رغم المعركة المستمرة منذ سنوات بين ما يُعرف بـ وزارة المعارف الإسرائيلية (تشرف على مدارس القدس وأراضي 48) وذوي الطلبة رفضًا لسياسة أسرلة وتحريف المنهاج التعليمي، إلا أن العشرات من الطلبة ذاتهم يلجؤون بعد انتهاء الثانوية العامة إلى الالتحاق بالجامعات الإسرائيلية، لأسباب يفرضها الاحتلال رغم العقبات التي تعيق تسجيلهم في مختلف التخصصات.
ويرى البعض أن التحاق الطلبة الفلسطينيين، وتحديدًا من القدس والداخل المحتل، هو تطبيع مع الاحتلال، لكن ما يجري طبيعي، فهم يعيشون تحت الاحتلال، وعليه توفير التعليم والصحة والأمن لكن وفق رؤيتهم الوطنية.
كما يفرض الاحتلال حواجز جغرافية واقتصادية تعيق وصول طلبة القدس والداخل المحتل إلى الجامعات الفلسطينية في الضفة المحتلة، لذا لا خيار أمامهم سوى الدراسة في الجامعات الإسرائيلية.
نستعرض عبر هذا التقرير لـ”نون بوست” تجربة الدراسة في الجامعات العبرية، والأسباب التي تدفع طلبة القدس والداخل المحتل للانتساب إليها، رغم المضايقات الاستفزازية التي يتعرضون لها من قبل الطلبة اليهود وإدارة الجامعات.
حظر العمل الطلابي وفصل من يدعم قضيته
بعد عدة محاولات للحديث مع طلبة تلقّوا تعليمهم في الجامعات العبرية، وافق محمد جبارين (31 عامًا) من مدينة أم الفحم شمال فلسطين، أن يحكي تجربة التحاقه بـ”الجامعة المفتوحة”.
في بداية الحديث راح يشرح جبارين لـ”نون بوست” طريقة التسجيل، حيث ذكر أن التحاق طلبة الداخل المحتل والقدس في الجامعات العبرية هو خيار أسهل، بناء على توفير المنح الدراسية وفرص العمل بعد التخرج، لكن في الوقت ذاته هناك عقبات كثيرة تقف عائقًا أمام تحقيق طموحاتهم، خاصة لمن يريد دراسة الطب أو تخصصات أخرى، ما يضطره للجوء إلى جامعات في الخارج أو في الضفة الغربية، وذلك بسبب سياسة التمييز التي تنتهجها إدارة الجامعات.
وتجدر الإشارة إلى أنه قبل الالتحاق بالجامعات ضرورة اجتياز الطالب شهادة “البجروت“ (تعادل الثانوية العامة)، ومن ثم اختبار “البسيخومتري” (امتحان قبول جامعي)، وكذلك امتحان “اليعيل” وهو امتحان مستوى لغة عبرية.
ويعتبر “البسيخومتري” عقبة أمام الطلبة الفلسطينيين الذين يرفضون الخدمة في الجيش، بخلاف اليهود الذين يلتحقون به، حيث يبدأ إحصاء العلامات لهم ضعفَي الطالب العربي.
وعند سؤال جبارين لماذا لم يذهب للدراسة في الجامعات الفلسطينية بالضفة الغربية، أجاب: “نعيش تحت احتلال والدراسة في الجامعات العبرية يتزامن معها عمل ويمكن للشاب تكوين مستقبله، بينما الذهاب للفلسطينية فيها عراقيل كثيرة يضعها الاحتلال، ومنها الحواجز التي سنقطعها للوصول إلى جامعاتنا”.
ويؤكد أن دراستهم في الجامعات العبرية تشكّل تحديًا يقوده طلبة فلسطينيي الداخل للتعلم في بلادهم، كما تعزز الرباط في بلداتهم وقراهم، إلى جانب الوعي الثقافي والانتماء بين شريحة الطلبة الفلسطينيين من مختلف البلدات، في ظل سياسة التمييز التي تتبعها إدارة الجامعات عند التعامل مع الطالب العربي أو الإسرائيلي.
وأوضح جبارين أن إدارة الجامعات الإسرائيلية تحدّ من أنشطة الطلبة الفلسطينيين داخلها، حيث يضيّقون عليهم عند إحياء المناسبات الوطنية، وكذلك يتم منعهم من رفع العلم الفلسطيني وقت إحياء ذكرى النكبة وغيرها.
إذ تعرّض جبارين للفصل بعدما أنهى 3 سنوات في تخصص علوم الاجتماع والأدب، وذلك لأنشطته الطلابية وأنشطته السياسية بعد تحذيره من قبل المخابرات الإسرائيلية، ما اضطره للدراسة في جامعة اليرموك بالأردن، ووقتها طلب الاحتلال حضوره للبلاد للتحقيق معه مرة أخرى، وأُرغم على دفع غرامة مالية بآلاف الشواكل.
