أحد أهم عناصر الأسطورة المؤسسة للدولة التونسية بعد الاستقلال هي العزف الدائم على وتر تميز الحالة التونسية عن بقية البلدان العربية وتفوقها في مجالات كثيرة، وهو ما يجعل منها طليعة تقدمية، والمثير للسخرية في القول بالتفوق التونسي المزعوم أن الفئات الاجتماعية التي ناصبت الثورة التونسية لسنة 2010-2011 ومنعت تقدمها في هدم بناء الدكتاتورية لبناء الديمقراطية هي أكثر الفئات التي تردد بلا حياء أن المدرسة التونسية الفائقة العبقرية هي التي أنتجب الثورة، ليتبين من خلال ذلك تناقض رهيب بين تمجيد الأسباب وابتذال النتيجة ورفضها، وهذا يكشف بدوره أن مروجي أسطورة التفوق يتاجرون بها ويستنزفونها لغايات ليس منها تطوير المدرسة التونسية أو الدولة التونسية بقدر ما يرهنون كل شيء لمصالحهم القطاعية والفردية.
تقوم أسطورة التفوق التونسي على عناصر كثيرة منها ما ذكرناه في مقال سابق من عبقرية الزعيم بورقيبة الخارقة ومنها عناصر أخرى تناسلت بدورها من فكر الزعيم وعبقريته وسنعرض هنا إلى عنصر مهم نراه من أعمدة الأسطورة وليس لنا هدف من هذا العرض النقدي إلا البحث في سبل العودة إلى أرض واقعية نقف عليها بعد الثورة ونحتاج فيها فعلاً إلى تواضع جمّ أمام النتائج الحاصلة لبدء البناء المنشود لنظام تعليمي حقيقي خارج وسائل الدعاية التي أفرط النظام في استعمالها للإيهام بعبقرية تثير السخرية خارج الوطن وفي الوطن العربي بالتحديد.
نتائج واقعية مخيّبة
صدرت في شهر فبراير عن مركز الإحصاء المتخصص أرقام دقيقة عن نسب الأمية في تونس فتبين أن 30% من التونسيين المولودين بعد الاستقلال أميون لا يحسنون القراءة والكتابة، ونسبة كبيرة من هؤلاء مولودين بعد سنة 70 أي بعد أن استقرت الدولة وزعمت نشر التعليم في كل مكان والنسبة الأعلى بين الأميين هي بين النساء، كما تظهر تباعًا في مواقع متخصصة تقييمات وتصنيفات للجامعات العالمية فيتبين أن الجامعة التونسية تقبع في آخر ترتيب الجامعات في العالم.
في الوقت الذي يكتب فيه هذا المقال تتفاوض السلطة التونسية مع الدول الأوروبية (إيطاليا وألمانيا) على استعادة/ طرد المهاجرين التونسيين غير النظاميين من هناك إلى بلدهم، إذ تبين أن هؤلاء المهاجرين في غالبهم فاقدين لأي تكوين مهني يسمح لأي اقتصاد باستيعابهم، لقد فشلت المدرسة التونسية في تكوينهم
ولقد طرح السؤال منذ مدة عن سبب وجود عدد كبير من الإرهابيين المتطرفين من أصول تونسية رغم أن فيهم من حاز تعليمًا وكثير من الإجابات على هذا السؤال انتهت إلى أن الأشخاص الذين يسهل استقطابهم في منظمات جريمة وإرهاب هم من ذوي التكوين العلمي المحدود أو من الفاقدين لأي نوع من التربية المواطنية.
هذه الأرقام والتقديرات تصدر بعد 60 سنة من التغني بفرادة المدرسة التونسية ونجاح تجربة التعليم فيها وهي التجربة التي ينسب بناؤها وتفوقها إلى عبقرية الزعيم بورقيبة.
المدرسة موضوع صراع أيديولوجي
يغالي التونسيون كثيرًا في مدح تجربتهم التعليمية ويحولونها إلى مرتكز أيديولوجي لعدم المراجعة والتطوير الذي تقتضيه ضرورات لا مناص منها لاندماج علمي ومهني في سوق تشغيل وإنتاج عالمية لا ترحم.
إن زعم التفوق هو التغطية على عجز آخر داخلي يتمثل في استعمال المدرسة كمتراس أيديولوجي في صراعات داخلية، فطيلة عمر دولة الاستقلال اخترقت المدرسة نزعات سياسية وثقافية أعاقت تقدمها وإبداعها، والزعيم كان البادئ بتوظيف المدرسة لا فقط لمدح شخصه وغرس صورة الإله الصغير في النفوس الناشئة (كان للمدارس الابتدائية التونسية نشيدها الرسمي الموازي للنشيد الرسمي الوطني وكان اليوم الدراسي يبدأ بعزف “نخوض اللهيب بروح الحبيب زعيم الوطن”)، بل وبالأساس فرض صيغة من صيغ الحداثة/ العلمنة آمن بها الزعيم وهي الصيغة الفرنسية فقط لا غير.
