في 13 سبتمبر/ أيلول 1993 وقّع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، مدشّنًا بذلك مرحلة جديدة في عمر القضية الفلسطينية، خلافًا للمرحلة التي سبقتها والتي اعتمدت فيها المنظمة خيار السلاح.
ونصَّ الاتفاق في فحواه على أن “حكومة دولة “إسرائيل” وفريق منظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا للشعب الفلسطيني، يتفقان على أن الوقت قد حان لإنهاء عقود من المواجهة والنزاع، والاعتراف بحقوقهما المشروعة والسياسية المتبادلة والسعي للعيش في ظل تعايش سلمي وبكرامة وأمن متبادلَين، ولتحقيق تسوية سلمية عادلة ودائمة وشاملة ومصالحة تاريخية من خلال العملية السياسية المتفق عليها”.
وشمل إعلان المبادئ المبرم على 17 بندًا تمّت كتابتها من قبل جميع الأطراف قبل عملية التوقيع، حيث تحدث الاتفاق عن أن هدف المفاوضات “إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية، المجلس المنتخب (المجلس) للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات، وتؤدي إلى تسوية دائمة تقوم على أساس قرارَي مجلس الأمن 242 و338”.
في المقابل، تعرض الاتفاق لعدة ضربات بعد توقيعه بفترات بسيطة، لعل أبرزها اغتيال إسحاق رابين، وهو الأمر الذي لم يدر في خلد من وقّعوا الاتفاق من الجانب الفلسطيني الذي رأوا فيه شخصية يمكن أن تتمّم تنفيذ الاتفاق، إلى جانب صعود شخصيات مثل نتنياهو وشارون إلى سدة الحكم.
وبمحاذاة ذلك، عزز الاحتلال الإسرائيلي من تغيير الوقائع على الأرض عبر الاستيطان وعزل وتقسيم الضفة الغربية والقدس المحتلتَين، فضلًا عن اندلاع شرارة انتفاضة الأقصى عام 2000 والتي انتهت عام 2005، وكان من أبرز نتائجها التحلل الإسرائيلي شبه الكامل من كل مخرجات أوسلو، واغتيال شخصيات قيادية فلسطينية وازنة، إلى جانب الانسحاب الأحادي الجانب من غزة.
أبرز بنود الاتفاقية.. على ماذا نصت أوسلو؟
قبل الولوج في نصوص اتفاقية أوسلو، لا بدَّ من الإشارة إلى أن بعض المراقبين السياسيين الفلسطينيين وحتى بعض قادة الفصائل، اعتبروا أن الاتفاق أسّس لمرحلة الانقسام الفلسطيني، وساهم في الحالة السياسية التي وصلت إليها القضية الفلسطينية في المرحلة الحالية.
إذ أدى (الاتفاق) إلى وجود تيارات سياسية متعددة تتبنّى أشكالًا متباينة للمواجهة والصراع، لا سيما فصائل المقاومة الفلسطينية المحسوبة على التيار الإسلامي كحركتَي حماس والجهاد الإسلامي، إلى جانب بعض القوى اليسارية المعارضة للاتفاق بمجمله.
في المقابل، سارت حركة فتح على قرار منظمة التحرير ورئيسها ياسر عرفات، ورأت في الاتفاق فرصة لإقامة حلم الدولة الفلسطينية، معتبرة أن الاتفاق قد يؤسّس لمرحلة جديدة في الحالة الفلسطينية، إلا أن بعض قيادات الحركة وكوادرها في مختلف الصفوف يرون أن الاحتلال تنصّل من كامل الاتفاق.
أما عن بنود الاتفاق، فشملت إجراء الانتخابات من أجل أن يتمكن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة من حكم نفسه وفقًا لمبادئ ديمقراطية، وستجرى انتخابات سياسية عامة ومباشرة وحرة للمجلس تحت إشراف متفق عليه ومراقبة دولية متفق عليها، بينما تقوم الشرطة الفلسطينية بتأمين النظام العام.
ووفق البنود، فقد تم الحديث عن الفترة الانتقالية ومفاوضات الوضع الدائم، حيث تبدأ فترة السنوات الخمس الانتقالية عند الانسحاب من قطاع غزة ومنطقة أريحا، على أن تبدأ مفاوضات الوضع الدائم بين حكومة “إسرائيل” وممثلي الشعب الفلسطيني في أقرب وقت ممكن، لكن بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.