ويوضّح أن وقت الدراسة في الجامعات الإسرائيلية عانى كبقية زملائه العرب من تضييق كبير من قبل الطلبة اليهود، ففي كثير من الوقفات الاحتجاجية يتهجّمون عليهم بالضرب وقت أحداث الضفة الغربية أو القدس أو قطاع غزة.
يذكر أنه في يوليو/ تموز الماضي، صادقت اللجنة الوزارية الإسرائيلية للتشريع على مشروع قانون جديد ينص على “إغلاق خلية طلابية تعبّر عن دعمها لعمل أو نشاط إرهابي أو منظمة إرهابية، من قبل المؤسسة الأكاديمية المعنية”، بحسب الوصف الإسرائيلي.
ويقترح القانون “وضع حد للتحريض في الأكاديميا، والتأكيد على أنه لا يجوز التعبير عن دعم الكفاح المسلح ضد دولة “إسرائيل” أو عمل إرهابي أو منظمة إرهابية، وأنه لا يجوز رفع علم دولة معادية أو منظمة إرهابية أو السلطة الفلسطينية فوق مباني مؤسسة التعليم العالي”.
ووفقًا للاقتراح، فإن “انتهاك هذه المحظورات سيؤدي إلى إيقاف الطالب من قبل المؤسسة لمدة لا تقل عن 30 يومًا، والطالب الذي يرتكب مثل هذه المخالفة مرة أخرى سيتم إبعاده نهائيًّا من الدراسة في تلك المؤسسة، وسيتم حرمانه من حق الاعتراف بشهادة ممنوحة في “إسرائيل” أو في الخارج”.
مغريات للطلبة المقدسيين
أما في القدس الوضع مختلف قليلًا، ففي كثير من الأحيان يتّخذ المقدسيون موقفًا من إدخال أبنائهم الجامعات العبرية، ما يضطر الاحتلال لتقديم تسهيلات عبر توفير المنح لبعض الطلبة، لكن واقعيًّا هناك تسرُّب من قبل الطلبة بفعل الضغوط العنصرية التي تمارَس ضدهم سواء من الطلبة اليهود أو المعلمين.
ومنذ بداية العام الدراسي الحالي يواجه طلبة مقدسيون مصيرًا مجهولًا، بعد تجميد وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريش ميزانية مخصصة للمنح الدراسية، ودعم التعليم العالي في مدينة القدس المحتلة.
وأعلن سموتريش نيته تجميد 200 مليون شيكل كانت مخصصة للطلاب المقدسيين شرقي القدس، للمشاركة في الفصول التحضيرية في الجامعة العبرية بالقدس وكليتَين قبل التسجيل في الدراسات الأكاديمية.
يقول رمضان طه، الناطق باسم اتحاد أولياء الأمور في القدس، إن طلبة الجامعات الإسرائيلية من المقدسيين يعانون من ارتفاع الرسوم الجامعية، ومحاولة تجميد الميزانية المخصصة لتقديم المنح ستعمل على إرهاق الأهالي من توفير الرسوم، مشيرًا إلى أن المنح تخفّف العبء الاقتصادي عن ذوي الطالب، لكن بعد محاولة إلغائها ستدفع الطالب للعمل لدفع مستحقاته الجامعية.
ويذكر طه لـ”نون بوست” أن الجامعات الإسرائيلية تتعامل مع طلبة القدس بعنصرية شديدة، حيث يضيّقون عليهم في امتحانات القبول ويضعون شروطًا تعجيزية، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أن المنح التي تقدم لطلبة القدس تكون حسب التخصص الذي يحتاجه سوق العمل الإسرائيلي، بحيث عند تخرج الطالب يمكن الاستفادة منه في المراكز الخدماتية.
ويخبر أنه اضطر لسحب ابنتَيه من الجامعة العبرية خلال السنة التحضيرية الأولى، بسبب السخرية والعنصرية اللتين تعرضتا لهما من المحاضرة الإسرائيلية التي استهزأت بحجابهما، فنقلهما إلى الجامعات الفلسطينية حيث المسافات والحواجز العسكرية التي تعيق الوصول إلى الجامعات.
وذكر أن جامعات الاحتلال تقدم مغريات للطلبة المقدسيين، لكنهم ينصدمون على أرض الواقع كون الوعود لا يطبَّق منها سوى 20% والباقي أوهام وعنصرية.
وفيما يتعلق بالدوافع التي تجعل طلبة القدس يقبلون على الدراسة في جامعات الاحتلال، يقول طه: “لا يعترف الاحتلال بالجامعات الفلسطينية التي يتخرج منها أبناؤنا، لا سيما بعض التخصصات، فيعرقَل بحثهم عن العمل في مدينة القدس، وبالتالي يختصر الطلبة الطريق ويدرسون في جامعات الاحتلال”.
ويؤكد أن الرسوم الجامعية رغم التسهيلات والمنح، إلا أنها تصل إلى 5 آلاف دولار للسنة التحضيرية فقط، ما يدفع أهالي القدس إلى إرسال أبنائهم للدراسة في الأردن، خاصة التخصصات الطبية.
