الاحتكاك؛ مصطلح يتحقق كل ساعة بين كافة البشر في العالم، فذاك يحتك ببيئة العمل، وآخر يحتك بزملائه لإضاعة الدوام، مصطلح عادي حتى تضاف إليه كلمتان: الصفائح التكتونية.
يصبح حينها ذلك المصطلح الاعتيادي كارثيًّا، وقد يتسبّب في هلاك مدن كاملة، وقد كان بالفعل وتحديدًا في 8 سبتمبر/ أيلول الجاري، عندما شهد المغرب أقوى زلزال مرَّ عليه منذ قرن مضى، بقوة تخطت 6.8 على مقياس ريختر، والذي أودى بحياة نحو 3000 شخص.
ندعو الله أن يعمَّ السلام على المغرب العربي من جديد، وليلهم أهالي الضحايا الصبر والسلوان.
لكن، هل كُتب علينا أن نتفاجأ بحدوث الزلازل رغم كل هذا التطور العلمي؟
لماذا من الصعب توقع الزلازل؟
الزلزال هو اهتزاز مفاجئ وسريع للأرض بسبب تحرك طبقات الصخور تحت سطح الأرض، أو بسبب نشاط بركاني، هذا ببساطة تعريف الزلازل، بعض التحركات التي تحدث في الطبقات السفلى من القشرة الأرضية والتي تُدعى الصفائح التكتونية، تستمر في الاحتكاك ببعضها حتى يحدث التصدع في النهاية، وهو ما نرى تأثيره على الأرض العليا.
لكن رغم معرفتنا لكل هذا، لمَ على الزلزال أن يكون مفاجئًا حتى الآن؟
قبل الاستفاضة في الصعوبات التي تواجه العلماء في توقع الزلازل، في البداية ما هو توقع الزلازل؟
في الحقيقة، لا يريد العلماء مجرد توقع لحدوث زلزال في منطقة ما، إنما التوقع يتضمن معرفة الموقع والموعد وقوة الزلزال على مقياس ريختر، كي يصبح التوقع صحيحًا وذا فائدة، وقابلًا لاتخاذ الإجراءات لتفاديه.
أما على أرض الواقع، فإن أول الصعوبات التي تواجه العلماء لتوقع الزلازل هي الفترة القصيرة التي تحدث فيها الزلازل، فلا توجد علامات واضحة كالمستخدمة في التنبؤ بالطقس، تمكّننا من معرفة قرب حدوث الزلازل، وذلك حتى بعد تحديد المناطق الأكثر عرضة لحدوث الزلازل.
أضف إلى ذلك أن الزلازل تحدث بعد فترة من الضغط الذي يتم إطلاقه على الصخور، ويتراكم هذا الضغط على طول الصدع، وذلك حتى يصل إلى النقطة الحرجة التي تتسبّب في حدوث الزلزال، فببساطة لا يمكن التنبؤ بوقت الوصول إلى هذه النقطة الحرجة.
لا تقتصر صعوبة توقع الزلازل على هذا فقط، فهناك العديد من العوامل الأخرى، ذلك لأن الزلازل -ولسوء الحظ- لا تحدث فقط بسبب تحركات الصفائح التكتونية، إنما قد تتسبّب فيها الأنشطة البركانية أو انهيارات الجبال.
ثم إن هناك عدة عوامل متغيرة تؤثر على نتائج التوقع إذا ما تم الاعتماد على تحركات هذه الصفائح فقط، وذلك مثل خصائص الصخور نفسها أو ما يعرَف بتراكم الإجهاد، وهو أحد مسبّبات الزلازل، وتختلف هذه العوامل وفقًا للمنطقة التي يتم البحث فيها والوقت.
أما العائق الثاني هو عدم وفرة البيانات التاريخية للأنشطة الزلزالية، والتي يحاول العلماء الوصول من خلالها إلى نمط معيّن لحدوث الزلازل يمكنهم من خلاله معرفة متى سيحدث زلزال في هذه المنطقة، وذلك بسبب تأخُّر العلماء في عملية تسجيل البيانات الخاصة بالزلازل، فقد بدأ هذا بالفعل منذ سنوات عديدة، لكنها ليست كافية مقارنة بعمر الأرض لنتمكن من خلالها من توقع الزلازل القادمة.
وكمثال لهذا، تمكّن العلماء من تحديد نمط معيّن للأنشطة الزلزالية في منطقة كاسكاديا في شمال غرب المحيط الهادي، إلا أنهم، ورغم توفر قدر كبير من البيانات قد يصل إلى مئات السنين، تمكنوا فقط من معرفة أن هناك زلازل كبيرة تحدث كل عدة قرون، لكن تحديد موعد هذه الزلازل وقوتها لم يكن أمرًا ممكنًا حتى هذه اللحظة.
