ترجمة وتحرير نون بوست
بحلول أيلول/ سبتمبر 2020، سيبلغ حلف شمال الأطلسي عامه 71 منذ تاريخ تأسيسه تزامنا مع توقيع معاهدة واشنطن في آب/ أغسطس، وبذلك ستعلن 12 دولة التزامها بالدفاع عن بقية الدول الأعضاء على الدوام. لكن هذا الطموح قد انتهى بطريقة مخزية يوم الخميس الماضي، عندما أغلقت بوابة مقر حلف شمال الأطلسي الواقعة في بروكسل من قبل حارس أمن فلمندي يدعى، كارل فان آخن.
على المستوى التقني، لازالت منظمة حلف شمال الأطلسي قائمة بذاتها، حيث لاتزال المعاهدة سارية المفعول مع عضوية 28 دولة في الحلف. ومن الناحية النظرية، تنص بنود معاهدة حلف شمال الأطلسي على دفاع الدول الأعضاء عن بعضهم البعض، وعلى الرغم من ذلك فإن المؤتمرات التي عقدتها خلايا التفكير مازالت تواصل مناقشة الجدل القائم حول “الدور الذي يضطلع به الناتو” في ظل الأوضاع الراهنة، في قاعات المجلس المزخرفة. وفي الأثناء، لم تتخلى جورجيا عن طموحها بالانضمام إلى الحلف حتى لو كان مبتغاها رهين المستقبل البعيد.
في الواقع، وقبل وقت طويل من مغادرة الأمين العام لحلف الناتو، غيرهارد شرودر، لمقره شبه الفارغ تقريبا في الشهر الماضي، كان جليا لمتابعي هذا الشأن على مدى السنوات الأخيرة، أن حلف الناتو قد ولى عهد قوته وازدهاره، التي يشهد لها التاريخ، وأضحى مجرد منظمة جوفاء لا تمت لواقعها بصلة.
في الحرب الباردة، في منطقة البلقان وأفغانستان وليبيا وغيرها من الدول، أدرك رؤساء الولايات المتحدة والقادة الأوروبيون أن حلف الناتو لم يؤمن لهم قدرة عسكرية فحسب، ولكن أيضاً آلية لحشد الحلفاء وتأمين شرعية أوسع للأولويات الدفاع الخاصة بهم
وتجدر الإشارة إلى أن حلف الناتو لم تدمره الجيوش الروسية وإنما دُمّر بسبب تقاعس الدول الأعضاء. وفي الأثناء، إن قصة زوال هذه المنظمة تفضي إلى أنه في بعض الأحيان قد تكون نهاية أي تحالف جراء التذمر وليس بسبب ضربة قاضية أطاحت به.
التذمر الطويل
بالنسبة لحلف الناتو، انطلق التذمر الطويل بشأن إنهاء دوره كمنظمة مع تنصيب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في كانون الثاني/ يناير 2017. وخلال الحملة الرئاسية في الولايات المتحدة خلال سنة 2016، وقف ترامب ضد حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية التي كان يؤمن بأنها لا تتحمل أعباء الدفاع عن نفسها. وفي هذا السياق، لمح ترامب إلى أنه في حال تولى رئاسة البلاد لن يدافع عن الدول التي لا تدفع نصيبها من الإنفاق العسكري. فضلا عن ذلك، أثار ثناءه على الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مزيدا من الخوف والقلق في أوروبا الغربية لأن في ذلك إشارة إلى أنه قد يتركها تحت رحمة روسيا.
وبمجرد توليه رئاسة الولايات المتحدة، أصبح موقف ترامب تجاه أوروبا وحلف شمال الأطلسي أكثر رصانة مما كان عليه أثناء الحملة الانتخابية. فقدعيّن ترامب وزراء قد أشادوا بحلف شمال الأطلسي خلال جلسة تأكيد تعيينهم، فضلا عن تصريحه لرئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، بأنه “يدعم حلف الناتو مائة بالمائة”.
وبين ليلة وضحاها انقلب إلى النقيض، ليعود من جديد إلى خطاب التقريع الموجه لحلفاء الولايات المتحدة معتبرا أن حلف شمال الأطلسي قد عفا عليه الزمن، بالإضافة إلى أنه تهجم على الاتحاد الأوروبي معتبرا إياه إحدى المؤامرات المحاكة من قبل ألمانيا.
