ترجمة وتحرير نون بوست
شهدت الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الانتخابات عملية مكثفة لحشد الأصوات واستقطاب المؤيدين. وفي الواقع، لا تزال واشنطن تعيش على وقع هذه التجاذبات السياسية، فبعد مرور أربعة أسابيع فقط على تولي إدارة ترامب لزمام الأمور في البيت الأبيض، أصبحت البيروقراطية الفدرالية تحت رحمة التناقضات السياسية بين مختلف الأطراف. فقد سرت موجة من الاستياء في صفوف العديد من المسؤولين الفدراليين، الذين تعالت أصواتهم المعارضة لسياسة الرئيس الجديد؛ فموظفو وكالة حماية البيئة أخذوا يضغطون على نوابهم في مجلس الشيوخ بهدف معارضة سكوت بروت، مرشح ترامب لإدارة الوكالة.
علاوة على ذلك، وقّع قرابة ألف دبلوماسي في وزارة الخارجية وثيقة رسمية لمعارضة مشروع ترامب حول حظر السفر. خلال الفترة المنقضية، سرب بعض الموظفين الحاليين والسابقين في البيت الأبيض، بشكل مبهم، تسجيلات تثبت وجود اتصالات بين مايكل فلين وسفير روسيا في الولايات المتحدة. وفي الأثناء، أجبرت هذه التسريبات ترامب على التخلي عن فلين حليفه القديم ومستشار الأمن القومي، وقد حدث ذلك بعد 24 يوما فقط من توليه المنصب.
هذا النمط من المعارضة ونجاحاتها الأخيرة، أدى إلى رواج نظرية الدولة العميقة، التي عادة ما تعتمد لتحليل نظام حكم الأنظمة الاستبدادية، التي تتسم بوجود شبكة من الأشخاص في صميم البيروقراطية، يقال إنه بإمكانهم تطبيق رغباتهم الخفية ومصالحهم الشخصية، مهما كان الثمن.
طغى التوتر وعدم الاستقرار على الأوضاع في الولايات المتحدة، التي لن تعرف الهدوء في الفترة القادمة. وفي الأثناء، يبدو أن الرئيس الجديد لا يثق إلا في دائرة صغيرة محيطة به من المستشارين
في ثقافة “البوب” الأمريكية، أبرز تجل لعبارة الدولة العميقة يكمن في “دار أدال”، زعيم الجواسيس الذي لا يرحم. وقد قام بهذا الدور موراي أبراهام في السلسلة التلفزيونية “أرض الوطن”. وتعتبر هذه الشخصية غير مألوفة لدى المشاهد الأمريكي، نظرا لأن المنتج قد أعطاها اسما شبيها بتلك التي توجد في منطقة الشرق الأوسط.
توظف الحكومة الفدرالية أكثر من مليوني شخص، يتسمون باختلاف تواجهاتهم. ففي الوقت الذي قد يعارض فيه الكثير من الموظفين سياسة البيت الأبيض، نجح البعض الآخر (وكالات حرس الحدود والهجرة، الذين لطالما استشهد ترامب بدعمهم له خلال حملته الانتخابية) في التمتع ببعض الحريات، بشكل ينذر بالخطر، وذلك بهدف دعم سياسة ترامب.
خلال عطلة نهاية الأسبوع، التي دخل فيها مشروع حظر السفر حيز التنفيذ، منع وكلاء الجمارك وحماية الحدود في المطارات العائلات والمحامين، وحتى أعضاء من الكونغرس، من التواصل مع الأشخاص الذين اعتقلوا، وذلك بأمر من السلطات. فضلا عن ذلك، مَارس هؤلاء الوكلاء سياسة الكتمان حول هوية معتقليهم.
وفي الأثناء، وعلى حدود فيرمونت أعيدت مواطنة كندية من رحلة تسوق، بعد أن صادر موظف هاتفها الذي وجد فيه دعاء باللغة العربية. وكانت من بين الكثيرين الذين كان من المفترض أن يسمح لهم بتجاوز الحدود، والذين سئلوا عن مشاعرهم تجاه دونالد ترامب.
