تتوالى تقارير المنظمات التي تُعني بحقوق الإنسان تقريرًا بعد تقرير، وترتفع الأصوات كاشفة الانتهاكات التي تُرتكب بحق الإنسان العراقي، ولا مجيب، وكأن هذه التقارير تخاطب من ذي صمم، ولسان حال المجرمين يقول: يا إيها النائحون، ولولوا كالثكالى، فلن تضرنا تلك التقارير، ولن نلقي لها بالاً، وسوف نفعل ما يحلو لنا، فاليوم الحق مع القوي، ولا حق لمن لا قوة له.
بعد كل التحذيرات التي أطلقها أصحاب الرأي والمنظمات الحقوقية والأطراف السياسية التي خَبِرَتْ ما تقوم به حكومة بغداد ومليشياتها، من دخول قوات غير نظامية ومؤدلجة بعقيدة طائفية تعتقد أنها تتقرب إلى الله بقتل من يخالفها بالعقيدة والتوجه المذهبي، أصرت حكومة بغداد وبدفعٍ من إيران، على إشراك مليشيات الحشد الشعبي لترتكب الفظائع بحق أهل السنة الساكنين بمدينة الموصل، هؤلاء الذين ذاقوا من ويلات تنظيم داعش طيلة أكثر من سنتين الشيء الكثير، وجاءت مليشيا الحشد الشيعي لتُكمل جريمة داعش بحق الإنسان والحجر في هذه المدينة المنكوبة.
جاءت اليوم لمى فقيه نائبة مدير قسم الشرق الأوسط في منظمة هيومن رايتس ووتش، لتفضح جرائم جديدة ارتكبتها قوات الحشد والقوات النظامية في الموصل، حيث تقول: “قوات تقاتل ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من أجل استرجاع بلدة و4 قرى قرب الموصل، قد نهبت منازل وألحقت أضرارًا بها أو دمرتها، ووقعت أعمال الهدم تلك بين نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 وفبراير/ شباط 2017، دون أي ضرورة عسكرية ظاهرة، وهو ما يرقى لمصاف جرائم الحرب”، وأضافت لمى فقيه: “في غياب أي هدف عسكري مشروع، لا يوجد مبرر لتدمير منازل المدنيين، وكلّ ما يتسبب فيه هذا التدمير هو منع المدنيين من العودة إلى ديارهم”.
يذكر أن تقارير كثيرة صدرت بنفس هذا المعنى، ومن نفس المنظمة ومنظمة أمنستي “منظمة العفو الدولية” وثقت جرائم مختلفة لتلك القوات وفي مناطق متفرقة من العراق، وارتكبت لنفس الحجة، حجة مقاتلة تنظيم داعش، والتي عدتها تلك المنظمات جرائم وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وفقًا للاتفاقات والمعايير الدولية، بل إنها تصل إلى الحد الذي يمكن اعتباره جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
وثَّقت هيومن رايتس ووتش أعمال نهب وهدم واسعة للبنايات باستخدام متفجرات ومعدات ثقيلة، وكذلك استخدام الإحراق في 3 قرى، وفي الوقت نفسه تم تأكيد شهادات الشهود عن أعمال الهدم التي حصلت بين أواخر ديسمبر/ كانون الأول ومطلع فبراير/ شباط، بصور للقمر الصناعي التي أظهرت تدمير ما لا يقل عن 345 بناية، بينها المسجد الرئيسي في قرية “أشوا”
ووثَّقت هيومن رايتس ووتش أعمال نهب وهدم واسعة للبنايات باستخدام متفجرات ومعدات ثقيلة، وكذلك استخدام الإحراق في 3 قرى، وفي الوقت نفسه تم تأكيد شهادات الشهود عن أعمال الهدم التي حصلت بين أواخر ديسمبر/ كانون الأول ومطلع فبراير/ شباط، بصور للقمر الصناعي التي أظهرت تدمير ما لا يقل عن 345 بناية، بينها المسجد الرئيسي في قرية “أشوا”، وأظهرت تلك الصور أيضًا والتي اطلعت عليها هيومن رايتس ووتش، أن البيوت دُمرت باستخدام المتفجرات والآلات والمعدات الثقيلة والإحراق.
وكل ذلك تم فعله، بعد استرداد الحشد الشعبي تلك القرى من قوات تنظيم الدولة الإسلامية، مما يثبت أنها لم تتهدم جراء عمليات عسكرية، ولم تجد هيومن رايتس ووتش أي أدلة تدعم مزاعم الحشد، بأن الهدم وقع لأسباب عسكرية مشروعة، كما أن إحراق المنازل أو هدمها أو تسويتها بالأرض بالجرافات، هو إجراء غير مناسب بالمرة للتطهير من الألغام كما ادعت القوات المهاجمة بأن فعلها ذلك كان للتخلص من المنازل المفخخة.
