بينما انفض اجتماع أستانة بين الوفود الضامنة لوقف إطلاق النار مع النظام والمعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري في أستانة أمس الخميس 16 من شباط/ فبراير، حيث ناقشوا آليات وقف إطلاق النار التي أثبتت حتى الآن فشلها وعدم جدية الروس في تطبيق الالتزامات وبانتظار جنيف 4 الذي تقرر في الـ23 من الشهر الجاري، اندلعت معركة حامية في الجنوب السوري تأمل في قلب الموازين وخلط الأوراق من جديد.
المعارك في درعا تعود بعد غياب طويل
بعد هدوء دام لنحو عام على جبهات مدينة درعا، كان آخرها معركة “عاصفة الجنوب” في المدينة والتي لم يتمكن الثوار خلالها من تحقيق أي تقدم، واتهام الفصائل بالخيانة من قبل حاضنتها الشعبية بعد برود جبهات القتال مع النظام، أعلنت فصائل منضوية في غرفة عمليات البنيان المرصوص يوم الأحد الماضي 12 من شباط/ فبراير انطلاق معركة تحت مسمى “الموت ولا المذلة” لصد هجوم قوات النظام وحلفائه على منطقة الجمرك القديم واستعادة الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام في درعا البلد وأهمها حي المنشية الحصن الحصين لقوات النظام في المكان.
علمًا أن الفصائل المشاركة شكلت غرفة “البنيان المرصوص” دون ذكر اسم لأي فصيل مشارك في العملية كبُر أو صغُر، وتضم غرفة العمليات جميع الفصائل المنضوية في القسم المحرر من مدينة درعا التي تم تشكيلها منذ نحو سنة.
ابتدأت الفصائل المعركة بعربتين مفخختين استهدفتا مواقع قوات النظام في حي المنشية، تسببت بمقتل وجرح عناصر من النظام والمليشيات المقاتلة معه، بالإضافة إلى تفجير نفق تحت مركز لقوات النظام في الحي.
حي المنشية يعد خط الدفاع الأول عن مركز مدينة درعا وهو أكبر أحياء درعا البلد وأهمها والمطل بشكل مباشر على درعا المحطة وعلى مبنى الأمن العسكري واللواء 132
وعن هدف العملية أفاد “أبو شيماء” مدير المكتب الإعلامي لغرفة عمليات “البنيان المرصوص” أن العملية العسكرية التي أطلقتها الفصائل الثورية في درعا البلد جاءت لإبعاد شبح القصف اليومي الذي لم يتوقف رغم الهدنة وعمليات وقف إطلاق النار في عموم سوريا برعاية الضامنين روسيا وتركيا وإيران، وردًا على محاولات قوات الأسد مؤخرًا بالتعاون مع مليشيات إيران الوصول إلى معبر نصيب الحدودي مع الأردن والسيطرة عليه، حيث يعتبر الرئة الاقتصادية المهمة في سوريا والذي يسعى النظام من خلاله إلى تحسين الاقتصاد السوري المتهالك.
وحسب مراقبين فإن انطلاق المعركة جاء بعد محاولة النظام للسيطرة على المعبر الحدودي مع الأردن، من أجل إعادة إنعاش اقتصاده المتهاوي، وبدأ بالمعركة مستخدمًا القصف التمهيدي بالصواريخ والغارات الجوية على المعبر والقرى المحاذية له، لذا سارعت فصائل “الجبهة الجنوبية” والثوار إلى قطع الطريق على النظام، والرد على خروقاته، بإعلان بدء معركة “الموت ولا المذلة” الهادفة إلى تحرير حي المنشية.
تواصل الفصائل المعارضة لليوم الخامس على التوالي هجومها على مواقع ومقرات النظام والميليشيات في حي المنشية بدرعا البلد، حيث تدور اشتباكات عنيفة في محور الإرشادية وسط قصف مدفعي وصاروخي على المنطقة، تمكنت الفصائل خلالها من السيطرة على عدد من الأبنية والكتل الاستراتيجية التي ظلّت لخمس سنوات تحت سيطرة النظام، ومنها كتلة النجار، الحصن المنيع لها في الحي، وحسب غرفة العمليات فإن المعارضة تمكنت من السيطرة على ما يقرب من نصف الحي تقريبًا، وبقي بيد النظام نقاط رئيسية هي نقطة الإرشادية وحاجز أبو جمرة وحاجز السلوم.
