تعد صناعة الدواء من الصناعات المستدامة لأنها مرتبطة بحياة الإنسان وغير قابلة للكساد ولكنها في نفس الوقت من الصناعات المرتفعة التكلفة نظرًا للمواصفات الخاصة التي تتطلبها وارتفاع تكلفة التقنية المستخدمة في صناعة الدواء، فضلاً عن احتكار عدد محدود من الشركات العالمية الكبرى لهذه التقنية والشروط التي تفرضها على الدول والشركات التي ترغب في صناعتها، بالإضافة إلى ارتفاع كلفة المواد الخام ومراقبة الجودة، والحاجة إلى مراكز للبحث العلمي لتمكين الشركات من الابتكار المتواصل والمنافسة أمام الشركات العالمية.
فكان على المنطقة العربية تجاوز كل هذه التحديات للصعود بصناعة الدواء العربية وتحقيق الأمن الدوائي لمواطنيها.
صناعة الدواء في الخليج العربي
تولي دول مجلس التعاون الخليجي الرعاية الصحية اهتمامًا بالغًا لتطوير الخدمات الصحية لسكانها ويظهر ذلك من خلال حجم ما تقدمه الميزانية للقطاع الصحي حيث بلغت نحو 21.5 مليار دولار في العام 2011 وبلغت فاتورة قطاع التأمين الصحي في دول المجلس في العام 2010 أكثر من 13 مليار دولار.
كما حفزت الحكومات القطاع الخاص على الاستثمار في الصناعات الدوائية من خلال تقديم القروض والإعفاءات والحوافز وبادرت بإقامة شركات بالمشاركة مع القطاع الخاص للصناعات الدوائية والمستلزمات الطبية، إذ لا تزال دول الخليج تستورد احتياجاتها من الأدوية بنسبة كبيرة تقارب الـ95% مقارنة مع ما تنتجه محليًا، لذا تتوفر فرص كبيرة للمستثمرين لتغطية هذا النقص الهائل في الطلب.
وارتفعت عدد مصانع الأدوية في دول مجلس التعاون من 18 مصنعًا في العام 1995 باستثمارات قدرها 174.4 مليون دولار إلى 55 مصنعًا في عام 2004 باستثمارات بلغت 793.1 مليون دولار، وحافظت السعودية على صدارة دول المجلس في عدد المصانع، بواقع 27 مصنعًا، وعدد المصانع في الإمارات وصل لـ16 مصنعًا، حيث ارتفع من 14 مصنعًا عام 2014 إلى 16 في 2015 يعمل لإنتاج أكثر من 1000 صنف دوائي مبتكر ومثيل.
ولا تزال السعودية تمثل الوزن الأكبر بين دول المجلس في صناعات الدواء، ففي دارسة أشارت أن الصناعات الدوائية السعودية تمثل 80% من إجمالي السوق الخليجية وتتخطى حاجز الـ13 مليار ريال سنويًا كما أنها تحقق نموًا سنويًا بلغ 12%، وتظهر الدارسة أن المصانع السعودية تغطي 20% فقط من حاجة السوق المحلية الدوائية ويذهب الباقي للتصدير.
بلغت قيمة سوق الأدوية في دول مجلس التعاون الخليجي 10.1 مليار دولار في عام 2014
وبلغت قيمة سوق الأدوية في دول مجلس التعاون الخليجي 10.1 مليار دولار في عام 2014، وتأتي السعودية على رأس دول المجلس بحجم سوق أدوية يبلغ 6.3 مليارات دولار، وتحتل الإمارات المرتبة الثانية حيث قدرت قيمة السوق الدوائية بـ2.4 مليار دولار ومن المتوقع أن تصل إلى 3.7 مليار دولار بحلول عام 2020، وجاءت الكويت في المرتبة الثالثة، كما تصل قيمة الأدوية المستوردة في دول الخليج العربية إلى نحو 9.5 مليارات دولار سنويًا، بنسبة تصل إلى 90% من حجم الاستهلاك المحلي.