وعلى ضوء السياسة المتذبذبة التي يتبعها ترامب، فإن كل خطاب يدلي به يكون متبوعا بجولة جديدة من الاضطرابات الصحفية المثيرة للجدل في الدول الأوروبية. ومع ذلك، لم تطرأ الكثير من التغييرات على الميدان، إذ لم تغادر القوات الأمريكية أوروبا، ومازالت الطائرات الأمريكية تشارك في الدوريات في سماء البلطيق، علاوة على أن الجنود الأمريكيين مازالوا يشاركون في التمرينات العسكرية التابعة لحلف الناتو. وفي خضم الجدل القائم حول حلف الناتو، فإن قوته في العالم كحلف عسكري ليست سوى حبر على ورق.
في البداية، وبعيدا عن حل التحالف، يبدو أن تهديدات ترامب قد حفزت الأوروبيين بطريقة أو بأخرى على إعادة النظر في الدور الذي يضطلع به حلف شمال الأطلسي وهو ما فشل الرؤساء السابقون في فعله.
في الحقيقة، تخصص الدول الأوروبية نسبة 2 بالمائة من ناتجها الداخلي الخام للإنفاق الدفاعي، فضلا عن أنها قد أنشئت آليات دفاع مشتركة جديدة في مرحلة ما بعد البريكسيت. وفي الأثناء، ومع إصرار ترامب، أعلن حلف شمال الأطلسي عن أن مكافحة الإرهاب كانت مهمته الرئيسية وأنه قد شرع في جملة من الدراسات حتى يتبين طرقا من شأنها أن تساعده على تحقيق هذا الهدف الجديد.
أجمع الكثيرون في أوروبا أن وقت منظمة الناتو قد ولى، ولكن المملكة المتحدة والولايات المتحدة لم يكونا على استعداد للاستسلام والتخلي عنها
وفي نهاية المطاف، فإن هدف الناتو الجديد لا يختلف كثيرا عن الهدف الذي حدده سابقا خاصة فيما يتعلق بالموارد، حيث توقف الحلف عن مناقشة لب المهمة الماضية التي تتمثل أساسا في الدفاع عن الدول الأوروبية من العدوان الروسي. لكن هذه التغييرات على مستوى أهداف المنظمة، سمحت للرئيس ترامب بالادعاء بأنه قد نجح في التكيف مع التحالف وتطويعه وفقا لفلسفة “الولايات المتحدة أولا“.
وفي هذا الصدد، وخلال خطابه الشهير أمام برج إيفل في لاس فيغاس، قال ترامب “الآن وبدلا من خدمة الولايات المتحدة لحلف الناتو، سيعمل الناتو تحت إمرة الولايات المتحدة”. وفي الأثناء، يبدو واضحا من خلال هذا التصريح أن ترامب لم يعد يعتبر حلف الناتو منظمة عسكرية عديمة القيمة، بل على العكس، أصبح الحلف بمثابة رمز لكيفية إعادة هيكلة التحالفات الأمريكية لخدمة مصلحة الولايات المتحدة.
تفشي الفساد
وبعيدا عن الأبعاد الرمزية، لم يعد واضحا إن كان حلف الناتو قادرا على العمل لصالح أي طرف بعد الآن.
في أعقاب حرب الوكالة التي شنتها روسيا في أوكرانيا في منتصف سنة 2017، والتي أثارت حفيظة حلف الناتو، سارعت الدول الأعضاء لمناقشة هذه المسألة. في المقابل، كثفت الولايات المتحدة من جهودها في بناء جدار عازل في الحدود الشمالية لأوكرانيا، مما أدى تبعل إلى فشل حلف الناتو في التوصل إلى أي توافق بخصوص العقوبات الجديدة وحل المشكلة القائمة في شرق القارة العجوز.
وعلى خلفية هذه الأحداث، توصلت كل من بولندا وفرنسا وألمانيا إلى أن آلية التعاون الدائم المنظم في المجال الأمني (بيسكو) للدفاع عن مصالحها من أي عدوان هي الأنسب لتحقيق هذا الهدف. وبالاتفاق مع معظم شركائهم الأوروبيين، شرعت هذه الأطراف بالعمل في إطار هذه الآلية لتزويد الحكومة الأوكرانية بالإمدادات العسكرية اللازمة. في المقابل، أعلن حلف الناتو رسميا عن حياده حيال هذه المسألة. ونتيجة لذلك، غيرت روسيا من محور دعايتها السياسية، حيث انتقلت من التنديد بحلف الناتو والولايات المتحدة نحو انتقاد الاتحاد الأوروبي وألمانيا.
أما بالنسبة للشرق الأوسط، ففي مطلع سنة 2018، من المفترض أن يدخل الاقتصاد المصري في مرحلة السقوط الحر، وتنهار الحكومة. كما ستسود الفوضى في القاهرة، وسيظهر مئات الآلاف من اللاجئين على شواطئ اليونان وإيطاليا. ومرة أخرى، سيضطر حلف شمال الأطلسي إلى التدخل في مثل هذه الحالة، من خلال القيام بمهام بحرية لاعتراض وإعادة قوارب اللاجئين، فضلا عن أنه سيعيد النظر في التدابير الإنسانية الوقائية التي يجب اتباعها، على غرار البعثات التي أجريت في منطقة البحر الأبيض المتوسط في سنة 2016.
