ترجمة حفصة جودة
على مساحة يبلغ طولها 7 كيلومترات، تقع مدينة الموتى بالقاهرة، التي تضم مقابر وأضرحة ومساجد وأفنية، تزخر المدينة بذكريات المدفونين بها من عصور التاريخ المختلفة والعائلات التي تعيش فيها الآن وعاشت فيها لعدة أجيال في بعض الأحوال.
يعود المكان إلى القرن السابع الميلادي، ومثل الكثير من القاهرة التاريخية يقع بالقرب من الحداثة، فلوحات الإعلانات والعمران وحركة المرور تسير جنبًا إلى جنب مع المقابر الصامتة المزينة بالفسيفساء والأبواب الخشبية القديمة وساحات الحداد.
دُفن هناك ملوك قدماء وأصحاب المقام الرفيع وسياسيون معاصرون ومشاهير وسكان القاهرة الذين ماتوا في العقود الأخيرة.
لكن هناك الآن ما يقض مضاجعهم، ففي 2020، بدأت السلطات بهدم أجزاء من المدينة لإفساح المجال للطريق السريع، ومنذ ذلك الحين أصبحت مخاوف عمليات الهدم تسيطر على بقية المدينة.
في تلك المدينة، دُفنت والدة حسين عمر وكذلك نحو 8 أجيال من عائلته، وكان حسين يأمل في يوم من الأيام أن يُدفن بجوارهم، قال حسين إن وضع عائلته متأزم مع الدولة منذ سنوات بشأن زيارة المكان ووصل إلى حائط سد، لكنه تصاعد الآن مع التهديد بإزالة المقابر.
يضيف حسين “تحاول الدولة المصرية السيطرة دائمًا على التاريخ، لكن يبدو مؤخرًا أن الوضع أصبح استهدافًا متعمدًا، فقد أصبحت محاولات محو التاريخ جزءًا من محاولات الاعتداء على مطالب الناس بحقوقهم في ملكية ما يبدو بوضوح عقارات قيمة على أراض تاريخية”.

إنها مواجهة ترمز إلى تحدٍ لمدينة أوسع تشهد في الآونة الأخيرة حمى بناء “القاهرة الجديدة”، وأشهر هذه المشروعات العاصمة الإدارية الجديدة شرق القاهرة، التي تضم قصرًا رئاسيًا ومباني حكومية وسكنية ستُنقل إليها وظائف الدولة الرئيسية والمجتمع الدبلوماسي.
تضم تلك المنطقة الصناعية الضخمة بحيرات صناعية ومراكز تقنية وأطول مبنى في إفريقيا، وقد استُلهمت رسومات العاصمة الجديدة من التاريخ الفرعوني، ويميزها هرم كرستالي وزخارف مستوحاة من الآلهة المصرية القديمة.
تمثل المدينة ذروة القاهرة المُعاد بناؤها التي تطوق المدينة بالفعل، حيث تمتد لتشمل مجمعات سكنية وفلل وأحياء كاملة تتصل بطرق سريعة جديدة يسكنها عدد من سكان الطبقة المتوسطة، فأحياء مثل “بيفرلي هيلز” و”هايد بارك” التي تعتبر هجينًا من دبي وميامي، بُنيت بواجهات زجاجية ومساحات منظمة وأنيقة وأجزاء متناسقة من العشب.
على أوراق التخطيط الحضري يبدو الأمر مذهلًا، فالمدينة التي تأن تحت وطأة عدد السكان الضخم والتمركز التاريخي في مناطق محددة وسط المدينة وفي القاهرة القديمة وعلى طول نهر النيل، قد توسعت في الصحراء.
لكن هذا التوسع كان على حساب التاريخ والمساحات الخضراء وحق الناس في أراضيهم وذكرياتهم، حتى إن روح المدينة نفسها اتجهت نحو المباني الجديدة على الأطراف، وفجأة لم تعد مناطق مثل مدينة الموتى مستودعًا للتراث الثمين والمقابر المقدسة، وأصبحت عقبة أمام الطريق السريع الذي يحتاجون لبنائه.
إنها عملية باهظة ذات تكلفة بيئية لتغيير وضع السعودية كدولة تحت إدارة جديدة ونظام اجتماعي أكثر تحررًا وإن لم يكن أكثر تحررًا من الناحية السياسية
لا يقتصر الأمر على الفظاظة، بل تحطيم النوايا الحسنة للمستقبل وكذلك إهانة الماضي، ما زالت ظلال ثورة 2011 تلوح في الأفق، ورغم أن أهدافها لم تتحقق، فإن آثارها المادية والمعنوية ما زالت عقبة أمام المستقبل السياسي الذي تصبح فيه الثورة أمرًا مستحيلًا.