ولذلك قلص التعليم الديني وشوه بالمدرسة صورة التاريخ وصورة الدين وابتذل عبر المدرسة كل أشكال التعبد الجماعي والفردي، فضلاً عن امتهان اللغة الوطنية الجامعة أمام اللغة الفرنسية التي لا تزال متفوقة في الإدارة والحكم وتوجه الحديث اليومي حتى فقد التونسيون لسانهم وصاروا أقرب إلى أهل مالطا من تونس.
واقتداءً بالزعيم لا يزال توظيف المدرسة جاريًا وبقوة من أجل نشر نموذج تفكير متوافق مع رغبات ورثة الزعيم التحديثي ولذلك يخاض الآن صراع مرير على المدرسة بين من يريدها مستقلة عن الأيديولوجيات (كما نص على ذلك الدستور الجديد) ومن يريدها أداة لخدمة أجندته الفكرية (بعض الذين يريدون تحريرها من الزعيم وورثته يريدونها وظيفية في اتجاه أيديولوجي آخر).
لم تفلح الثورة في اختراق الدروع الأيديولوجية حول المدرسة، فالنخب المهيمنة على مسار التعليم لا تزال تحافظ على مواقعها
لم تفلح الثورة في اختراق الدروع الأيديولوجية حول المدرسة، فالنخب المهيمنة على مسار التعليم لا تزال تحافظ على مواقعها، والنضالات التي خاضتها النقابات انكشفت كنضالات مطلبية صرفة حازت بها فئات المدرسين زيادات في الرواتب، ولم يكن شعار إصلاح التعليم إلا تغطية لمطلبية قطاعية محدودة في تحسين الحالة المعيشية للمدرسين أما البرامج والتخطيط لمستقبل تعليمي مختلف فمتروكة في هذه اللحظة لوزير مشعوذ سيتحول عبر الزمن إلى شخصية مماثلة لشخصية جحا الأسطورية لكثرة ما تثير مواقفه وقراراته من سخرية بين الناس.
في قراءة تاريخ التعليم في تونس مفتاح مهم لإعادة تركيب الصورة الواقعية لتونس ونخبها وصورتها عن ذاتها في العالم، وأهم ما يمكن إبرازه أن المدرسة فشلت في صناعة بلد ونخبة، قد يبدو هذا التقييم عدميًا مفرطًا ولكنني أراه خطوة ضرورية للتواضع وبدء التأسيس خارج وهم القوة والتفوق الكاذب وخارج فانتازيا الزعيم الإله.
المدرسة التونسية محافظة رغم التحديث البورقيبي
يبدو التقييم هنا عدميًا أقرب إلى التشنيع بالمدرسة، فالمدرسة التونسية أنتجت الكادر البشري الذي يسيّر الدولة الآن بعد أن كانت فرنسية، فتونس دولة لا تستورد موظفين، وهذا صحيح في ظاهر الأمر، وقد شكل موضوع فخر للنظام السياسي، ولكن أي كادر إداري يسير البلد وما روحه الحقيقية التي تسيره.
لقد كشفت الثورة أن الحاجز الأكبر في طريقها نحو تغيير البلد هو الإدارة التونسية، فالحكومات المتعاقبة اصطدمت بعقلية محافظة ترفض التغيير وتعاديه بل تخرب الإدارة من أجل ألا تتغير نحو الأفضل، ظن الكثيرون في البداية أن تلدد الموظفين موجه سياسيًا ضد حكومات قادمة من خارج الكادر الإداري التقليدي لكن بعد سقوط حكومة الترويكا المرفوضة إداريًا تبين أن التلدد سلوك عام ومبرر لدى أغلب القطاعات الوظيفية رغم أن هذا القطاع قد استثمر في الثورة بأن حصّل قبل غيره وهو المعادي لها كل زيادات الأجور والعلاوات المهنية المتاحة ويصر رغم ذلك على تعطيل كل شيء.
إن ما يقال عن تقدمية نظام التعليم ينكشف بسرعة في نموذج التسيير الإداري ونموذج الموظف العمومي الكسول والمحافظ والرافض لكل تغيير قد يمس مصالحه المكتسبة حيث هو، لقد علمته المدرسة الخوف المقرون بالطاعة ونفّرته من محبة التغيير وشجاعة المغامرة، فهو يدخلها خائفًا من الفشل والبطالة ويخرج منها خائفًا من كل تمرد يغضب الرؤساء فينهي موظفًا خانعًا يخشي أن يصحح خطأ مطبعيًا لرئيسه في العمل، هذا هو المنتج النهائي للمدرسة التونسية العمومية خاصة، فالتعليم يشهد الآن ثورة مختلفة لكنها ثورة مخرّبة.