ورغم حجم هذه الأرقام يؤكد خبراء أن صناعة الدواء في السعودية خصوصًا والخليج عمومًا بحاجة إلى مزيد من الاستثمارات في هذه الصناعة الواعدة، فالسعودية مثلاً استوردت في العام 2014 نحو 96.28 ألف طن من الأدوية بلغت قيمتها نحو 20.6 مليار ريال في حين أنها صدرت 54.2 ألف طن من الأدوية المصنعة محليًا بلغت قيمتها 2.21 مليار ريال في نفس العام.
أي أن السعودية صدرت ما نسبته 56% مقارنة بما استوردته، وبالنظر إلى ميزان المدفوعات في هذا الجانب فسيظهر بأنه خاسر، حيث اشترت السعودية ما قيمته 20.6 مليار ريال من الأدوية بينما باعت للعالم ما قيمته 2.21 مليار ريال أي 10% من قيمة ما اشترته وهذا يشير إلى أن صناعة الأدوية في السعودية لا تزال ضعيفة وبعيدة عن المنافسة، وتحتاج لمزيد من الاهتمام كي يتم إغلاق ميزان المدفوعات من جانب صناعة الأدوية.
ومن المعوقات التي تواجه مصانع الأدوية الخليجية اعتمادها على المواد الخام المستوردة، كما تشكل اتفاقية “تريبس” الخاصة بحماية حقوق الملكية، تحديًا أمام صناعة الدول الخليجية حيث وضعت الاتفاقية قيودًا على التصنيع بنظام الاتفاقيات لمدة تتراوح بين 5 إلى 10 سنوات، كما لا يغيب أن صناعة الدواء تعد من الاستثمارات الطويلة الأجل وهي بطيئة العائد وتحتاج إلى عمالة فنية ماهرة متخصصة وإلى مراكز بحوث لتطوير الأدوية بشكل مستمر.
تنتج الدول العربية ما قيمته 11 مليار دولار من الأدوية سنويًا أي ما قيمته 3% من سوق الأدوية العالمي
وطول الأعوام الفائتة اتخذت الحكومات الخليجية جملة من الإجراءات لتطوير هذا القطاع المهم من بينها شراء الأدوية الأساسية بشكل موحد الأمر الذي ساهم في تخفيض ميزانية الشراء، كما أدت سياسة توحيد أسعار الأدوية المطبق في دول مجلس التعاون عام 2015 إلى هبوط ملحوظ في فاتورة الدواء لدى المواطن والمقيم في دول المجلس بفضل عدم وجود أسعار متفاوتة للأدوية، وترشيد الخدمات الصحية وإدخال نظام التأمين الصحي وأخيرًا تشجيع القطاع الخاص للاستثمار في الخدمات الطبية، وقد لجأت دول المجلس لإجراء جديد يقوم على تخزين أصناف معينة من الأدوية كـ”مخزون استراتيجي”.
مخزون استراتيجي للأدوية
حرصًا منها على فاعلية جهاز الرعاية الصحية للمواطنين والمقيمين على أرضها سعت دول مجلس التعاون الخليجي لاتخاذ إجراءات احترازية لمواجهة الظروف الطارئة في مجال الرعاية الصحية وتحقيق الأمن الدوائي ودرء آثار الأوبئة والكوارث لحماية صحة المواطنين والمقيمين بها من خلال مخزون استراتيجي للأدوية والمستلزمات الطبية باعتماد 530 منتجًا طبيًا.
حيث وضعت دليلًا للمخزون الاستراتيجي للأدوية لتكون خريطة طريق لها لاستكمال جهودها التنسيقية في مجال التعامل مع الحالات والأزمات الطارئة فيما يتعلق بالمستحضرات الصيدلانية والأمصال واللقاحات والمستلزمات الطبية.