وتحدثت البنود عن أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية (ما عرف بقضايا الحل النهائي)، بما فيها القدس واللاجئون والمستوطنات والترتيبات الأمنية والحدود والعلاقات والتعاون مع جيران آخرين، ومسائل أخرى ذات الاهتمام المشترك، إلى جانب أن الاتفاقات التي تمَّ التوصل إليها للمرحلة الانتقالية لا تجحف أو تخلّ بمفاوضات الوضع الدائم.
وتضمّنت الاتفاقية التعاون الإسرائيلي-الفلسطيني في المجالات الاقتصادية، من خلال إنشاء لجنة تعاون اقتصادية إسرائيلية-فلسطينية، من أجل تطوير وتطبيق البرامج المحددة في البروتوكولات المرفقة، فضلًا عن الارتباط والتعاون مع الأردن ومصر من خلال قيام الطرفَين بدعوة حكومتَي الأردن ومصر، للمشاركة في إقامة المزيد من ترتيبات الارتباط والتعاون بين حكومة “إسرائيل” والممثلين الفلسطينيين من جهة، وحكومتَي الأردن ومصر من جهة أخرى، لتشجيع التعاون بينهما.
كيف فشلت الاتفاقيات؟ الانتفاضة والمواجهة من جديد
مع مضي 5 سنوات على اتفاق أوسلو، لم يلتزم الاحتلال بالتحول نحو مفاوضات الحل الدائم، واستمرت الأوضاع على حالها حتى عُقدت قمة كامب ديفيد عام 2000 بين الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات.
عُقدت القمة في الفترة من 11 إلى 25 يوليو/ تموز 2000، وكانت محاولة لإنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، إلا أن القمة انتهت من دون اتفاق، لتأتي بعدها انتفاضة الأقصى في 28 سبتمبر/ أيلول 2000 كتعبير عن وصول عملية السلام إلى طريق مسدود، بعد أن سعى اليمين الإسرائيلي لتعطيل عملية السلام ووقف اتفاق أوسلو.
بعد فشل القمة، سعى عرفات للضغط على الاحتلال الإسرائيلي بسلاح الانتفاضة من خلال غضّ الطرف عن العمليات، فضلًا عن إمداد كتائب شهداء الأقصى بالمال والسلاح، ومشاركة شريحة واسعة من الأجهزة الأمنية في القتال إلى جانب الأذرع العسكرية ضد الجنود الإسرائيليين.
ومع تعاظم الانتفاضة عمد الإسرائيليون إلى سلاح الاغتيالات والاعتقالات الواسعة في صفوف قيادات وزانة في الفصائل الفلسطينية، لعلّ من أبرزهم أحمد ياسين وأبو علي مصطفى وعبد العزيز الرنتيسي وياسر عرفات، إلى جانب قيادات ميدانية محسوبة على الأذرع العسكرية.
كل ذلك أسهم في جعل الحديث عن العملية السلمية مجرد “أحاديث” لا رصيد لها على أرض الواقع، كون اليمين الإسرائيلي كان الحاكم والمتنفّذ في المشهد الإسرائيلي بصورة كبيرة، فضلًا عن حالة التصاعد التي عاشتها الحالة الفلسطينية فيما يتعلق بالمقاومة والنقلات النوعية.
وعلى أرض الواقع لم يبقَ من الاتفاقيات المبرمة، سواء أوسلو أو قمة طابا أو حتى اتفاقية باريس الاقتصادية، إلا البنود المتعلقة بالمصالح الإسرائيلية، سواء الأمنية أو المالية، أما ما يخص الحقوق الفلسطينية فإن الإسرائيليين يرفضون حتى الآن إدخال أية تعديلات.
ومع صعود رئيس السلطة الحالي محمود عباس إلى السلطة عام 2005، لم يتم التوصل إلى أية اتفاقيات جديدة، رغم تمسك الرجل بخيار المواجهة السلمية الشعبية حدّ الإفراط كما يقول خصومه، فيما فشلت كل اللقاءات التي عُقدت سواء في شرم الشيخ أو أنابوليس في الوصول إلى نقاط التقاء جديدة.
