“وصلت شاطئ اليونان فانهرت من شدة البكاء، ليس فرحة بالوصول بل لنجاتي من الموت بأعجوبة لا تصدق”.. جاءت هذه الكلمات على لسان الشاب الغزي أيمن عبد الفتاح بعد نجاته من الهلاك.
دعوني أخبركم قصة أيمن (24 عامًا)، والذي خرج من غزة نحو طريق الهجرة غير النظامية عبر “قوارب الموت”، هروبًا من واقعه المأساوي للتحليق خارج مدينته المحاصرة، لكن لا يدرك أنه قد يكون نجى من موت إلى موت آخر.
“قوارب الموت”
يوم 5 يوليو/ تموز، اتفق أيمن برفقة 20 آخرين من المهاجرين الشباب مع أحد المهربين على تجهيز أنفسهم للرحلة البحرية، منطلقين من مدينة بودروم التركية إلى جزيرة كوس اليونانية، والتي يفصل بينهما مسافة قرابة الـ 4 كيلومترات، عبر ما يسمّى بـ”البلم” وهو قارب بحري صغير.
انطلقت الرحلة مساءً عندما حلَّ الظلام خفية عن عيون خفر السواحل، وبعد مرور 3 ساعات من الوقت قطعوا مسافة الـ 2 كيلومتر فقط، لكن تعطّل بهم القارب وأصبحوا جميعهم مهددين بالغرق، فقرروا العودة إلى السواحل التركية، لكن أيمن وأربعة من أصدقائه أصروا إكمال الطريق سباحة بمشقة كبيرة قطعت أنفاسهم وأنهكت أجسادهم، حتى وصلوا نقطة المياه الإقليمية، هنا بدأوا بنطق الشهادتَين، فالتيارات الهوائية البحرية كانت قوية جدًّا، لم يستطيعوا مقاومتها.
لكن قرر أيمن أن يشبك يدَيه بأيدي أصدقائه بقوة وظلوا متماسكين، يلفظون آخر أنفاسهم بين صراخ وخوف ومعاناة، ولحسن حظهم هدأت الأمواج قليلًا، وقذفهم بسرعة إلى الأمام فتفرّق كل منهم وبدأ يسبح بنفسه حتى اجتمعوا مرة أخرى، ليجدوا أنفسهم أمام السواحل اليونانية ناجين من الهلاك بمعجزة إلهية.
وبعد وصول الشباب إلى شواطئ اليونان، اتصلوا بالمهرب لإرسال موقع مخيم اللاجئين “الكامب” لهم، مكملين الجزء الثاني من رحلة العذاب، طالبين اللجوء باليونان.
أكثر من 2700 فلسطيني وصلوا إلى اليونان عن طريق البحر عام 2022
عادة ما يتخذ الغزيون من تركيا نقطة انطلاق لهم لشقّ طريقة الهجرة غير النظامية، متوجهين إلى اليونان ثم الانطلاق نحو باقي دول الاتحاد الأوروبي، إما بحرًا عبر قوار الموت وإما برًّا بين الغابات والحيوانات المفترسة، وفي هذه الحالة قد يتعرضون إما للقتل من قبل المافيات وإما للافتراس من قبل الحيوانات.
ويبحث الشباب الغزي عن أي مخرج، فهم يعيشون على حافة الهاوية بين الحصار والبطالة وتكرار الحروب والمناكفات السياسية، حيث شهدت الأيام الماضية محركًا ملحوظًا في قوافل الهجرة الجماعية الشبابية من قطاع غزة، فلم يقتصر الأمر على شاب واحد من أفراد الأسرة بل أبناء العم والأصدقاء وعوائل بأكملها، وهذا ما يفرض تساؤلًا: هل سيصبح القطاع الغزي عجوزًا مستقبلًا بعد هروب شبابه؟
أكثر من 378 شخصًا لقوا مصرعهم أو فُقدوا أثناء محاولتهم الهجرة من غزة منذ 2014
أظهرت نتائج إحصائيات صادرة عن الأمم المتحدة أن أكثر من 2700 فلسطيني وصلوا إلى اليونان عن طريق البحر عام 2022، فيما يشكل 22% من إجمالي عدد الوافدين بالقوارب، وهو أعلى معدل في أي مجموعة وطنية، فيما أشارت بيانات الاتحاد الأوروبي إلى تزايد أعداد طلبات اللجوء الفلسطينية باليونان، والتي تشكّل لديهم نقطة انطلاق إلى باقي دول أوروبا.