وقد حدد المجلس مخزون كل مادة من المواد المخصصة في المخزون حسب التغير في متوسط معدلات الاستهلاك بالمؤسسات الصحية بوزارة الصحة خلال الثلاث سنوات الماضية بناء على الأهمية العلاجية الحيوية والضرورية حسب التصنيف العالمي وفترة الصلاحية الإجمالية للمنتج التي تتمثل في الفترة المستهدفة لمخزون ما لمدة أربعة إلى ستة أشهر للمواد ذات الصلاحية من 3 إلى 5 سنوات، أو مخزون لمدة 3 أشهر للمواد ذات الصلاحية من 2 و 3 سنوات أو أقل أو مخزون لمدة شهرين للمواد ذات الصلاحية من سنة ونصف وأقل من سنتين.
تصل قيمة الأدوية المستوردة في دول الخليج العربية إلى نحو 9.5 مليارات دولار سنويًا، بنسبة تصل إلى 90% من حجم الاستهلاك المحلي
ومن المفترض أن يكون هناك مراجعة دورية لحركة الاستهلاك بالمؤسسات الصحية واقتراح زيادة أو تخفيض المخزون الاستراتيجي حسب التغيير في نمط الاستهلاك والبروتوكولات العلاجية المعتمدة، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتدوير المخزون ومتابعة إرجاع الكميات المصروفة طبقًا للآلية المعتمدة، وسيكون هناك مستودعًا منفصلاً للمخزون الاستراتيجي بكل دولة منفصل عن المستودعات المركزية أو الإقليمية للإمدادات الطبية بوزارة الصحة لكل دولة.
كما سيتم مراقبة التغييرات التي تطرأ على بعض المستحضرات تمهيدًا لسحب الأصناف غير الصالحة للاستهلاك طبقًا للإجراءات المتبعة وتحديث صلاحيات المخزون الاستراتيجي المتوفر بمخزون جديد بتاريخ صلاحية أطول، وإضافة أنواع أدوية جديدة والمواد الطبية الضرورية التي يتم اعتمادها من قبل اللجان الفنية المتخصصة وحذف الأنواع الملغاة أو التي يقل استهلاكها أو يتم إيقاف استعمالها من وزارة أي من دول المجلس.
الرعاية الصحية في العالم العربي
درجت الدول العربية على استيراد حاجتها من الدواء من الخارج إلا أن بعض الدول العربية استفادت من تصنيع الأدوية التي تم إسقاط حقوق براءات الاختراع عنها ومع ذلك لا يزال حجم إنتاج الدول العربية ضعيفًا جدًا مقارنة مع الدول الأخرى، حيث تشير البيانات الواردة في هذا الشأن أن الدول العربية تنتج ما قيمته 11 مليار دولار من الأدوية سنويًا أي ما قيمته 3% من سوق الأدوية العالمي فقط، كما تعاني البيئة الطبية العربية من نقص حاد في عدد المصانع التي لا يتجاوز عددها في العالم العربي برمته 315 مصنعًا.
ويعتبر استهلاك العالم العربي للأدوية محدود للغاية ويقارب ما تستهلكه تركيا فقط، وتبلغ فاتورة الإنفاق على الرعاية الصحية في العالم العربي ما يعادل 125 مليار دولار، كما أن المواطن العربي ينفق نحو 40 دولارًا سنويًا على الدواء مقابل 600 دولار للفرد الأوروبي و800 دولار للفرد الأمريكي.
لا تزال صناعة الأدوية في العالم العربي لا ترقى لمستوى الصناعة الأجنبية، إذ تعاني من مشاكل كثيرة أهمها افتقار الوطن العربي لمراكز الأبحاث والتطوير التي من خلالها يتم تصنيع المادة الدوائية الخام واكتشاف أمصال جديدة للأمراض، والاعتماد على الأدوية الأجنبية وعدم تشجيع مصانع الأدوية الوطنية بالشكل المناسب الذي يجعلها تنافس الدواء الأجنبي وتتكامل مع مصانع عربية أخرى، فضلاً عن موجة الاحتكار والاستحواذ من مصانع الأدوية الأجنبية للمصانع العربية بهدف توسيع أسواق تصريفها في المنطقة العربية.