بين غمضة عين وانتباهتها، أزيلت أحياء كاملة من فوق سطح الأرض، وفي وقت لا يساوي في حساب الزمن لحظات، عشرات المنازل هُدمت، آلاف الأشخاص وجدوا أنفسهم في معركة ضروس مع شلالات مياه متدفقة، صراع الموت والحياة في أقسى صوره، جثث ملقاة في الشوارع والطرقات، رائحة الدم تزكم الأنوف، مشاهد تحبس الأنفاس، السيول تجرف كل ما أمامها، حجر وبشر، كان هذا ملخص ما شهدته مدينة درنة شرق ليبيا والأحياء القريبة منها جراء الفيضانات التي اجتاحت عددًا من مدن البلاد بسبب الإعصار المتوسطي المسمى “دانيال” الذي ضرب البلاد فجر الأحد 10 سبتمبر/أيلول 2023.
يعد هذا الإعصار المدمر، الذي ضرب تركيا واليونان وانتقل باتجاه الجنوب ووصل إلى الشواطئ الشمالية الشرقية في ليبيا، ومتوقع أن يضرب المناطق الشمالية الغربية من مصر، هو الأقسى على ليبيا منذ 4 عقود كاملة، فكميات الأمطار التي تعرضت لها مدن الشرق لم تسجل منذ سنوات طويلة، لذا كانت النتائج كارثية.
العثور علي عائلة بالكامل متوفيه نسأل الله أن يكونوا من الشهداء 💔#درنة_المكتوبة pic.twitter.com/D2Zzdnlory
— هنـا_العاصمة (@aleasima_17) September 12, 2023
وفي حصيلة أولية للضحايا بلغ عدد القتلى 2800 شخص، أكثر من ألفين منهم في مدينة درنة وحدها، بحسب رئيس الحكومة الليبية المكلفة من البرلمان، أسامة حماد، الذي وصف الأوضاع في تلك المدينة الواقعة في أقصى شمال شرق ليبيا بأنها “كارثية وغير مسبوقة”، وسط توقعات بزيادة أعداد القتلى خلال الساعات القادمة في ظل بقاء الآلاف في عداد المفقودين.
درنة.. أوضاع كارثية
الأمور في درنة تجاوزت حاجز المعقول بخطوات كبيرة، وفق التقارير الإعلامية وشهود العيان، حيث نقل مراسل تليفزيون المسار الليبي أن الإعصار أطاح بعمارات تصل إلى أكثر من 12 طابقًا، وأخرى يتجاوز عدد وحداتها الـ50 وحدةً، كلها انجرفت بالكامل في عرض البحر.
وأضاف المراسل أن أحياءً بأكملها اختفت من على الخريطة منها: حي ذيل الوادي وحي المغار وعمارة الكواش وعمارة العوامي ومنطقة وسط البلاد، حتى حي الصحابة بالكامل لم يعد له وجود، كما اختفى شارع “وسّع بالك” الرئيسي في مدينة درنة، وما عاد له أي ملامح تذكر.
ووفق شاهد عيان فإن السد الصغير في درنة انفجر بعد ساعة واحدة فقط من بدء الإعصار، وفي غضون ساعة أخرى أو ساعتين على الأكثر كانت الأحياء المحيطة بجانبي السد يمينًا ويسارًا أزيلت بالكامل من على الخريطة، انقطع الاتصال وباتت المدينة بأسرها حبيسة فيضانات لا تتوقف.
شاهد عيان من #درنة يروي ما حدث باللحظات الأولى للكارثة : pic.twitter.com/Q9weOaz2Dh
— mohamed rofida (@mohamed_rofida) September 11, 2023
كما أطاح الإعصار بعائلات بأكملها، غرقوا جميعًا دون أن يتبقى منهم أحد، خاصة في الأحياء الملاصقة للسد والممتدة على شريط واديه، فيما تناقلت بعض مقاطع الفيديو على منصات التواصل الاجتماعي مشاهد لصراع بعض الضحايا مع الفيضانات وسط ذهول واحتباس أنفاس من الأهل والجيران ممن عجزوا عن تقديم يد العون والمساعدة للإنقاذ.
