“أعلنُ بسرور بالغ أن التعبئة الرابعة والأخيرة لسد النهضة تمّت بنجاح، واجهنا الكثير من التحديات، واضطررنا مرارًا إلى التراجع. واجهنا تحديًا داخليًّا وضغوطًا خارجية، لكن بلادنا ستنجز ما تعهّدت به”.. بهذه الكلمات أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الأحد 10 سبتمبر/ أيلول 2023، انتهاء عملية تعبئة سد النهضة.
تأتي تلك الخطوة متزامنة مع استئناف المفاوضات بين الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا) في 27 أغسطس/ آب الماضي، بعدما كانت متوقفة منذ أبريل/ نيسان 2021، كأحد مخرجات اللقاء الذي جمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي في يوليو/ تموز الماضي، حين أعلن السيسي أنه قد اتفق مع آبي أحمد على “الانتهاء خلال 4 أشهر من صياغة اتفاق بشأن ملء وتشغيل السد”.
الإعلان عن الملء الرابع للسدّ أصاب القاهرة بخيبة أمل كبيرة، حيث اتهمت الخارجية المصرية أديس أبابا في بيان لها بانتهاك إعلان المبادئ الموقع عام 2015 بين الدول الثلاثة، مؤكدة على أن “هذا النهج وما ينتج عنه من آثار سلبية يضع عبئًا على مسار المفاوضات المستأنفة، والتي تم تحديد 4 أشهر للانتهاء منها، والمعقود الأمل في أن تشهد جولتها القادمة المقرر عقدها في أديس أبابا انفراجة ملموسة وحقيقية على مسار التوصل إلى اتفاق على قواعد ملء وتشغيل السد”.
ومع الانتهاء من مراحل ملء السد الأربعة المخطط لها سلفًا، والبدء عمليًّا في توليد الطاقة الكهربائية من السد، وفق الجدول الذي حددته أديس أبابا بشكل منفرد قبل 3 أعوام، فإن المعركة توشك أن تصل إلى محطاتها الأخيرة، بعد أكثر من 10 سنوات من المفاوضات، حققت فيها إثيوبيا انتصارًا دبلوماسيًّا ملحوظًا على الجانب المصري، الذي تعامل مع الملف برعونة بالغة وضعت أمن مصر المائي في مهبّ الريح.
“የሕዳሴ ግድብን ውኃ ሞልተን ኢትዮጵያ አይበገሬና የምትፈልገውን ማሳካት የምትችል እንደሆነች እንዲያውቅ በማድረግ የትውልድን ልብ የሚያክሙ ሥራዎችን ጀምረናል፡፡” pic.twitter.com/SFKFJlffwI
— Abiy Ahmed Ali 🇪🇹 (@AbiyAhmedAli) September 10, 2023
التسويف.. دبلوماسية أديس أبابا الناجعة
قدمت إثيوبيا واحدة من أنجح التجارب الناجحة في فن التسويف، فعلى مدار أكثر من 10 سنوات منذ انطلاق مفاوضات بناء السد عام 2011 وهي تتكئ على عصا “الطمأنة” للجانب المصري، والتأكيد بين الحين والآخر على حق المصريين في مياه النيل، وأن النيل للجميع ولن يكون هناك ضرر لأي من دول الحوض بأكملها، وهو ما أجبر المفاوض المصري على الإبقاء داخل أفق التفاوض الضيق واستبعاد أي محاولات للخروج عنه.
ولم تصطدم إثيوبيا بمصر مطلقًا طيلة جولات التفاوض التي تجاوزت الـ 20 جولة، فمع كل لقاء سواء كان في القاهرة أو أديس أبابا أو الخرطوم، أو حتى في البيت الأبيض في واشنطن، كانت رسائل الطمأنة حاضرة، وتخدير الجانب المصري بالوعود البرّاقة والشعارات الرنانة التي يخرج المفاوض المصري بعدها منتشيًا كأنه حقق انتصارًا غير مسبوق.
ولا ينسى أحد ذلك اللقاء الشهير الذي جمع بين الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإثيوبي في القصر الرئاسي بالقاهرة في يونيو/ حزيران 2018، حين طالب السيسي من آبي أحمد أن يقسم بالله أمام الشعب المصري ألا يضرّ بحصة مصر من مياه النيل، حينها كرر رئيس الوزراء الإثيوبي خلف الرئيس المصري قائلًا: “والله والله لن نقوم بأي ضرر للمياه في مصر”.