ورغم أن المنظمة فضحت ادعاءات مليشيا الحشد والقوات الحكومية حينما كشفت أن جميع البنايات التي أُحرقت تقريبًا ما زالت جدرانها الداخلية والخارجية متماسكة، ولم تفقد سوى سقفها، وهو ما لا يستقيم مع ما يحدث عند انفجار أجهزة متفجرة مرتجلة، وإنما تتم من خلال متفجرات تمتلكها القوات الحكومية والميلشيات حصرًا، فإن الحشد لم يقدم أي تفسيرات لهذه الأعمال.
وختمت لمى بيانها بتوجيه كلامها إلى رئيس الوزراء العابدي قائلةً: “قد تربح الحكومة العراقية معركتها ضد داعش، لكن عليها أيضًا أن تربح السلام، الذي سيكون صعب المنال إذا انتهكت القوات الحكومية والحشد في المناطق الخاضعة لسيطرتها، القوانين الدولية، ونهبت منازل القرويين ودمرتها”.
نعم إنَّ القضاء على داعش ليس آخر المشاكل التي تواجه الحكومة العراقية، ذلك لأن الذي أظهَرَ داعش للوجود هي الممارسات الطائفية للحكومة ومليشياتها، ومع إصرار تلك الحكومة على القيام بنفس الفعل، فإن إمكانية ظهور تنظيم مشابه لداعش ممكنة جدًا بالمستقبل، وسوف تعود دوامة العنف الدائرة رحاها طيلة الثلاث عشرة سنة الماضية مرة أخرى.
من الواضح أن الدافع لكل تلك الأعمال التي تقوم بها القوات الحكومية ومليشياتها، تحقيق أجندة تقضي بمحاولة التغير الديمغرافي على هذه المدينة من خلال تهجير أهلها، وقتل آخر فرصة لهم بالرجوع لمدينتهم
وإمعانًا في محاولتها لتمزيق النسيج الاجتماعي لمدينة الموصل فإنها تحاول إقحام مرتزقة يحسبون أنفسهم على المكون المسيحي، والمسيحيون منهم براء، وجعلوهم يرتكبون انتهاكات بحق المكونات الأخرى، وإصدار تصريحات طائفية على لسان زعيم مليشيا “بابليون” المدعو ريان الكلداني، رغم أن الأقلية المسيحية المسالمة في الموصل، لم يُعرف أن لديها مشاكل مع أي مكون آخر، بل هي محاولات لزرع نار الفرقة بين هذه الأقلية وباقي المكونات الاجتماعية لمدينة الموصل، وهم بالتالي يغامرون برفض تلك الأقلية من قبل أبناء المدينة مستقبلًا.
وإمعانًا بالجرائم بحق أهالي هذه المدينة المنكوبة فإن القوات الحكومية تُطبق حصارًا ظالمًا على الجانب الأيسر من المدينة، للدرجة التي أكد فيها المرصد العراقي لحقوق الإنسان وفاة 25 طفلاً في الجانب الأيمن من الموصل خلال الأربعة أشهر الأخيرة، وترتكب القوات المهاجمة جريمة تجويع أكثر من 800 ألف مدني فيها، بسبب منع دخول المواد الإغاثية والطبية إليها.
إن المواقف الدولية الخجولة والتي اكتفت بالإعراب عن قلقها من الحالة الإنسانية المتردية التي يعيشها أهالي الموصل، ذلك القلق الذي شبع أهلنا من سماعه من الناطقين باسم الأمم المتحدة وباقي الدول الكبرى، ولم نر منهم شيئًا على الأرض لمعالجة هذه الفاجعة الإنسانية الكبيرة.
حمَّلت لمى فقيه ونيابة عن منظمة هيومن رايتس ووتش، الولايات المتحدة والدول الأخرى التي تقدم مساعدات عسكرية لقوات الأمن العراقية مسؤولية تلك الجرائم، وطلبت منها الضغط على الحكومة لإجراء تحقيقات بتلك الانتهاكات الجسيمة
لقد حمَّلت لمى فقيه ونيابة عن منظمة هيومن رايتس ووتش، الولايات المتحدة والدول الأخرى التي تقدم مساعدات عسكرية لقوات الأمن العراقية مسؤولية تلك الجرائم، وطلبت منها الضغط على الحكومة لإجراء تحقيقات بتلك الانتهاكات الجسيمة، وتمنَّت من “مجلس حقوق الإنسان” توسيع نطاق آلية التحقيق التي أنشئت في 2014 لتشمل أيضًا الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها الأطراف كافة، ومنها “قوات الحشد الشعبي”، التي أُنشئت أساسًا لمحاربة داعش، وتخضع لقيادة رئيس الوزراء العبادي بشكل مباشر.
إلا أننا ومع الأسف متأكدون أن تلك النداءات بفتح التحقيقات وتحميل المسؤولية للدول الكبرى التي تشارك بالقتال تحت غطاء التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، لن تلقي آذانًا صاغية منهم، والسبب أن تلك الدول نفسها ضالعة بحماية القوات التي ترتكب تلك الانتهاكات، وتوفر لها الدعم اللوجستي والغطاء الجوي، فأي إدانة لتلك القوات، يعني أنها تدين نفسها أولًا، لوقوفها بصف واحد معها.