ومما فاقم الأزمة صعوبة وصول الإمدادات والمساعدات العاجلة، حتى من الأجهزة الأمنية والطبية التي وجدت صعوبات بالغة في الوصول بسبب ما خلفه الإعصار من تدمير لكل الطرقات والممرات، ومن نجح في العبور تعرض لتدفقات كبيرة من الانجرافات أدت إلى مقتل بعضهم بحسب شهود العيان.
ويقول وزير الداخلية في الحكومة المكلفة من مجلس النواب، عصام أبو زريبة، في تصريحات صحفية له: “تم العثور على أكثر من 1500 جثة من الضحايا، تحت الأنقاض في درنة”، هذا بخلاف تجاوز أعداد المفقودين 7 آلاف شخص، ما يعني أن عدد الضحايا مرشح للزيادة بين الساعة والأخرى.
https://twitter.com/Teemo95/status/1701393469879562331
ماذا حدث؟
تتميز مدينة درنة تحديدًا مقارنة ببقية شريط شمال شرق ليبيا، الممتد منها إلى سوسة ثم البيضاء وصولًا إلى المرج، البالغ طوله قرابة 80 كيلومترًا، بأن بها ما يسمى بالشق الصخري، أو ما يعرف بوادي درنة، وهو وادٍ عميق نسبيًا تمر منه المياه بكثافة بالغة لانخفاضه عن سطح الأرض.
ويقسم هذا الوادي – الذي يربط الشمال بالجنوب بطول يتراوح بين 50 – 70 كيلومترًا – مدينة درنة إلى قسمين، يفصل بين كل قسم سد مختلف، السد الأول يسمى بالسد الكبير وهو الذي يبعد 15 إلى 20 كيلومترًا عن وسط المدينة، أما السد الصغير المعروف باسم سد درنة فهو الأقرب إلى شاطئ المتوسط، ويبعد عنه 2 – 3 كيلومترات فقط.
اختفت معالمه تمامًا.. #إعصار_دانيال يخلف دمارًا هائلًا بشارع "وسّع بالك" الرئيسي في مدينة درنة الليبية #ليبيا pic.twitter.com/d8wmhro27y
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) September 11, 2023
ومع بداية إعصار دانيال وتدفق المياه من البحر المتوسط إلى وادي درنة، لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا للوصول إلى السد الصغير، الذي انفجر بعد أقل من ساعة على بداية الإعصار، وكان صوت دوي الانفجار كبيرًا بحسب شهود العيان، في ظل التدفق الكبير للمياه التي أغرقت وأطاحت بكل ما كان يقابلها، فأزاحت أحياءً كاملةً من الخريطة وأودت بحياة عائلات وأسر بأسرها.
ومما ساعد على تعاظم الكارثة واتساع نطاق تداعياتها المأساوية الحالة المذرية التي كان عليها السد وسوء التخطيط وغياب المرافق والاستعدادات لمثل تلك الكوارث، إذ كانت حكومة الشرق في المجمل تحت قيادة ميليشيات اللواء متقاعد خليفة حفتر مشغولة طيلة السنوات الماضية بالعمل العسكري ومحاولة توسيع النفوذ على حساب حكومة الغرب المعترف بها دوليًا دون أن تولي أي اهتمام بالبنية التحتية للأحياء والمناطق في محافظات الشرق رغم ما كانت تعاني منه من أوضاع متدنية وإمكانات ضعيفة، وهو ما حولها مع أول أزمة تتعرض لها إلى “مناطق منكوبة” كما أعلن رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة.
