بقيت تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب المعادية للصين مثيرة للجدل بين الخبراء من حيث إمكانية تطبيقها أو لا! في ظل السياسة الخارجية الانكفائية لترامب وسياسات الحماية التجارية مع بلدان العالم وما ستخلقه من حرب تجارية بين عملاقي الاقتصاد في العالم تؤثر على اقتصاديهما بشكل سلبي فضلاً عن الاقتصاد العالمي ككل.
ورغم الرسائل السلبية العديدة التي بدأها ترامب مع الصين منذ فوزه في الانتخابات الرئاسية فإن الجليد كُسِر بين زعيمي البلدين بعدما أجرى ترامب اتصالاً بالرئيس الصيني شي جين بينغ قبل أيام وصفه الزعيمان بالإيجابي والودي، حيث تراجع ترامب عن تهديده الأكبر وشدد على أن واشنطن متمسكة بسياسة “الصين الواحدة” وذكر بعد اتصاله الهاتفي أن أمريكا مستعدة للعمل على رفع العلاقات مع الصين نحو مستوى لم يسبق له مثيل، وبعد الاتصال بيوم عاود ترامب الاتصال بالرئيس الصيني ليهنئه والشعب الصيني بالعام الصيني القمري الجديد.
إلا أن هذا الود بين الزعيمين لا ينفي الصراع التاريخي القائم بينهما ولا يُذهب التنافس الشديد على صدارة العالم اقتصاديًا، من خلال تحجيم التمدد التجاري الصيني في أمريكا في ملفات التجارة والاستثمار والعملة والنزاعات الدولية، والسؤال الذي يشغل العالم اليوم بشقيه ما ستفعله الولايات المتحدة مع الصين في عهد ترامب وما ستفعله الصين مع الولايات المتحدة والعالم في عهده!
حجم العلاقات الاقتصادية بين البلدين
تعود العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين البلدين إلى 38 عامًا، تمكنت فيها الصين من رفع حجم اقتصادها بالارتكاز على الاقتصاد الأمريكي والعالمي والاستفادة من سياسة العولمة والرأسمالية والانفتاح التجاري الذي دعت له الولايات المتحدة عقب انهيار المعسكر الاشتراكي وانتصارها في الحرب الباردة.
حيث حققت الصين مكاسب اقتصادية خلال العقدين الماضيين أقلها أنها أصبحت المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي العالمي خلال السنوات التي تلت أزمة المال العالمية، وتخطى اقتصادها الولايات المتحدة بحساب معادل القوة الشرائية في العام 2014 حسب دراسة اقتصادية لمعهد بيترسون الأمريكي للاقتصاد الدولي.
وارتفع عدد الشركات الكبرى الصينية التي تعد بين أكبر 1000 شركة في العالم من 41 شركة في عام 2006 إلى 136 شركة في العام 2014 من بينها 70 شركة تملكها الدولة الصينية، كما أن البضائع الصينية غزت أسواق العالم لأسباب تتعلق بثمنها الرخيص والتقليد الجيد للماركات العالمية، حتى هيمن التنين الصيني بتجارته وصناعاته على الدول الغربية وكسر القاعدة التي كانت سائدة قبل الحرب الباردة حيث كانت الشركات الغربية هي المهيمنة على العالم.
قدر حجم التبادل التجاري بين البلدين في العام 1979 بـ2.7 مليار دولار وصل في عام 2010 إلى نحو 500 مليار دولار أي أنه تضاعف بأكثر من 193 مرة خلال هذه الفترة الزمنية، بحسب تقرير لمركز دراسات الصين وآسيا، وفي العام 2014 بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 555 مليار دولار وتجاوز الفائض التجاري للصين منها 237 مليارًا.
عدد الشركات الكبرى الصينية التي تعد بين أكبر 1000 شركة في العالم ارتفع من 41 شركة في عام 2006 إلى 136 شركة في العام 2014 من بينها 70 شركة تملكها الدولة الصينية
ومنذ العام 1980 إلى الآن اشترت الصين أكثر من 600 طائرة بوينغ يتجاوز سعر الطائرة الواحدة 100 مليون دولار مما ساهم في خلق وظائف كبيرة للاقتصاد الأمريكي، ووصل حجم استثمارات الشركات الأمريكية في الصين من عام 1980 إلى 2011 أكثر من 70 مليار دولار من خلال أكثر من 60 ألف شركة، 85% منها حققت أرباحًا كبيرة.
وفي تقرير لمجلس الأعمال الصيني الأمريكي مؤخرًا ذكر أن التجارة الثنائية والاستثمارات ساهمت في خلق 2.6 مليون وظيفة في الولايات المتحدة وساهمت بنحو 1.2% من إجمالي الناتج المحلي الأمريكي خلال العام الماضي 2016، وبلغ حجم الخدمات الثنائية في مجملها أكثر من 100 مليار دولار وتجاوزت الاستثمارات المتبادلة 170 مليار دولار بنهاية 2016.
وتوقع المجلس أن تبلغ صادرات أمريكا إلى الصين 520 مليار دولار بحلول 2050 وأظهرت نتائج إحصائات جمركية ارتفاع التجارة الخارجية الصينية مع الولايات المتحدة ثاني أكبر شريك تجاري للصين بنسبة 21.9%.
الصين تسعى لاستكمال هيمنتها على الاقتصاد العالمي
انتقال الثقل الصناعي من الدول الرأسمالية الغربية إلى الصين بفضل صناعاتها وتجارتها مع دول العالم وأنها أصبحت مركزًا للسلع والخدمات، جعل ترامب يفكر أن الصين استغلت نظام الرأسمالية والعولمة وسياسات الانفتاح التجاري لتسير نحو التربع في قائمة أكبر اقتصادات العالم وتزيح بالتالي الولايات المتحدة وتكبد الشركات الغربية خسائر كبيرة.