تمكنت مراصد المعارضة من رصد مكالمات ورسائل متبادلة بين الطائرات الحربية التابعة للنظام وروسيا والمطارات الإسرائيلية لتنسيق الطلعات الجوية فيما بينها
وفي هذه الأثناء أفرغ طيران النظام بإسناد من الطيران الروسي حممه من البراميل المتفجرة على المدنيين في درعا البلد والقرى المحيطة، للضغط على الفصائل وإيقاف تقدمهم في حي المنشية، حيث أعلنت “قاعدة حميميم العسكرية”، أن الطائرات الروسية تقدم الدعم الجوي اللازم للقوات السورية في مدينة درعا، “بعد تعرضها لهجوم قوي من مجموعات متطرفة، غير مشمولة بوقف إطلاق النار”.
كما ساهمت أيضًا إيران في المعركة من خلال مليشياتها الموجودة في درعا إذ نعت وسائل إعلام إيرانية القيادي في مليشيا الحرس الثوري الإيراني الرائد “مصطفى زال نجاد” الذي قتل على جبهة المنشية.
وحسب مراصد الطائرات التابعة للمعارضة فإن الطائرات الحربية لم تتوقف عن قصف مناطق المعارضة طيلة أيام المعركة، ووصفت القصف بأنه عنيف جدًا، وحسب ما أورد موقع المدن عن مرصد المعارضة للطائرات فقد جرى لأول مرة تنسيق بين جميع الطائرات الحربية مع مراصد المطارات الإسرائيلية، وتمكنت مراصد المعارضة من رصد مكالمات ورسائل متبادلة بين الطائرات الحربية التابعة للنظام وروسيا والمطارات الإسرائيلية لتنسيق الطلعات الجوية فيما بينها.
وقد أوقع القصف قتلى وجرحى في صفوف المدنيين وعطّل المشافي الميدانية في المنطقة بعد الاستهداف المتعمد لها، كما تم استهدف الخزان الرئيسي للمياه الذي يغذي مدينة درعا، وأدت ضراوة القصف والغارات التي بلغ عددها نحو 50 غارة لنزوح نحو 4 آلاف عائلة كانت موجودة بمنطقة المعركة باتجاه المزارع المجاورة وسط ظروف جوية صعبة ونقص في الحاجات الأولية من خيم وأغطية وفرش وغيرها، بينما يقف المجلس المحلي للمحافظة عاجزًا أمام هذه الأوضاع التي تفوق قدرته في ظل توقف الدعم منذ 3 أشهر كما يؤكد ناشطون من المحافظة.
يواجه المرضى والمصابون في درعا أوضاعًا صعبة بسبب عدم استقبالهم من الحدود الأردنية في خطوة مستهجنة من الجانب الأردني لا يوجد لها تفسير رسمي حتى اللحظة
ولمواجهة الظروف الصعبة في منطقة المعركة عمل المشفى الميداني في درعا البلد الذي خرج عن الخدمة جراء قصفه بالطيران، على تقسيم عناصر المشفى إلى مجموعات تعمل كل مجموعة في مكان بشكل منفصل حفاظًا على أرواحهم، في ظل نقص كبير في المواد الطبية والمستلزمات والأدوية.
ويواجه المرضى والمصابين هناك أوضاعًا صعبة بسبب إغلاق الحدود الأردنية أمام الجرحى في خطوة مستهجنة من الجانب الأردني لا يوجد لها تفسير رسمي من طرف الأردن حتى اللحظة، حيث اعتادت المنطقة الجنوبية نقل الجرحى من الحالات الصعبة إلى المشافي الأردنية لتلقي العلاج في فترة معينة ومن ثم العودة إلى الداخل السوري، وبالأخص جرحى الفصائل العسكرية.
ومن الواضح أن هذه الخطوة تعد عقوبة للفصائل من جانب الأردن بعد رفض الفصائل إيقاف المعركة، حيث أفادت غرفة “البنيان المرصوص” بتلقيها اتصالات من الجانب الأردني طلب فيها وقف المعركة، من دون تقديم أي بديل للمعارضة، وتبرير ذلك بـ”ضرورة الحفاظ على العملية السياسية وبقاء الأردن كطرف ضامن للمعارضة”، وأشار مدير المكتب الإعلامي للعملية بأن “الضغوط الإقليمية لا تعنينا” وأكد على “استمرار المعركة لتحقيق أهدافها”.
