يواصل فيلم “مانشيستر على البحر” عروضه في ظل ثناء نقدي وإقبال جماهيري كبير منذ عرضه في مهرجان صاندانس في يناير العام الماضى.
الفيلم مرشح للتنافس على ست جوائز أوسكار هي: أوسكار أفضل فيلم، وأفضل سيناريو أصلى، وأفضل إخراج لكينيث لونرجان، وأوسكار أفضل ممثل لكيسى أفليك، وأفضل ممثل مساعد للوكاس هيدجيز، وأفضل ممثلة مساعدة لميشيل ويليامز.
الفيلم هو الثالث في مسيرة “لونرجان” الإخراجية خلال 17 عام. ربما يكون عنوان الفيلم الأفضل هو “الذي لا يغتفر” كعنوان مشابه لعنوان فيلم كلينت إيستوود الفائز بالأوسكار قبل 25 سنة، فالفيلم يرصد حياة ويتعمق في ذاكرة رجل لا يستطيع أن يتجاوز حادث مأساوى قد تسبب في حدوثه، ولا الإحساس الهائل بالذنب الذي لا يغتفر والذي لا يسمح له ببدء حياة جديدة أو حتى لحظة يشعر فيها بالسعادة، فهو قد تجمد في ألمه وذنبه الهائل، يعيش بعزلة تامة مستغرقًا في عمله الروتينى كعامل صيانة يقوم بإصلاحات السباكة والكهرباء لبضعة مبانى سكنية في مدينة بوسطن.
وهو لا يسمح لأحد بأن يخترق عزلته تلك ممن يتعامل معهم يوميًا من السكان خاصة النساء، فهو لا يرغب في أن يقيم علاقة مع أحد، وهو منزوى في عزلته تحت الجليد المتراكم، حتى عندما يذهب إلى بار فهو كمن يغطس في كؤوس الخمر ليغرق بها أي إحساس قد يشعر به، وهو يتجاهل الفتيات المثيرات اللاتي يعرضن عليه الصحبة الدافئة وعلى وجوههن ابتسامة لطيفة حيث يرد عليهن بردود مقتضبة تقطر برودًا، ويفضل على تلك الرفقة السعيدة أن يفتعل شجارات مع الرجال في البار، وأن يرمى جسده تحت اللكمات، يفرغ فيها إحساسه الشنيع بالغضب حيث يجد فيها جلدًا وإيلامًا وتعذيبًا للذات يستحقه، وسقوط لا نهاية له في الألم.
الفيلم يروى من خلال ذاكرة ” لى شاندلر” في مشاهد فلاش باك استرجاعية لنتعرف على خلفيته الاجتماعية والإنسانية، حيث يعود إلى مدينة مانشيستر بعد وصول خبر وفاة أخيه ليتولى إجراءات الدفن، وليعلم بأنه الوصى القانونى على ابن أخيه المراهق باتريك. ويرصد الفيلم إمكانية أن يعود (لى ( إلى مدينته التي هرب منها لكى يتحمل مسئولية ابن أخيه.
هل بإمكانه نسيان الماضى وقد أصبح في مواجهة حتمية معه؟ هل يستطيع أن يغفر لنفسه وأن يبدأ من جديد بعد خسارته الشنيعة لابنتيه الصغيرتين في حادث مأساوى كان هو السبب فيه؟ إن زوجته التي انفصلت عنه والتى شاركته فقدان الخسارة الكبير استطاعت أن تبدأ حياة جديدة وأن تحمل طفلا أخر في رحمها، ربما لأنها لم تشاركه عقدة الذنب، وهي تتصل به وقد استطاعت أن تغفر له لتواسيه في فقدان أخيه وترغب في حضور الجنازة.
إن “راندى” الزوجة والتى نراها في مشاهد فلاش باك استرجاعية هي امرأة قوية فظة قليلًا وجميلة، لكن نراها الآن رقيقة تكتم ألمها بداخلها وتواصل الحياة، وهي تغفر لزوجها السابق وتحاول مواساته وتتمنى لو أنه يستطيع أن يكمل حياته، رغم أنها تعلم أن قلبيهما قد تحطما إلى الأبد.
وفى مشهد العزاء تحتضن لى وباتريك وكل من شاركها حياتها الماضية كمن يبكى فوق أطلال محترقة، وموسيقى المشهد من مقطوعة المسيح لهاندل لتستحضر إحساس دينى بقوة آلهية تتولى رعاية البشر وهدهدة آلامهم من خلال الحب المتبادل بينهم، حتى لو كان في غير استطاعتهم التعبير عن هذا الحب أو هذا الألم بالكلمات. فكما يقول المخرج ” نحن لا تعبر عن أنفسنا بالكلمات بل بالصمت وبمعاناة العثور على الكلمات التي تعبر عما بداخلنا حقا”.