يبدو أن تهديدات ترامب قد حفزت الأوروبيين بطريقة أو بأخرى على إعادة النظر في الدور الذي يضطلع به حلف شمال الأطلسي وهو ما فشل الرؤساء السابقون في فعله
ولكن هذه المرة، من المتوقع أن يعارض أعضاء من أوروبا الشرقية، الذين ذاقوا ذرعا بحياد حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا، مشاركة الحلف في هذه المسألة. وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة، لم تتخذ أي موقف واضح من العدوان الروسي في أوكرانيا، والأمر سيان بالنسبة لحلف شمال الأطلسي.
وإثر ذلك، وفي كانون الثاني/ يناير 2019، نظمت إيران انقلاب في بغداد، وذلك رداً على قرار الولايات المتحدة بتفتيش قوارب الشحن التابعة لإيران في الخليج العربي وذلك بحثا عن شحنات الأسلحة.
وفي الأثناء، أصدر النظام الإيراني أمراً للقوات الأمريكية بالانسحاب من العراق، في الوقت الذي كانت فيه القوات العراقية الإيرانية تهاجم القوات التركية في منطقة كردستان العراق، بالإضافة إلى شروعها في تسليح المتمردين الأكراد في جنوب شرق تركيا.
في المقابل، طلبت تركيا، المدعومة من قبل إدارة ترامب، من منظمة حلف شمال الأطلسي، تنفيذ أحكام المادة الخامسة واعتبار الإجراءات التي أقدمت على تنفيذها إيران بمثابة اعتداءً واضحاً على أحد أعضاء المنظمة وأن تهب لنجدتها. خلافا لذلك، رفض الأعضاء الأوروبيون للمنظمة هذا الطلب رفضاً قاطعاً، بما في ذلك فرنسا وألمانيا وبولونيا وإيطاليا.
ومن اللافت للنظر أن هذه الدول قد أوفت بالتزامها المادي البالغ 2 بالمئة ضمن ميزانية المنظمة للدفاع عن الدول الأعضاء، كما أيدت قرار منظمة الناتو بمكافحة الإرهاب. ومع ذلك، رفضت هذه الدول الدفاع عن ما اعتبرته الولايات المتحدة وتركيا “إرهابا” إيرانيا في شمال العراق وجنوب شرق تركيا.
ونتيجة لرفض منظمة الناتو طلب تطبيق المادة الخامسة قدم الأمين العام للمنظمة، ينس ستولتنبرغ ، استقالته، حيث أشار في رسالة استقالته إلى أنه لن يقبل العمل في منظمة لا تستجيب لاحتياجات أعضائها.
ومن جهة أخرى، أجمع الكثيرون في أوروبا أن وقت منظمة الناتو قد ولى، ولكن المملكة المتحدة والولايات المتحدة لم يكونا على استعداد للاستسلام والتخلي عنها. تمكنت المنظمة، بدعم من الائتلاف الذي يقوده الديمقراطيون الاجتماعيون في ألمانيا، من ترشيح المستشار الألماني السابق، جيرهارد شرودر، لمنصب الأمين العام، وذلك بهدف مواجهة التحدي وإعادة تعريف المنظمة في العصر الجديد، على الرغم من أنه لم يكن واضحا ما كان الائتلاف يعنيه بالتحديد من إعادة تعريف المنظمة.
على ضوء السياسة المتذبذبة التي يتبعها ترامب، فإن كل خطاب يدلي به يكون متبوعا بجولة جديدة من الاضطرابات الصحفية المثيرة للجدل في الدول الأوروبية
ومن ناحية أخرى، رحب الروس بهذا التعيين الجديد وأعلنوا أنهم لن يعارضوا عضوية كل من مونتينيغرو وصربيا في المنظمة، كما أقروا أنهم سينظرون في إمكانية الانضمام للمنظمة، وهو ما أشادت به إدارة ترامب علناً.
في المقابل، لم يساعد الدعم الروسي شرودر في إنقاذ المنظمة من الانحدار أكثر. وفي الوقت نفسه، أرسلت أغلبية الدول الأوروبية الأعضاء، التي كانت رافضة لعلاقة الناتو بعدوها في أوكرانيا، ضباط من الأركان للقيادات الأوروبية. في المقابل، تسببت محاكمة ايريك ترامب، بتهمة متعلقة بالتجارة الداخلية والحرب بين تركيا وإيران، في تشتيت انتباه الولايات المتحدة. وإثر ذلك، شهدت العديد من الاجتماعات المنظمة غيابا واضحا للمسؤولين الأمريكيين في حين توقفت التدريبات العسكرية التي كانت تجريها المنظمة.