لكن بحسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، لا يصل كل من يقوم بالهجرة غير النظامية إلى جزر اليونان بسلام، فهناك أكثر من 378 شخصًا لقوا مصرعهم أو فُقدوا أثناء محاولتهم الهجرة من غزة منذ عام 2014، فيما 3 حتى الآن في عام 2023.
لا أمان ولا عمل بغزة
الشاب العشريني وائل حسين يقول إنه تخرج من تخصص تربية رياضيات منذ 5 أعوام، ولم يحصل حتى الآن على أي فرصة عمل، قدّم على فيزا تركية كمحطة للانطلاق ليشقّ بعدها هجرته غير النظامية إلى دول أوروبا تحديدًا بلجيكا، إسوة بأشقائه الثلاثة الذين سبقوه تاركين والدَيهم فقط بالمنزل.
يدرك الشاب حجم المخاطر التي تنتظره، لكنه يشير إلى أن الظروف المعيشية الصعبة وحالة الفقر والعوز والحروب وعدم الأمان والانقسام الفلسطيني الذي يدفع ثمنه الشباب، دفعه للتفكير بجدية في هذه الخطوة، فلا أمل قادم يستند عليه.
نصف مليون شخص غادروا قطاع غزة بلا عودة منذ عام 2000
يتابع: “لم يعد باستطاعتي انتظار المزيد، عمري يتقدم دون فائدة، لذا أخذت قراري بالرحيل، استدنت قرابة 3 آلاف دولار مبدئيًّا، لدفع ثمن التأشيرة ورحلة التهريب وباقي الإجراءات”.
ووفقًا لأحدث إحصاءات صادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا”، بلغ عدد الأشخاص الذين غادروا قطاع غزة بلا عودة منذ عام 2000 قرابة الـ 500 ألف شخص، ما يعادل 15% من إجمالي عدد السكان، فيما شهدت الأعوام الأخيرة ارتفاعًا في أعداد الشباب المهاجرين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و30 عامًا، وغادر قرابة 100 ألف شخص، 67% منهم بلا عودة.
وثيقة إسرائيلية لتفريغ غزة
بالطبع لا يخفى على أحد أن وضع قطاع غزة الذي يقع تحت قبضة الاحتلال الإسرائيلي برًّا وبحرًا وجوًّا، له دور كبير في الضغط على السكان لتفريغهم إلى الخارج، وتحويل غزة إلى مدينة تفتقد أدنى مقومات الحياة، عبر الحصار المفروض منذ أكثر من 17 عامًا.
فوفق ما تداولته وسائل إعلام، نقلًا عن هيئة البث الإسرائيلية سابقًا حصولها على وثيقة تقول: “إن حكومة الاحتلال برئاسة بنيامين نتنياهو قدمت اقتراحًا عام 2018 لعدة دول في أوروبا، لاستقبال آلاف المهاجرين الغزيين”.
وجاء في الوثيقة أن حكومة الاحتلال ستتكفّل بتمويل مشاريع للهجرة برحلات جوية من المطارات الإسرائيلية، بشرط أن يتعهّد من يرغب بالهجرة بعدم العودة إلى القطاع مرة أخرى، لكن هذا الاقتراح لم ينفَّذ وربما هذا ما دفع “إسرائيل” للبحث عن سبل أخرى لكن تحمل الهدف نفسه.
خطط وحملات وطنية
بدورهم طالب حقوقيون وباحثون بضرورة وضع خطط حقيقية متكاملة لمواجهة تداعيات الهجرة الخطيرة على قطاع غزة، وإطلاق حملة وطنية تستهدف التوعية بمخاطر الهجرة غير النظامية، وتعزيز ارتباط الشباب بأرضهم ومجتمعهم.
وأوضح الباحث والحقوقي عماد أبو رحمة، خلال جلسة لمناقشة ورقة سياسية أعدّها بعنوان “هجرة الشباب والكفاءات من قطاع غزة: التحديات والحلول”، أن عجز السياسات والبرامج الحكومية المتّبعة في عدم استيعاب الشباب وإدماجهم في عملية التنمية، وانسداد مجالات المشاركة السياسية والمجتمعية وانحسار الفرص الاقتصادية المتاحة أمامهم، وقمع أية تحركات شبابية تستهدف التغيير، زاد من مستويات تهميشهم الاجتماعي والسياسي، ودفع نسبة كبيرة منهم للتفكير بالهجرة، والمخاطرة بحياتهم من خلال وسائل الهجرة غير النظامية، والتي تسمّى بـ”قوارب الموت”.
إن أهم خطوة لكبح قوافل الهجرة الشبابية هو تطوير المشاريع التنموية لتحسين الظروف المعيشية للشباب، وتوفير فرص عمل وتعليم وأمان واستقرار، يقول أبو رحمة.