عاجل ⚠️( منقول )
مراسل تلفزيون المسار: إذا كانت هناك إحصائية تقريبية لعدد الوفيات بمدينة درنة يفوق 1000شهيد
عمارات تصل ل12طابق ولأكثر من 50شقة بالعمارة الواحدة انجرفت بالكامل في عرض البحر جراء السيول القوية حتى الآن
– حي ذيل الوادي – حي المغار -عمارة الكواش وعمارة العوامي -… pic.twitter.com/YSVEpmxR4F
— 🕊 أحلام مستغانمي (@AhlamMostghanmi) September 11, 2023
دعوات للتدخل والإنقاذ
تتميز مدينة درنة على وجه التحديد وأجوارها من المدن الملاصقة بالقيمة التاريخية الكبيرة، كونها تحتضن عشرات المعالم الأثرية التي تعود للعصر اليوناني والروماني والبيزنطي، حيث كانت المدينة في ذلك الوقت قبلة حركة التجارة، كما برز دورها خلال الحرب الأمريكية الليبية (حرب السنوات الأربعة 1801-1805م) في فترة حكم الأسرة القرمنلية، ويطلق عليها أحيانًا الحرب البربرية والحرب المنسية، حيث أُسرت السفينة فيلادلفيا الأمريكية في ميناء درنة.
ويترقب المهتمون بالتراث والآثار المشهد خشية تعرض تلك المعالم للاختفاء، لتفقد ليبيا أحد أبرز بقاعها التراثية الساحرة، ومن هنا أعلنت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة “إيسيسكو”، استعداها لترميم وصيانة المواقع الأثرية المتضررة.
المنظمة التي تتخذ من الرباط مقرًا لها أعلنت في بيان لها تضامنها الكامل مع ليبيا “في مواجهة هذه الكارثة الطبيعية المروعة”، كما قررت تأجيل حفل إطلاق احتفالية بنغازي عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي 2023، الذي كان مقررًا له في 16 سبتمبر/أيلول الحاليّ، حتى إشعار آخر، تضامنًا مع أسر الضحايا والمصابين والمفقودين.
هذه درنة في #ليبيا بعد مرور إعصار #دانيال مدينة كاملة دُمرت والسلطات تتحدث عن عشرات آلاف المفقودين.عدد القتلى قد يصل ل 10 آلاف.الكارثة كبيرة جدا تفوق ما وقع في #المغرب بعد #الزلزال وما زال العالم لم يتحرك بعد؟حرب وصراع على السلطة والأبرياء يدفعون الثمن
— karima Ziada كريمة زيادة (@karimaziada) September 12, 2023
الأوضاع الكارثية والقلق من تفاقمها دفع العديد من المسؤولين في ليبيا إلى المطالبة بتدخل دولي عاجل لإنقاذ الموقف، حيث طالب عضو المجلس البلدي لمدينة درنة أحمد أمدور، بسرعة تحرك المجتمع الدولي لإنقاذ سكان درنة، بينما أعلنت الأمم المتحدة تكليف فريق طوارئ لدعم السلطات المحلية هناك.
وفي السياق ذاته أعلنت عدد من الدول تقديم مساعدات عاجلة لليبيين في هذا المصاب، على رأسهم الإمارات وقطر والجزائر، فيما أعلنت إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد)، إرسال فريق إغاثي إلى المناطق المنكوبة في ليبيا، يشمل كتيبة نجدة مكونة من 150 عنصرًا وخيمًا ومستلزماتها وسيارتي إنقاذ و4 قوارب ومولدات كهرباء ومستلزمات أخرى.
يبدو أن المنطقة العربية – كما العالم – على موعد مع موجات غضب متلاطمة للبيئة التي تعرضت لانتهاكات غير مسبوقة خلال السنوات الماضية بفضل طموحات بعض القوى التي لا تراعي أي اعتبارات بيئية أو صحية، ليدفع العالم أجمع ثمن أطماع حفنة من الباحثين عن الثراء وتوسيع دائرة النفوذ.
فمن مراكش إلى درنة، يسقط آلاف الضحايا، بين قتيل ومصاب ومشرد، مع استمرار العداد دون توقف، وتوقع محطات جديدة لهذا القطار المنطلق (حرائق – جفاف – أعاصير – فيضانات) لتجد الشعوب العربية نفسها بين فكي رحى، فك الكوارث الطبيعية الناجمة عن التغيرات المناخية والعبث مع البيئة، وفك الفساد الذي يزيد من تفاقم تلك الكوارث التي تتحول بفضل هذا التردي إلى جراح من الصعب التئامها.