في المشاهد التي تجمع بين لى وراندى نجدهما يتواصلان دون أن يجدا الكلمات المناسبة ويكون الحوار هو من قبيل تلك الجمل الاعتيادية ” كيف حالك؟” “لا أعرف” من الطرفين. وهي عندما توقفه في الشارع لكي تتكلم معه لا تجد الكلمات ثم تنهمر منها الدموع التي يهرب (لي) منها، لأنها على وشك أن تتسبب في إطلاق الصرخة الصامتة التي يكتمها في أعماقه. يكتشف أنه لن يستطيع أبدًا التجاوز عن ماضيه وعن ذنبه، لذا فعليه أن يبتعد ليتجمد في حزنه في مكان منزوى. حتى علاقته مع ابن أخيه لن تخرجه من حالة الحزن الأبدى تلك.
وهنا يعرض لونرجان حياة المراهق ” باتريك” كنقيض إنسانى لحالة العم، فباتريك رغم خسارته لوالده وعدم وجود أمه إلى جواره إلا إنه يستطيع أن يتعايش مع ألمه، بأن يضع نفسه في حالة خدر نموذجية، فهو يلهي نفسه من خلال صداقاته وبالحديث عن مسلسل ستار تريك، وبممارسته الجنس مع صديقته المراهقة في وجود عمه، وعنده المدرسة وفريق هوكى الجليد، وباند موسيقى يمارس فيه العزف والغناء، وهو لا يكتفى بصديقة واحدة يمارس معها الجنس بل يصاحب فتاة أخرى ويحاول أن يحضر عمه إلى منزل صديقته لكى يجلس مع أم الفتاة لمدة نصف ساعة كافية لينفرد بصديقته في غرفة نومها بعيدًا عن تدخلات الأم.
لكن العم لى كالعادة لا يستجيب لتودد الأم وهي سيدة أمريكية في منتصف العمر مازالت تتمتع بالجمال والجاذبية والقدرة على الاستمتاع بالحياة، فيفسد برود العم لى تجاه الأم مخطط ابن أخيه، حيث تصعد الأم إلى غرفة ابنتها لتقطع اللقاء الجنسى الذي كان على وشك البدء وتشكو للمراهق عمه الذي يجلس صامتًا كالتمثال أمامها فهي لن تتحمل أكثر من ذلك، وفى طريق العودة يعاتب المراهق عمه، ويتساءل هل صعب عليه أن يتحدث مثل بقية الناس في أى هراء ولو لمدة نصف ساعة؟
وأغلب المواقف بين لى وابن أخيه تكون ناتجة عن عدم الفهم المشترك نتاج نفسيات متباينة لا تستطيع أن تتجاور أو تتواصل. حتى في مشهد نوبة الذعر التي تصيب الفتى عندما يبكى أمام الدجاج المتجمد المتساقط من الثلاجة، والذي ذكره بجثمان أبيه المحفوظ في ثلاجة المشرحة إلى أن يستطيعون دفنه في الربيع، لا يستطيع العم أن يتصرف فيقول أنه سيذهب به إلى المستشفى إذا تكررت حالة الهلع تلك في كل مرة يرى فيها دجاجة مجمدة.
بالنهاية يعهد لى بابن أخيه باتريك إلى رعاية صديقه جوزيف وزوجته، فهما الأقدر على رعاية الفتى بعدما ثبت فشله في تجاوز يأسه أو مشاركة الفتى حياته بشكل أمثل.
تكمن قوة الفيلم في السيناريو والتمثيل، خصوصًا أداء كيسى أفليك الذي يعتبر الأبرز في مسيرته التمثيلية، وميشيل ويليامزالتي لا تتجاوز مدة وجودها على الشاشة ربع ساعة إلا أن مشهد لقاءها مع لى في الشارع كان كافيًا لترشيحها للأوسكار حيث كان أحد أكثر المشاهد عاطفة شاهدها الجمهورهذا العام. وأما لوكاس هيدجيز والذي قام بدور ابن الأخ المراهق فكان رائعا، خصوصًا في مشهد نوبة الهلع التي بينت مدى هشاشته النفسية، والتى كان يحاول أن يخفيها طوال الفيلم.
بالنهاية فيلم مانشيستر على البحر هو عن الحيوات المتداخلة، وعن الحيوات التي تحاول أن تبزغ من جديد من رحم أم ثكلى، فيلم عن الذنوب التي لا تغتفر وعن الجروح التي لن تندمل أبدا، والتى تنزف وجعها بغزارة من أقل لمسة حانية، لذا تفضل أن تتجمد في عزلتها بعيدا عن أي صلة إنسانية أوعاطفية. فيلم جدير بالمشاهدة وجدير بالمنافسة في موسم جوائز الأوسكار لهذا العام.