حتى ميدان التحرير الذي كان مقرًا للتظاهر وتسكع المواطنين، أصبح خاليًا من الناس وممتلئًا بالخرسانة والجرانيت والآثار الفرعونية في وسطه، بينما يحيط به الحرس من كل جانب.
يقول حسين إن هذه المظاهر الفرعونية والمساحات العقيمة سهلة المراقبة التي وُضعت مكان الحدائق والمساحات العامة هدفها منع الحنين، ويضيف “هناك رغبة في القضاء على رموز التعدد الليبرالي، إنها محاولة لاختراع أصل للدولة المصرية المعاصرة والشعب، وفي الوقت نفسه هدم وطمس أي أصول حقيقية يربطها علاقة وثيقة بالشعب”.
إنها محاولة “إخصاء” وتخطيط للهوية الوطنية التي تمليها الدولة، تلك التي تتضمن هدمًا تاريخيًا وبيئيًا وكذلك تكلفة مالية باهظة، كل ذلك بينما يعاني الاقتصاد المصري من أزمة ترجع بشكل كبير إلى القروض التي حصلت عليها الدولة لتمويل ما أطلقت عليه “مشاريع الفيل الأبيض”.
لا شيء يضاهي شفافية وإسراف تلك القصة الوطنية المخترعة، إلا مدينة أخرى طموح تقع شمال غرب السعودية، فمدينة نيوم تمثل إعادة صياغة للعلامة التجارية للسعودية بشكل مادي، هذا المكان في نماذجه اللامعة وحملة علاقاته العامة يبدو كشيء فوق كوكب آخر في فيلم خيال علمي.
على طول 170 كيلومترًا، تمتد نيوم على شريط ضيق ويزين جانبيها المرايات العاكسة، كما أنها أطول من مبنى “Empire State”، سيعيش سكانها في مكان يمكن التحكم في مناخه لتصبح حرارته معتدلة طوال الوقت ويضم نباتاته وحيواناته الخاصة ويضم كذلك قمرًا صناعيًا عملاقًا.
وقد قال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن التصميم، إنه سيتحدى المدن التقليدية الأفقية المسطحة، ويخلق نموذجًا للحفاظ على الطبيعة وتعزيز قدرة الإنسان المعيشية.
لكن المواضيع الصاخبة هي نفسها، التي تزعم أنها تدعم الحداثة، تلك التي تمحو رموز الأمة ثم تجمعهم في مفاهيم تدور حول كفاءة الطاقة والابتكار والتكنولوجيا والاستدامة.
تقول مواد العلاقات العامة المتعلقة بمشروع نيوم إنه سيُبنى على الرعاية وحب الاستطلاع والتنوع والشغف والاحترام ليصبح حافزًا للتغيير، إنها عملية باهظة ذات تكلفة بيئية لتغيير وضع السعودية كدولة تحت إدارة جديدة ونظام اجتماعي أكثر تحررًا وإن لم يكن أكثر تحررًا من الناحية السياسية.
فقتل المعارضين خارج القانون واضطهاد أصحاب الأراضي ونزع ملكيتهم وزيادة عمليات الإعدام الجماعية ما زال مستمرًا، لكن سيكون من الأسهل على المستثمرين والمهنيين العالميين تقبل الأمر عندما يتم في مكان يتبنى لغتهم المشتركة ويقدم لهم الاستثناءات القانونية اللازمة من القوانين التي تُطبق على السكان المحليين والعمال المهاجرين فقط.
لقد وقّع المستشارون والمهندسون المعماريون وشركات العلاقات العامة بالفعل لبناء مدينة المستقبل السعودية والترويج لها بكل شغف.
الاختلاف بين مشروعات الخليج وغيرها في مصر، هو أن الاستيلاء على الأراضي وتجديدها لن يصبح قابلًا للتطبيق إلا مع وجود نظام كبير من الإعانات التي يمكن للحكومات الغنية دفعها لشراء الموافقة، فالقمع دون رعاية سيكون تأثيره محدودًا.
في الأسبوع الماضي، وبعد أسابيع من الاحتجاجات العامة النادرة، توقف هدم مدينة الموتى بشكل مؤقت رغم استمرار فرض القيود على الزيارات والدخول، ومع تزايد احتياجات المدن الكبرى، فمن الصعب أن نتخيل القرار بأنه أكثر من مجرد تأجيل.
لكن هناك أمرًا غريزيًا أيضًا يتعلق بنبش جثث الموتى والمقابر التي ضمتهم لقرون طويلة، الأمر الذي قد يدفع السلطات للتفكير في الأمر مرتين، وعلى أمل التخلص من أشباح الماضي، ربما ينتهي الأمر بتربيتهم.
المصدر: الغارديان