عقب هذا اللقاء، خرجت وسائل الإعلام المصرية لتؤكد على نجاح الدبلوماسية المصرية وقدرة السيسي في احتواء الموقف، وأن الملف أوشك على الرمق الأخير من السباق الذي أصبح الفوز به مصريًّا بلا منازع، ليفاجَأ الجميع بعد أيام قليلة من هذا القسم أن آبي أحمد كان يخدّر المصريين ويعزف على وتر العاطفة لديهم، وهو ما كان بالفعل.
وبعد تلك المفاوضات المستمرة التي أبدت فيها أديس أبابا -عشرات المرات- رغبتها في التوصل إلى اتفاق مشترك مع القاهرة والخرطوم، مؤكدة على أنها لن تقوم بأي إجراء أحادي، ها هي تنجح في تخزين 15 مليار متر مكعب في الملء الرابع الذي تمَّ أول أمس ليصبح إجمالي التخزين حوالي 32 مليار متر مكعب، وهو ما يحتاجه الإثيوبيون لتوليد الطاقة الكهربائية من السد.
الرعونة وحسن النوايا.. فشل مصري ذريع
وعلى الجانب الآخر فقدت القاهرة بوصلة الدبلوماسية الناجعة في التعاطي مع هذا الملف، مكتفية بالبيانات والتصريحات الإعلامية التي تعامل معها الجانب الإثيوبي من باب “الاستهلاك المحلي” للشارع المصري الغاضب، دون أن تترجم إلى قرارات أو إجراءات تجبر أديس أبابا على تغيير مواقفها، وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح عبر مراحل الملء الأربعة.
ففي الملء الأول في مارس/ آذار 2020، خرج وزير الخارجية الإثيوبي جودو أندار جايتشو يقول: “الأرض أرضنا والمياه مياهنا والمال الذي يبنى به سد النهضة مالنا ولا قوة يمكنها منعنا من بنائه (..) سوف نبدأ في التعبئة الأولية لخزان سد النهضة بعد 4 شهور من الآن”.
حينها عبّرت القاهرة عن غضبها إعلاميًّا فقط، فيما عقد الرئيس المصري اجتماعًا موسّعًا بقادة الجيش، والذي أكد خلاله على ضرورة الاستمرار في التحلي بقمة درجات الحيطة والحذر، مع الإشارة إلى الوصول إلى الجاهزية الكاملة لتنفيذ أي مهام توكل للمؤسسة العسكرية لحماية أمن مصر القومي، لكن شيئًا لم يحدث، فقد انتهت أديس أبابا من الملء الأول دون أن تحرك القاهرة ساكنًا.
وفي 30 مارس/ آذار 2021، وجّه السيسي تحذيرًا شديد اللهجة خلال مؤتمر صحفي عُقد بمركز تابع لهيئة قناة السويس بمحافظة الإسماعيلية، قائلًا: “نحن لا نهدد أحدًا لكن لا يستطيع أحد أخذ نقطة مياه من مصر (..) وإلا ستشهد المنطقة حالة عدم استقرار لا يتخيلها أحد.. لا يتصور أحد أنه بعيد عن قدرتنا (..) مياه مصر لا مساس بها والمساس بها خط أحمر، وسيكون رد فعلنا حال المساس بها أمرًا سيؤثر على استقرار المنطقة بالكامل”.
الخارجية المصرية تندد بإعلان إثيوبيا إتمام ملء سد النهضة وتعتبره غير قانوني pic.twitter.com/MEwU74ROiy
— TRT عربي (@TRTArabi) September 11, 2023
استبشر المصريون خيرًا بتلك اللهجة والتغير الذي شهده الخطاب المصري في التعامل مع هذا الملف الحيوي، لكن في يوليو/ تموز من العام نفسه، أي بعد أقل من 4 أشهر على تحذير السيسي، جاء الرد الإثيوبي على لسان وزير المياه والري والطاقة، سيليشي بيكيلي: “اكتمل الملء الثاني لسد النهضة والمياه تتدفق، وهذا يعني أن لدينا الآن كميات المياه الضرورية لتشغيل التوربينين، وهو ما يكفي ليبدأ مشروع السد في توليد طاقة كهربائية”.