ثالثًا، التحركات العشوائية، وهي أحد العوائق الهامة في عملية توقع الزلازل، لا تتشابه مع كافة تحركات الصفائح التكتونية، كما لا تتصدع بشكل يمكن التنبؤ به، ولا يوجد ما يمنع من حدوث تصدعات جديدة لم يعرف بها الإنسان من قبل.
وأبسط مثال على هذا زلزال كرايستشيرش في نيوزيلندا الذي حدث عام 2011، فحينها كان التصدع جديدًا تمامًا ومفاجئًا ليتخطى بذلك كافة التنبؤات التي توقعها العلماء.
أخيرًا، فإن آخر ما يصعّب من عملية توقع الزلازل هو عدم وجود الإشارات المعتمدة لحدوث الزلزال، وذلك رغم وجود العديد منها في البيئة، مثل اضطراب المياه الجوفية أو تغير السلوك الحيواني بالإضافة إلى انبعاثات غاز الرادون.
إلا أن أيًّا من هذه العلامات لا يمكن الاعتماد عليها بشكل كلي، فلا يمكن اعتبار اضطراب الحيوانات في أي وقت مؤشر لحدوث الزلزال، ففي النهاية هي أرواح ذات وعي قد يتسبّب أي شيء آخر -غير الزلازل- في تغيير سلوكها، والأمر ذاته بالنسبة إلى اضطرابات المياه الجوفية وغاز الرادون.
لكن رغم ذلك، نجح الاعتماد على هذه العوامل لمرة واحدة يضرب بها المثل حتى الآن، وذلك في عام 1975، عندما تنبّأ العلماء بحدوث زلزال في مدينة هايشنج، ليكون أهم تنبؤ ناجح لزلزال في التاريخ.
كما كان أكثر تنبؤات الزلازل إثارة للجدل، خاصة أن الهزات الأرضية الأولية التي اعتمد عليها العلماء في التنبؤ بهذا الزلزال، لم تكن كافية للتنبؤ بالزلزال الذي حدث في العام الذي يليه، والذي أودى بحياة أكثر من 240 ألف شخص، ليفحَص هذا التنبؤ بشكل أكثر دقة فيما بعد ويكتشَف أنه كان خاطئًا، وأن نجاحه كان بمحض الصدفة.
لهذه الأسباب جميعًا، كان توقع الزلازل شيئًا أقرب إلى المستحيل، حتى وإن نجح في مرة من المرات فهو لا يعتمَد عليه، وذلك حتى تغير كل شيء.
الذكاء الاصطناعي يتنبّأ بالمستقبل
نحن الآن في عام 2045، نستعرض أخبار الطقس والبيئة عبر نظارة Apple Vision Pro 5، ولا نتفاجأ حين نرى خبرًا عن اقتراب وقوع أحد الزلازل في منطقة ما بالقرب من المنزل، لسنا قلقين من حدوث الوفيات، ومستعدين للذهاب في رحلة قصيرة خلال المدة التي سيحدث فيها الزلزال.
قد ترى أن هذا سيناريو تخيُّلي، لكنه المستقبل، وذلك وفقًا للكمّ الهائل من الدراسات التي نُشرت خلال السنوات الماضية، فيما يخص إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي وتقنيات تعلم الآلة في توقع الزلازل.
يتم هذا من خلال عدة طرق، فلا يقتصر الأمر فقط على مرحلة ما قبل وقوع الزلزال، إنما يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وإليك بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالزلازل قبل وقوعها.
رسم الخرائط الزلزالية
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في إنشاء خرائط مخاطر زلازل دقيقة أكثر، عن طريق دمج مجموعة متنوعة وضخمة من البيانات الجغرافية والسجلّات الزلزالية التاريخية والمعلومات الجيولوجية وتحليلها واستخراج النتائج منها، وبطبيعة الحال هو كمّ هائل من البيانات التي لولا تقنيات تعلُّم الآلة لما تمكنّا من الحصول على أية نتائج من خلالها، وهو ما حدث بالفعل.