ويعد حي المنشية في درعا البلد معقل للنظام ومليشياته وخط الدفاع الأول عن مركز مدينة درعا ويعتبر أكبر أحياء درعا البلد وأهمها والمطل بشكل مباشر على درعا المحطة وعلى مبنى الأمن العسكري واللواء 132، فالحي يتمتع بأهمية استراتيجية بالنسبة للنظام ما يحتم عليه خوض معركة استبسال لا رجوع عنها، فخسارته للحي تعني أن استعادته ستكون غاية في الصعوبة بسبب تضاريس المنطقة حيث سيصبح “وادي الزيدي” هو الفاصل بين درعا المحطة وحي المنشية، وهو ما يفسر استقدام النظام تعزيزات كبيرة من مدينة إزرع القريبة من درعا في محاولة منها لاستعادة المناطق التي خسرتها في الأيام الماضية.
أما بالنسبة للفصائل فهي تفتح لهم السيطرة النارية على أحياء درعا المحطة حيث توجد الأفرع الأمنية ومباني المحافظة الحكومية وربما السيطرة على مدينة درعا بشكل كامل في حال أرادوا ذلك.
وقد أدان الائتلاف السوري استهداف النظام وداعميه مدينة درعا وريفها، وحمل المجتمع الدولي مسؤولية المجازر التي تُرتكب بحق الشعب السوري وجاء في بيان له أن “قوات النظام، مدعومة بطائرات حربية روسية وميليشيات تابعة لإيران، ارتكبت نحو 80 خرقًا لاتفاق وقف إطلاق النار، خلال الأيام الثلاث الماضية فقط، كان بينها أكثر من 30 خرقًا في مدينة درعا وريفها، أسفرت عن وقوع مجازر راح ضحيتها ما لا يقل عن 47 شخصًا، أغلبهم مدنيين”
موقف الأردن من المعركة
تحفظ الأردن على المعركة والرافض لها في الوقت الحالي يأتي كما يرى محللون ضمن رؤيته للصراع السوري، القائمة على محاربة داعش وحماية حدوده من الخطر المحدق بها، وهذه الرؤية برأي محللين تتماهى مع الخطة العامة الدولية لمحاربة داعش والتي تعتمد من جهة على تركيا والأردن للاضطلاع بهذا الدور بحكم اطلاعهما على تفاصيل المشهد على الأرض والفصائل العاملة هناك ووجود غرف دعم عسكرية هي “الموك” في الأردن و”الموم” في تركيا، ومن جهة أخرى مراعاة السياق السياسي من خلال اجتماعات أستانة وجنيف 4، لذا بوصلة الاهتمام الإقليمي والدولي باتت تركز على محاربة داعش أكثر من العملية السياسية نفسها.
وتطرح وزارة الخارجية الأمريكية خطة تقوم على عدد من المحددات منها فرض هدنة لوقف إطلاق النار بسوريا حسب خطوط الاشتباك بحيث يكون الراعي فيها الأردن في الجنوب وتركيا في الشمال، وأمريكا في منطقة الجزيرة والروس في الساحل ومناطق النظام، بحيث يتم العمل من قبل الجميع على محاربة داعش وتحويل مناطق سيطرتها بعد طردها إلى مناطق حماية دولية، ويعد هذا الخيار واردًا بعد إعلان ترامب إنشاء مناطق آمنة في سوريا بدأت عمليًا من خلال اقتراب الحسم بسيطرة درع الفرات على مدينة الباب السورية والكلام عن استنساخ درع فرات في الجنوب السوري.
ويرى متابعون أن موقف الأردن المتحفظ على المعركة الحالية في درعا البلد، يأتي منسجمًا مع خطوات اتخذها مؤخرًا للتقارب مع النظام السوري والتنسيق ميدانيًا بين قواتهما في الجنوب السوري، فالأردن وبحسب تحليلات يراهن على مزيد من التفاهمات مع النظام السوري وروسيا لضبط إيقاع الوضع في الجنوب، وهنا يجدر التنويه إلى ما أكده ناشطون عن استخدام الطيران الروسي وطيران النظام للأجواء الأردنية في الإغارة على درعا البلد إذ لا يبعد حي المنشية عن الحدود الأردنية سوى بضعة كيلومترات.
وكانت المقاتلات الأردنية أغارت على أهداف لتنظيم الدولة الإسلامية على مناطق في جنوب سوريا متاخمة للحدود الشمالية للأردن، علمًا أنها نفذت غاراتها بشكل منفصل عن التحالف الدولي الذي تنخرط الأردن فيه منذ سبتمبر/ أيلول 2014.