الأمر تكرر في الملء الثالث الذي كان في أغسطس/ آب 2022، حين أعلنت أديس أبابا تخزين 22 مليار متر مكعب من المياه، وذلك بعد ساعات من تدشين ثاني توربينات توليد الكهرباء، فيما نقل التلفزيون الرسمي الإثيوبي عن آبي حمد الذي كان يزور السد قوله: “مقارنة بالعام الماضي، وصلنا إلى 600 متر، بنحو 25 مترًا أعلى من الملء السابق”، مضيفًا: “النيل هبة أعطاها الرب لنا نحن الإثيوبيين لكي نستفيد منها”.
وعلى مدار مراحل الملء الثلاثة، وما تلاها من المرحلة الرابعة التي تمّت في 10 سبتمبر/ أيلول الجاري، لم يتجاوز رد الفعل المصري حاجز بيانات الشجب والإدانة والاستنكار والتلويح بتدويل الملف، وهو ما كانت تتعامل معه الحكومة الإثيوبية وإعلامها الرسمي باستخفاف وتجاهل واضح.
تبعات كارثية.. الارتضاء بالأمر الواقع
بإجماع الخبراء، فإن إتمام مراحل الملء الأربعة لسد النهضة ستُحدث كارثة محققة في خارطة مصر المائية، وستؤثر بطبيعة الحال على حصة المصريين من مياه النيل والمقدَّرة بنحو 55.5 مليار متر مكعب سنويًّا، هذا بخلاف الهزة الكبيرة المحتملة في منظومة الزراعة، وما لذلك من تبعات على الأمن الغذائي المصري خلال السنوات المقبلة.
خبير المياه وأستاذ الجيولوجيا المصري، عباس شراقي، وهو أحد المتابعين عن كثب لمسار المفاوضات بشأن السد، حذر أكثر من مرة من أن أي كميات من المياه سيتم تخزينها خلف سد النهضة ستكون من حصة مصر والسودان، ما يعني خسائر فادحة ستتعرض لها الدولتان، لافتًا أن مليار متر مكعب من المياه من الممكن أن يحقق عائدًا اقتصاديًّا قدره مليار دولار، وعليه فإن خسارة أي جزء من حصة مصر المائية تعني خسارة اقتصادية كبيرة.
ويبدو أن القاهرة بدأت تتعامل مع تلك الأزمة كأمر واقع، فرغم التصريحات والشعارات الخاصة بعدم تخلي مصر عن نقطة مياه واحدة، والتي ثبت لاحقًا أنها للاستهلاك المحلي، بدأت الحكومة المصرية في اتخاذ بعض الإجراءات التي تكشف عن الارتضاء بما حدث كواقع لا يمكن تجاهله، ليبدأ التفكير فيما هو قادم، حيث الإجراءات العاجلة لإنقاذ الموقف والتعامل معه بحذر.
وعليه تم تحديد مساحة الأرزّ -أحد المحاصيل التي تستهلك المياه بكثرة- بحوالي 1.1 مليون فدان مقارنة بـ 1.2 مليون فدان خلال عام 2020، بجانب تنفيذ برامج لمعالجة المياه وتحلية مياه البحر بتكلفة تبلغ أكثر من 80 مليار دولار، والبدء في تنفيذ مشاريع قومية كبرى قائمة على إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي المعالج، إضافة إلى مشاريع تبطين الترع والمصارف للحفاظ على الفاقد المائي، وكلها مشاريع تستهدف تقليل كميات المياه المستهلكة في محاولة لتعويض الفاقد بسبب سدّ النهضة.
في ضوء المؤشرات السابقة، وبعد انتهاء أديس أبابا من مراحل الملء الأربعة، وبصرف النظر عن أي مسارات جديدة للتفاوض خلال المرحلة المقبلة، يمكن القول إن إثيوبيا حققت ما تريده بنجاح غير منقوص، فيما خسرت القاهرة معركتها الدبلوماسية بتداعيات كارثية تضع أمنها المائي في خطر، ليُضاف إلى قائمة الفشل المطولة في العديد من المجالات الاقتصادية والحقوقية والسياسية التي تعاني منها الدولة المصرية في السنوات العشر الأخيرة.