بالإضافة إلى ذلك، ألغت أغلبية الدول مساهماتها في الميزانية المشتركة للناتو، وقامت باستثمار الأموال لفائدة دوريات الهجرة في البحر الأبيض المتوسط والتدريبات العسكرية في أوكرانيا.
وفي محاولة منه لإنقاذ الموقف، قام شرودر، وبمساعدة من الولايات المتحدة وروسيا في سنة 2020، بتغيير المقر الرئيسي للمنظمة، حيث استغل قاعدة عسكرية سابقة في بلغاريا لتكون بمثابة المقر الجديد للناتو. وفي ظل هذا التغيير، لم يعترض الأوروبيون على هذا القرار، ولكن معظم موظفي الناتو لم يكلفوا أنفسهم مشقة الذهاب إلى المقر الجديد.
إنه التضامن، أيها الغبي
على ضوء كل المعطيات التي ذكرت آنفا، يمكننا فهم الأسباب الرئيسية التي كانت سببا في تلاشي المنظمة. فعلى مدى عقود، لم يركز أعضاء المنظمة إلا على القضايا التي أدت إلى تفرقتهم وعمدوا إلى المجادلة بقوة حول تقاسم الأعباء والرد على العدوان الروسي أو الاضطراب الذي يكتسح شمال إفريقيا.
كانت هذه القضايا في غاية الأهمية، إلا أن الخلافات في صلب المنظمة أدت إلى تشتيت انتباه دول الأعضاء حول الإيجابيات التي جعلت من منظمة الناتو شيئاً مميزاً، والتي تتمحور أساسا في الالتزام العميق لأعضائها بتأمين بعضها البعض.
بطبيعة الحال، لا يوافق الأعضاء دائماً على أولويات المنظمة، ولكنها كانت تتخذ التهديدات التي تراها كل دولة عضو بخصوص أمنها القومي بجدية تامة. ونتيجة لذلك، ظلت منظمة الناتو، خلال السنوات السبعين منذ تأسيسها، مجرد أداة يلجؤ إليها صناع القرار الأمريكيون والأوروبيون في أزماتهم المتتالية.
لازالت منظمة حلف شمال الأطلسي قائمة بذاتها، حيث لاتزال المعاهدة سارية المفعول مع عضوية 28 دولة في الحلف
في الحرب الباردة، في منطقة البلقان وأفغانستان وليبيا وغيرها من الدول، أدرك رؤساء الولايات المتحدة والقادة الأوروبيون أن حلف الناتو لم يؤمن لهم قدرة عسكرية فحسب، ولكن أيضاً آلية لحشد الحلفاء وتأمين شرعية أوسع للأولويات الدفاع الخاصة بهم. بالإضافة إلى ذلك، تمكنت المنظمة من العمل بنجاعة لأن أعضائها آمنوا أن شركائهم سيساندونهم. كان التضامن عميقاً ومن القلب.
وبالتالي، أصبح من السهل الآن معرفة كيف تمكن الرئيس ترامب من حل معضلة تقاسم الأعباء في المنظمة، حيث عمد إلى تدمير روح التضامن التي تجمع الدول الأعضاء. فمن خلال تقديم مصلحة الولايات المتحدة والتغاضي عن مشاكلهم، تمكن ترامب من جعل حلفائه يدفعون أكثر، ولكنه أيضاً كان متيقناً أنهم لن يهتموا كثيراً بأهداف المنظمة. ومن هذا المنطلق، فإن الناتو الذي كان من المفترض أن يخدم مصلحة الولايات المتحدة أولا، كان مصيره الفشل لا محالة. وبالتالي، رفض الحلفاء الأوروبيون الوقوف مع واشنطن في صراعها الحالي مع إيران، لأنها رفضت مساندتهم في أوكرانيا.
عموما، إذا ما تمعنا في سنوات النجاح التي حققتها المنظمة، سنتأكد أن الحالة التي وصلت إليها الأن تعد عاراً كبيرا، ولكن حالة الاضطراب التي يعيشها العالم الجديد، جعلت كل الناس لا يعيرون اهتماما للمسألة.
سئل فان آخن، حارس الأمن الذي أغلق مقر حلف الناتو، مؤخراً عن ما فعله بالمفتاح، فأجاب قائلا “أظن أنه في منزلي، في أعلى الدرج، ولكن لم يسألني أحد من قبل عنه.”
المصدر: فورين بوليسي