تفكيك المدرسة العمومية
بالنظر إلى النتائج التي قدمتها أعلاه، فإن المدرسة العمومية صارت عبئًا على المجتمع التونسي ولكن هل الحل في تفكيك التعليم العام وخصخصة المدرسة؟
يوجد الآن تيار عميق يخترق الطبقات الوسطى والمرفهة نحو تعليم أولادهم في مدارس خاصة، وقد بدأت المدارس الخاصة تفتح تباعًا كفقاعة في مستنقع ويحرك هؤلاء شعور باليأس من التعليم العام من حيث الجودة
يوجد الآن تيار عميق يخترق الطبقات الوسطى والمرفهة نحو تعليم أولادهم في مدارس خاصة، وقد بدأت المدارس الخاصة تفتح تباعًا كفقاعة في مستنقع ويحرك هؤلاء شعور باليأس من التعليم العام من حيث الجودة، والمهم الآن عند هؤلاء إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وهنا نقف أمام حقيقة أخرى فاجعة هي التعليم بسرعات مختلفة، حيث ستبقى المدرسة العمومية للفقراء فيما ينقذ الأغنياء أولادهم بالتعليم الخاص بعضه في تونس وأفضله في أوروبا، وهذه السرعات ستنعكس لاحقًا على سرعات الدخول في سوق العمل وتوزيع حظوظ التمكين الاجتماعي، بحيث تصبح مدرسة المساواة هي صانعة التفاوت الاجتماعي.
لا أحد يصرح بأن أبناء المدرسة التونسية قد حطموا مدرستهم بأيديهم (قتل الأم)، الجميع يقول إن المدرسة انتهت، وينسى أن أبناء المدرسة العمومية التونسية هم من يديرونها ويدرسون بها منذ 50 سنة، إنهم مثل الموظفين الكسالى في الإدارة يخشون المراجعات والتغيير.
استدرك واعيًا أن هذه التعميمات تغفل وتظلم أدوارًا فردية خارقة في مواقع مختلفة تدعو إلى المراجعات الجذرية لكن أصواتها تضيع في بيداء الصمت المطبق الرافض للتغيير، فتؤكد بفرادتها قاعدة العقل المحافظ الذي صنعته المدرسة التونسية التقدمية كما تروج عن نفسها والرجعية المحافظة كما هي في الواقع.
مديح الذات الخائبة
لم أخض هنا في علاقة التعليم بالتربية والتهذيب الأخلاقي فهو موضوع أشد تعقيدًا من مقال سريع، لكن نكتفي بالقول في التعليم دون التربية، فبعد 60 سنة نقف على فقر المدرسة التونسية وعلى بؤس نتائجها، لكننا لا نسمع في المقابل إلا حديثًا عن تفوق التونسي حيثما وجد، فيتجلى لنا أن مدح الذات هو أكبر علامات فقرها الواقعي وأن التونسيين بارعون في مدح ذواتهم خاصة أمام العرب للتغطية على فشل عميق يكبل تقدمهم.
جاءت الثورة العفوية والتي قاد بعض أبناء المدرسة ردهاتها بطلب تغيير جذري للمدرسة التونسية، لكن الثورة نفسها اصطدمت بالقطاع الواسع من أبناء هذه المدرسة من المحافظين على مواقعهم فأفرغوا أجمل ما فيها من تمرد وحولوها إلى رواتب مجزية
لقد جاءت الثورة العفوية والتي قاد بعض أبناء المدرسة ردهاتها بطلب تغيير جذري للمدرسة التونسية، لكن الثورة نفسها اصطدمت بالقطاع الواسع من أبناء هذه المدرسة من المحافظين على مواقعهم فأفرغوا أجمل ما فيها من تمرد وحولوها إلى رواتب مجزية، ولا نزال ندور في نفس الموقع لنظفر بنقطة بداية رغم جلائها الثوري فإنها تظل عسيرة على عقل محافظ بني على قاعدة تمسكك بالسيء الذي بين يديك أفضل لك من الوقوع في الأسوأ القادم.
حتى اللحظة يمكن القول إن الثورة قد أنهت الزعم البورقيبي بالتحديث ولكن لم تجد بوابة العبور خارج نظامه، ونعتقد أن هذه البوابة هي المدرسة ولكن بعقل جديد يبدأ أولاً بتعلم التواضع لينهي أسطورة تفوق الديك الجميل الذي يؤذن في المزبلة.