وقد لفت بيان الجيش الأردني أن الغارات تزامنت مع الذكرى الثانية لإعدام تنظيم “داعش”، الطيار الأردني معاذ الكساسبة، ولعل في هذا دلالة على رفع معنويات القوات المسلحة وتعزيز ثقة المواطن الأردني بقدرة القوات العسكرية الأردنية بحمايتهم من “الإرهاب”، ويرى خبراء أن الغارات بعثت رسالة إلى الإدارة الأمريكية الجديدة أن الأردن لا يكتفي بمكافحة “الإرهاب” فقط بل بمحاربته أيضًا ورسالة إلى الروس أن للأردن دور محوري في الجبهة الجنوبية السورية وأن المنطقة الجنوبية من سوريا هي منطقة نفوذ أردنية.
ومن جهة أخرى جاءت هذه الغارات تزامنًا مع ختام زيارة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني الأولى إلى أمريكا ولقائه بترامب، وسبقها زيارته إلى روسيا ولقاءه بالرئيس فلاديمير بوتين، مؤكدًا لكليهما أن محاربة “الإرهاب” يأتي من منطلق المصلحة الوطنية والمصلحة الإقليمية الرامية إلى إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية، وهو دور يُبقي المملكة داخل معادلة الصراع، سواء تطابقت وجهتا النظر الأمريكية – الروسية حيال نهايته أو اختلفتا كما يشير لذلك محللون.
من المتوقع أن يتمثل الدور الأردني بزيادة فعالية الأردن في الجبهة السورية الجنوبية، لناحية استهداف “داعش” بما يقلل من خطرها على الأردن
كما أن تلك الغارات جاءت في وقت تشهد فيه العلاقات العسكرية الأردنية – السورية تطورًا ملحوظًا بات يأخذ طابع التنسيق المباشر ويُرجح خبراء عسكريون أنه كان حاضرًا في الغارات الأخيرة، ومن غير المستبعد أن تكون هذه الغارات مقدمة لدور أكبر ستؤديه القوات الأردنية في الجنوب السوري، بالتنسيق مع الجانب الروسي، الذي تجمعهما تفاهمات بخصوص ضبط الجبهة الجنوبية.
وبحسب تحليلات عسكرية فإن جميع المؤشرات تبيّن أن العملية تمت بالتنسيق مع الجيش السوري، مما يعني بحسب خبراء أن العلاقات العسكرية بين البلدين، وإن كانت لم تنقطع كما يقول المسؤولون، فإنها تتحسن بشكل كبير. ويؤكد هذا حديث رئيس هيئة الأركان المشتركة الأردنية الفريق محمود فريحات، الذي نفى، في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية، أن تكون بلاده عملت ضد النظام السوري، وأكد استمرار الاتصالات معه عبر قنوات عسكرية.
على كل حال، من المستبعد تطور الدور الأردني لإدخال قوت برية أردنية إلى سوريا كما حصل في الشمال مع درع الفرات، ولن يذهب الدور الأردني حاليًا بأكثر من الإغارة على مواقع داعش في الجنوب، والتكريس في أذهان الأمريكان والروس أن المنطقة الجنوبية تتبع للنفوذ الأرني، لذا يتوقع كثير من المحللين أن يتمثل الدور الأردني بزيادة فعالية الأردن في الجبهة السورية الجنوبية، لناحية استهداف “داعش” بما يقلل من خطرها على الأردن.
ويبدو أن مطبخ الاتفاقات الدولية والذي يعد الأردن جزءًا منه وقد شمل درعا بالتأكيد، قرأته فصائل المعارضة في درعا بأنه مخطط لتحييد سلاحها عن مواجهة النظام وتشكيل فصيل موحد لمواجهة داعش، وهذا يعد انحراف عن الهدف الرئيسي لفصائل المعارضة المتمثل بقتال النظام وإسقاطه، فضلًا عن أن هذا الأمر سيقود إلى الاعتراف بنظام الأسد والسير في وأد الثورة السورية بذريعة قتال داعش، لذا فإن الفصائل أرادت توجيه رسائل تنبيه، برفضها أن تُدرج ضمن تفاهمات قوى إقليمية تحيد سلاحها عن مواجهة النظام ويتم توجيهها لقتال داعش فقط.