أوسلو والانقسام.. بداية الفرقة بين الفصائل
أسّست الاتفاقية، التي توصف من الفصائل المعارضة لها بالكارثية، لمرحلة من الانقسام والنزاع الداخلي لعلّ من أبرزها ظاهرة المعتقلين السياسيين، وعمليات الإقامة الجبرية التي كانت تتم على القيادات في التيارات الإسلامية من حركتَي حماس والجهاد الإسلامي، وبوتيرة أقل الجبهة الشعبية.
وخلال الفترة التي تبعت الاتفاقية، برز التنسيق الأمني المشترك بين السلطة والاحتلال الإسرائيلي، وهو ما أدى إلى ظواهر تم في كثير من الأحيان وقوع ضحايا بسببها، لعل من أبرزها حادثة مسجد فلسطين التي وقعت بعد قرابة شهرَين فقط من توقيع الاتفاقية، وأدت إلى مقتل 17 فلسطينيًّا وإصابة نحو 200 آخرين برصاص الأجهزة الأمنية.
تبعت هذه الحادثة حوادث متعلقة بفرض الإقامة الجبرية على مؤسس حركة حماس أحمد ياسين في 3 مناسبات، لعل أبرزها في عامَي 1998 و2001، بالإضافة إلى الاعتقالات التي طالت شخصيات وكوادر من حماس والجهاد الإسلامي خلال السنوات التي تبعت هذه الحادثة.
وكان من أبرز الحوادث التي ساهمت في حالة الاحتقان ضد أوسلو ومخرجاتها ملاحقة المقاومين واعتقالهم، كما حصل مع الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعدات ورفاقه، حين جرى اعتقاله من قبل المخابرات الفلسطينية عام 2003 بتهمة اغتيال وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي، قبل أن يقوم الاحتلال باعتقاله عام 2006 من داخل سجون الأجهزة الأمنية في أريحا.
وأمام هذه الحالات برز الخطاب السياسي الذي يصنَّف على أنه تحريضي بين الفصائل الفلسطينية، فمن وجهة نظر منظمة التحرير والفصائل المنضوية معها والمؤيدة للاتفاق، كانت عملية السلام بمثابة مرحلة يمكن البناء عليها، لكن الفصائل المعارضة لها رأت في الاتفاق “خيانة” لحقوق الشعب الفلسطيني.
وعزز ذلك من التصارع حتى وقع الانقسام الفلسطيني عام 2007، والذي كان من أبرز أسبابه الخلاف على البرنامج السياسي بين حركة حماس التي تتبنّى الخيار المسلح وحركة فتح التي تتبنّى خيار الحل السلمي الذي تم الوصول إليه من قبل منظمة التحرير عام 1993.
حتى إن لقاءات المصالحة التي عُقدت منذ عام 2008 وحتى الآن كان جميعها يتضمّن مطالب واضحة من رئيس السلطة عباس، بأن تلتزم حماس والفصائل المسلحة معها بالاعتراف بقرارات الشرعية الدولية، وتشكيل حكومات تلتزم بقرارات اللجنة الرباعية، وهو ما ترفضه هذه القوى.
اليوم، ومع الحديث عن مفاوضات للتطبيع بين السعودية والاحتلال الإسرائيلي بوساطة أمريكية، يتم الكشف عن لعب السلطة الفلسطينية دورًا في المفاوضات للاستفادة من بعض التسهيلات الاقتصادية والمالية، ولتخفيض الضغط الشعبي على الرياض حال تمّت عملية التطبيع.
وهو الأمر الذي كشف عنه رئيس جهاز الأمن القومي في الاحتلال تساحي هنغبي، من خلال محادثات تجري بين السلطة الفلسطينية والاحتلال في منتدى مشترك مع الأردن، وذلك للتباحث حول اتفاق التطبيع بين السعودية والاحتلال، إذ تعد المرة الأولى منذ 10 سنوات التي يتحدث بها مسؤولو دول ذلك المنتدى بشكل مفتوح حول ما يفكرون فيه.
ويعكس كل ما حصل على مدار 30 عامًا أن الفلسطينيين استنزفوا أنفسهم في الصراعات الداخلية، دون أن يكون هناك أفق حقيقي بالتحلل من بنود الاتفاق الذي لطالما أكّد ساسة الاحتلال أنه أصبح شيئًا من الماضي، وأنه لم يعد قائمًا منه إلا جسم السلطة.