ومن هذا الباب سعت الإدارات السابقة في الولايات المتحدة لمواجهة الصين وتحجيم تمددها الاقتصادي إلى أن جاء ترامب وأعلن أنه سيواجه الصين بشكل مباشر بينما ترى الدول الغربية أن مواجهتها تتم عبر استخدام نفس النظم التي سعت من خلالها الصين للصعود والازدهار، وهي نظم التجارة القائمة وقوانينها لمحاربة الدعم الحكومي الصيني للمنتجات والاحتيال على حقوق الملكية الفكرية وقوانين المنافسة العادلة.
ولمواجهة التهديدات العالمية تسعى الصين لضمان استمرار نموها الاقتصادي لها ولشركاتها ولمؤسساتها المالية التي استحدثتها خلال الفترة المالية وتسعى من خلالها أن تكون بديلاً عن صندوق النقد والبنك الدوليين، بعدما بدأت معدلات النمو تتباطأ بعد اكتمال معظم مشاريع تحديث البنى التحتية.
قدر حجم التبادل التجاري بين الصين وأمريكا في العام 1979 بـ2.7 مليار دولار وصل في عام 2010 إلى نحو 500 مليار دولار أي أنه تضاعف بأكثر من 193 مرة
يرى الاقتصادي سامر خير أحمد أن انسحاب الولايات المتحدة اقتصاديًا سيكون خبرًا سارًا للصين، فانسحاب الولايات المتحدة من العولمة على يد ترامب وانكفاؤها على ذاتها اقتصاديًا سيعطي فرصة كبيرة للصين لأن تسعى في تطبيق عولمتها الخاصة بها القائمة على خطة الطريق والحزام والتي تهدف من خلالها إلى إقامة علاقات اقتصادية تشاركية مع دول العالم عبر مسارين الأول يتتبع طريق الحرير التاريخي ويعبر وسط آسيا نحو أوروبا والثاني دول شرقي آسيا.
تنوي الصين إنفاق 4 ترليونات دولار خلال العقدين الحاليّ والمقبل ليكون مشروع الطريق والحزام من أكبر المشاريع الاستراتيجية التي تقوم بها الصين ليس على المستوى المحلي فحسب بل على المستوى العالمي أيضًا، حيث لا يوجد منافس له حتى الآن على الأقل من قبل دول العالم الكبرى، سوى سياسات تسعى من خلالها الدول للجم التمدد الصيني وتحجيمه.
اقتصاديًا يشبه المشروع “خطة مارشال” لإعمار أوروبا الغربية التي تبنته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية لإنعاش الاقتصاد الأمريكي وشركاته، وبالمثل يسعى مشروع الحزام والطريق إلى بناء الطرق والسكك الحديدية والجسور والمواني في الدول التي سيمر منها الطريق والممتد عبر أكثر من 60 دولة في آسيا وأوروبا والمنطقة العربية، ويساهم في إيجاد عقود لشركات البناء وصناعة الأسمنت والصلب لتكون بديلاً عن المشروعات المحلية، حيث وصلت عمليات التحديث الضخمة في البنية التحتية في الصين إلى حد الإشباع، وأدت بعد فترة إلى انخفاض معدلات النمو إلى 6.5% بعدما فاقت 10% ولامست 15% في سنوات.
سيمر مشروع الطريق والحزام عبر أكثر من 60 دولة في آسيا وأوروبا والمنطقة العربية
لذا فالمشروع سيعمل على إيجاد بديل للنمو الاقتصادي المعتمد حاليًا على الاستثمار الداخلي في شتى المشروعات إلى عقود خارجية مع دول الطريق والحزام من خلال الاستثمار في مشروعات البنية التحتية في الخارج، وبحسب دراسة أمريكية عن القروض الممنوحة من البنوك الصينية الكبرى فإن 70% من القروض المقدمة يشترط فيها استخدام جزء من القرض في شراء معدات صينية واستخدام عمال صينين وشركات صينية في تنفيذ المشروع الذي قدم له القرض.
والهدف الآخر هو تأمين إمدادات الطاقة إلى الصين حيث باتت تعد أكبر مستورد للنفط في العالم ويتم هذا عبر إنشاء أنابيب نفطية تربطها مع وسط آسيا وروسيا وجنوب شرقي آسيا، حيث من المتوقع أن يمكن المشروع الصين من خفض تكاليف تصدير واستيراد المواد الخام من المنطقة العربية.
كما تعتقد الصين أن هذا المشروع سيعمل على تنمية اقتصادات البلدان التي يمر بها ويرفع من مستوى دخل المواطنين في تلك الدول، وبالتالي يرفع الطلب على البضائع الصينية وتتوقع الصين أن تفوق التجارة مع دول الحزام والطريق 2.5 ترليون دولار في العام 2025.
وفي النهاية فإنه يجب ملاحظة أن الصين تمكنت في مسايرة الاقتصاد العالمي خلال العقود الماضية والاندماج فيه على أساس “الاعتماد المتبادل” مع اقتصادات العالم وليس “التبعية” لها التي وقعت بها الدول ذات الاقتصادات الضعيفة، وفي الوقت الذي دعت فيه الرأسمالية العالمية والعولمة إلى الانفتاح واعتماد آليات السوق في الاقتصاد حافظت الصين ما أمكن على سيطرة الدولة على الاقتصاد وأبقت مخدمات نمو الاقتصاد تحت سيطرتها، حيث دعمت مؤسسات القطاع الخاص بالأموال بغرض تقليل تكلفة منتجاتها لترفع من مدى منافستها في الأسواق العالمية مقابل البضائع المناظرة لها المنتجة في أوروبا وأمريكا واليابان.