والجدير بالذكر أن هذه الأحداث قد تواصلت حتى في أعقاب القرار الصادر عن القضاء الفدرالي الذي يحضر على الحكومة العمل بهذا المرسوم. فعلى سبيل المثال، نشر محامي المهاجرين في أتلانتا تقريرا، ذكر فيه أن وكلاء الجمارك طرقوا أبواب السكان ذوي الأصول اللاتينية، طالبين منهم الاستظهار بوثائقهم.
وفي السياق نفسه، قام الوكلاء في لوس أنجلوس بالتوجه إلى “محكمة الهجرة” والتدقيق مع أقارب المواطنين الذين قدموا عريضة ضد السياسة المتبعة في حقهم، حول وضعهم الخاص. أما في الإسكندرية بولاية فرجينيا، فقد قام الوكلاء، في وقت مبكر يوم الأربعاء، بإجراء فحص للسكان اللاتينيين القاطنين بمأوى خاص تابع للكنيسة، والتدقيق في بصماتهم وهم مصطفون تحت حائط من الطوب، للتأكد ما إذا كان لهم تاريخ إجرامي.
ومن جهة أخرى، اعتقل وكلاء الجمارك امرأة في إلباسو، في قاعة المحكمة التي قصدتها بحثا عن الحماية إثر تعرضها للعنف المنزلي. وفي الوقت ذاته، صرح محامو المهاجرين الشرعيين المعتقلين في سياتل، أن أحد موظفي شرطة الحدود قد غير استمارة أحد المعتقلين، الذي نفى عضويته في عصابة إجرامية، جاعلا من نفيه اعترافا.
في الحقيقة، إن كان معارضو ترامب قد اتخذوا موقف الهجوم، فكذلك فعل أنصاره
في الوقت الراهن، يطغى التوتر وعدم الاستقرار على الأوضاع في الولايات المتحدة، التي لن تعرف الهدوء في الفترة القادمة. وفي الأثناء، يبدو أن الرئيس الجديد لا يثق إلا في دائرة صغيرة محيطة به من المستشارين. ولعل أبرز شاهد على ذلك، التقرير الذي نشرته قناة “سي بي إس” في أعقاب زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو للبيت الأبيض خلال هذا الأسبوع، الذي أوردت فيه “لم يشارك أي مسؤول من وزارة الخارجية في ذلك الاجتماع، ولا حتى وزير الخارجية راكس تيلرسون أو أحد نوابه. فقد قاد مناقشات السلام في الشرق الأوسط زوج ابنته جاريد كوشنر”.
ومن جانب آخر، أفادت جملة من التقارير أن الأدميرال السابق، روبرت هاروارد، الذي اختاره ترامب بادئ الأمر ليحل مكان، مايكل فلين مستشارا للأمن القومي، قد رفض المنصب لأنه يعتبره “شطيرة سيئة”، نظرا لأن تأثيره سيخضع من الأعلى لوساطة كبير استراتيجي الرئيس الأمريكي، ستيف بانون، ومن الأسفل لوساطة نائبة مستشار الأمن القومي والوفية جدا لترامب، ماكفارلاند.
تشير الحقائق الحالية حول إدارة ترامب إلى أن الوضع يعد أكثر ارتباكا وغرابة
عموما، تصارع الحكومات الفتية حتى تتمكن من إدراج أيديولوجيات جديدة في صلب الوكالات الفدرالية، إلا أن مخطط ترامب يتجاوز بكثير الحكومات الفدرالية. وقد يترتب عن ذلك، على المدى البعيد، تتالي الاستقالات، واستنزاف البيروقراطية، العاجزة حتى الآن عن الإمساك بمفاصل الدولة. أما على المدى القريب، فالمثير للقلق هو الانهيار السريع للسلطة.
ومن اللافت للنظر أن شخصية “دار أدال”، كانت تتوهم أن البيروقراطية من شأنها أن تتحول إلى أداة للتنسيق وتحقيق مآربها وطموحاتها. ومن هذا المنطلق، تشير الحقائق الحالية حول إدارة ترامب إلى أن الوضع يعد أكثر ارتباكا وغرابة، إذ أن الرئيس الجديد قد شجع كل الأطراف في الإدارة الجديدة على العمل كل من وجهة نظره الخاصة.
المصدر: نيويوركر