في فبراير/ شباط 2022، تمكّنت مجموعة من باحثي جامعة ستانفورد من استخدام تقنيات تعلم الآلة والبيانات الزلزالية، في تطوير نموذج يمكنه رسم خرائط مخاطر زلزالية عالية الدقة لمنطقة الخليج بكاليفورنيا، وذلك من خلال ربط التحركات الأرضية مع احتكاكات الصفائح التكتونية، وقد جرى استخدام جبال سانتا كروز كمعمل طبيعي يمكن اختبار النموذج عليه ومحاكاة الصفائح التكتونية بشكل ثلاثي الأبعاد، نُشرت هذه الدراسة في مجلة Science Advances، وهم يحرزون تقدمًا كبيرًا في هذه المهمة.
اكتشاف الاستثناءات
يمكن كذلك للذكاء الاصطناعي اكتشاف الظواهر الجيولوجية أو الجيوفيزيائية غير العادية التي قد تسبق الزلازل، مثل التغيرات في مستويات المياه الجوفية، وتشوهات الأرض، وانبعاثات غاز الرادون.
رغم عدم وجود دراسات قاطعة حتى هذه اللحظة بهذا الصدد، إلا أن جهود البحث المتعددة قد تمكّنت بالفعل من استخدام الذكاء الاصطناعي في اكتشاف الاستثناءات المتعلقة بمؤشرات حدوث الزلازل.
تحليل الموجات الصوتية للتنبؤ بالزلازل
رغم أن العمل قد أُجريَ في مختبر، إلا أن تجارب فريق باحثي جامعة كامبريدج ومختبر لوس آلاموس قد أثبتت قربها إلى التطابق مع الظروف الطبيعية، حيث اكتشف باحثو جامعة كامبريدج رابطًا قويًّا بين الموجات الصوتية التي تصدر أثناء انزلاق الصفائح التكتونية والضغط الذي تتعرض له، ليتمكنوا في النهاية من استنتاج الزمن المتبقي قبل حدوث التصدع.
تميز هذا النموذج بقدرته على تحليل كافة الموجات الصوتية والبيانات الزلزالية في الوقت ذاته، وذلك مع ضمان عدم تجاهل أي موجة صوتية تنتج بسبب تحركات الصفائح التكتونية.
يتعرّف نموذج الذكاء الاصطناعي الأمريكي إلى العلاقة بين إشارة الصوت والضغط الذي يتعرض له الصدع، وذلك خلال النصف الأول من التجربة المنقسمة إلى جزئين، وتنتهي هذه العملية بتحديد الزمن المتبقي لحدوث التصدع.
أما خلال النصف الثاني، يضع النموذج التنبؤات بالاعتماد على الموجات الصوتية فقط دون الضغط، وقد أثبتت هذه الطريقة نجاحها -وفقًا للعلماء- مع هامش خطأ لا يزيد عن 10%، ويصل إلى 2.5% عند اقتراب لحظة التصدع.
هل يتحقق حلم توقع الزلازل؟
أكثر ما يحزن في هذا السؤال هو صدقه، لا أتحدث هنا عن مدى صعوبة توقع الزلازل، فالطرق التي ذكرتها في الأعلى والدراسات التي تنشر يومًا بعد يوم في هذا الصدد تبشّر بالخير. إذًا عمّاذا أتحدث؟ عن الحكومات ورؤساء الدول.
دعنا نتخيل المشهد السابق مرة أخرى، لكن لنجعله أكثر عنفًا وسرعة.
نحن الآن في عام 2045، تبدأ يومك بالروتين الذي تتبعه منذ سنوات، البحث عن آخر مستجدات الزلازل، فرغم عدم وقوعها كل ساعة، إلا أنك تستطيع معرفة ما إذا كانت ستحدث، فسيصبح هذا هو ما تعيش فيه.
ترى خبرًا عن اقتراب وقوع أحد الزلازل في منطقة ما بالقرب من المنزل، فتهلع وتركض ناحية المتجر لتشتري احتياجاتك للمدة التي ستقضيها خارج المنزل، وستخبر كل من تقابله أن هناك زلزالًا يقترب، ليصيب الهلع الجميع.
هل من حكومة على استعداد لتحمُّلها نشر نبأ كهذا على المواطنين وحقنهم بالرعب والخوف ممّا قد يواجهون؟ هل من حكومة على استعداد لتحمُّل ما سيحدث لاقتصادها إذا شعر المواطنون بعدم الأمان بعد إذاعة هذا الخبر؟ هل من حكومة على استعداد لتحمُّل احتمالية عدم الإصابة في نقل خبر كهذا على المواطنين؟
هذه الأسئلة وغيرها هي ما سيحدد ما إذا كانت عمليات البحث في كيفية توقع الزلازل ستستمر، أم ستتوقف عند هذا الحد.
رحم الله أشقاءنا في المغرب وليبيا.