة في المنطقة.
وكانت فرنسا من أوائل الدول التي طالبت بضرورة التصدي للتدخل الروسي في شرق أوروبا من خلال إرسال قوات من حلف الناتو للمرابطة على الشريط الحدودي بينها وبين موسكو، خاصة في ظل المساعي الروسية الجديدة لإحكام السيطرة على دول البلطيق (أستونيا ولاتفيا وليتوانيا).
الملف السوري
رغم الخلاف الروسي الفرنسي بشأن صيرورة الأحداث داخل سوريا، وزيادة الهوة بين الجانبين في رؤية كل منهما لملامح مستقبل الأزمة، إلا أن هذا الخلاف بلغ ذروته أكتوبر الماضي، حين استخدمت موسكو حق الفيتو ضد المشروع الفرنسي المقدم في مجلس الأمن بشأن وقف عمليات القصف في مدينة حلب.
موسكو لم تكتف باستخدام الفيتو فقط، بل تقدمت بمشروع آخر يتعارض مع الفرنسي، مما تسبب في زيادة حدة الاحتقان بين البلدين، وهو ما دفع الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند إلى إعلان إعادة التفكير في زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لفرنسا والتي كان مقررًا لها نهاية أكتوبر الماضي، أي بعد استخدام الفيتو الروسي بأيام قليلة، وهو ما تسبب في إلغاء الرئيس الروسي لزيارته.