وما يدفع عددًا من طلبة القدس لهجر الجامعات الإسرائيلية والدراسة في الأردن أو كليات أجنبية، هي الملاحقة والاعتقال وكذلك حملات الإبعاد عن مدينتهم المقدسة، وبالتالي تتعرقل مسيرتهم التعليمية ويحرَمون من الدراسة بانتظام.
وفي الوقت ذاته هناك طلبة كثر ينتظمون في الدراسة بجامعات الاحتلال، ويصمدون فترة دراستهم أمام كل المغريات التي تحاول “إسرائيل” تمريرها لمحو هويتهم الفلسطينية.
أدلجة المعتقدات الصهيونية أكاديميًّا
وتعقب نفين أبو رحمون، مختصة في التربية السياسية وتخرجت من جامعة بار إيلان في تل أبيب، إن تعليم أبناء الداخل المحتل في الجامعات الإسرائيلية إلزامي وهي المتاحة أمامهم، كون التعلم في الخارج خيارًا صعبًا من الناحية المادية، لا سيما لمن يريد دراسة التخصصات الطبية.
وأكدت أبو رحمون أنه لا يوجد جامعات فلسطينية مقامة على أراضي الـ 48 جميعها يتبع الاحتلال، وإن وُجدت الفلسطينية فهي عبارة عن معاهد وكليات مختصة بالتدريس والتربية، يعيق الاحتلال تطويرها من خلال عدم مصادقته على إنشائها.
وتوضّح لـ”نون بوست” أن خروج الطالب الفلسطيني من حيز التعليم المدرسي إلى الجامعة فيه قفزة كبيرة إلى العالم الأكبر وهو الجامعة، حيث الإشكالية الأولى في الهوية وكذلك اللغة العبرية التي لا يتقنون منها سوى العبارات العامية البسيطة.
وذكرت أن العراقيل التي توضع أمام الطالب الفلسطيني لدخول الجامعات الإسرائيلية تأتي كسياسة تضييق تعكس العقلية الصهيونية، التي تسعى لأدلجة المعتقدات الصهيونية على شكل أكاديمي، موضّحة أن الطالب الفلسطيني يبدأ مرحلة صراع معاناة الهوية في أول لقاء مع الإسرائيلي في الجامعة، ودخوله إلى البلدات المحتلة المقام عليها الجامعات.
وأشارت أبو رحمون إلى أن الطالب الفلسطيني يشعر بالغربة داخل الجامعات الإسرائيلية، حيث اللغة العبرية التي تشعره بعدم الاندماج، وبشكل طبيعي يحدث فصل ما بين الطلبة اليهود والفلسطينيين الذين يلتفّون حول بعضهم في مواجهة العدو.
وبحسب قولها، فإن أولى المواجهات تبدأ عند النشاط السياسي الطلابي ورفع العلم الفلسطيني وقت إحياء المناسبات الوطنية، كذكرى النكبة، ما يستفز اليهود وغالبيتهم من المستوطنين، فتحدث اشتباكات بين الطلبة.
وتضيف: “في الجامعات العبرية يتم التضييق على التحرك الطلابي للحدّ من دوره السياسي والاجتماعي، وكذلك تجريم النضال والموقف الوطني”، مرجعة ذلك إلى سعيهم لخلق جيل فلسطيني منعزل عن شعبه، لكن الواقع أثبت أن الطلبة لديهم وعي وانحياز كامل لقضيتهم.
وأوضحت أبو رحمون أن الحركة الطلابية الفلسطينية تعمل ضمن تنظيمات سياسية تساهم في رفع الوعي الوطني وتفرض نفسها في الجامعات الإسرائيلية، والأخيرة تحاربها كونها ترى أنها معقل للسياسيين المحرضين ضد دولة “إسرائيل”.
وتطرقت خلال حديثها إلى أن الجامعات الإسرائيلية المقامة ليست بريئة، كونها أُنشئت على أنقاض بلدات وقرى فلسطينية محتلة، مثل جامعة تل أبيب الموجودة في قرية الشيخ مؤنس، وجامعة حيفا محاطة بقرى فلسطينية هُجّر سكانها، والجامعة العبرية في القدس تخرج جنرالات وفي الوقت ذاته تضيّق على الطلبة المقدسيين.
وعن التخصصات التي يمنع الاحتلال تدريسها للفلسطيني، ذكرت أبو رحمون أن الطيران وعلم الذرّة وأي تخصُّص يمسّ بالقضايا الأمنية يحظرها على الطالب الفلسطيني، لكن يسمح له دراسة العلوم الاجتماعية والآداب والتربية، بينما الطب فيه معوقات كثيرة تبدأ من “البجروت” وحتى “البسيخومتري”.
ورغم الإجراءات العنصرية التي تفرضها دولة الاحتلال على الطلبة الفلسطينيين عند الالتحاق بجامعاتها ومحاولة اختراق ثوابتهم الوطنية، إلا أن أبناء فلسطين يمارسون نوعًا آخر من المقاومة، حيث الصمود والتحدي بالتفوق والتميُّز رغم كل العراقيل المنصوبة أمامهم.