يبحث المواطن في جنوب السودان عن أبسط حقوقه في الحياة، وهي العيش الكريم وهوية تثبت انتماءه لوطنه الغارق في القتال والدمار والذي تحول إلى محرقة للجميع دون استثناء، مما جعلهم يفرون إلى حضن وطنهم الأم.
مبادرة “أنا سوداني” نموذج واقعي يجسد رحلة البحث عن هوية لأطفال من أم سودانية وأب جنوبي، وقفت السلطات ضد منحهم الجنسية السودانية بعد انفصال الجنوب، متجاوزة بذلك قانون الجنسية السودانية لعام 1994م والذي ينص في الباب الثاني المادة (4/3) على “يكون الشخص المولود من أم سودانية بالميلاد مستحقًا للجنسية السودانية بالميلاد متى تقدم بطلب لذلك”.
وظلت الجهات المعنية باستخراج الرقم الوطني والجنسية السودانية تمتنع عن القيام بواجبها تجاه مئات الأطفال بولاية الخرطوم والولايات الأخرى منذ انفصال الجنوب في العام 2011، مما ترتب على ذلك تحطيم مستقبل الأسر وضياع الأبناء وحرمانهم من حق المواطنة ومن الدراسة في مختلف مراحل التعليم العام والجامعي على حد سواء.
بالإضافة إلى معاملتهم على أنهم أجانب مطالبون بدفع رسوم الدراسة بالدولار الأمريكي بما في ذلك الرسوم المدرسية لمرحلة الأساس، ونتج عن ذلك كثير من الأضرار للأسر والأطفال، فمنهم من ترك الدراسة ومنهم من يواصل تحت ظروف نفسية قاسية نتيجة التهديد الذي يلاحقه بحرمانه من الجلوس لامتحانات شهادة الأساس والشهادة السودانية، ومنهم من تم حرمانه من المنافسة في دخول الجامعات رغم إحرازهم نتائج تتيح لهم ذلك، بينما تواجه بعضهم مشكلة العمل أيضًا.
أعلنت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين أن أكثر من مليون شخص فروا من النزاع في جنوب السودان إلى بلدان مجاورة
ومن بين هؤلاء الذين يعانون من أزمة الحصول على الهوية، عادل برعي، الذي سحبت منه الجنسية السودانية بعد الانفصال، بسبب انتمائه لقبيلة الدينكا الجنوبية رغم أن زوجته سودانية وأمه كذلك.
وخسر برعي بسبب ذلك الجنسية والوظيفة، ويبذل جهودًا للحصول على الجنسية له ولأولاده الخمسة.
الوطن الأم
وعلى الصعيد الاجتماعي والمعيشي في جنوب السودان لم يجد الآلاف من مواطني دولة جنوب السودان غير الهرب إلى السودان – الدولة التي انفصلوا عنها قبل خمس سنوات – لاتخاذه كملجأ بديل لهم.
ورغم وعورة الطريق وطول المسافة فإنهما لم يمنعا الفارين من الوصول إلى الحدود السودانية، في حالة هي الأسوأ وفق وصف جمعية الهلال الأحمر السوداني.
أكثر من مليون لاجئ فروا من جنوب السودان
أعلنت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين أن أكثر من مليون شخص فروا من النزاع في جنوب السودان إلى بلدان مجاورة، خصوصًا بعد المعارك التي جرت بداية يوليو الماضي في العاصمة جوبا لتنضم بهذا إلى سوريا والصومال وأفغانستان التي تجاوز عدد لاجئي كل منها المليون.
واعتبر المتحدث باسم المفوضية التابعة للأمم المتحدة ساوند بايت ليو دوبس ذلك الرقم “صادمًا في أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم”، مضيفًا في تصريحات أدلى بها الجمعة أن عدد اللاجئين من جنوب السودان إلى الدول المجاورة تخطى حاجز المليون لاجئ، بما في ذلك أكثر من 185 ألف شخص فروا منذ اندلاع أعمال عنف جديدة في جوبا بجنوب السودان في يوليو الماضي.
وقال المتحدث: “بعد خمس سنوات من استقلال جنوب السودان، ذلك يعتبر علامة محزنة للغاية”، وجدد دعوته إلى جميع الجهات المعنية لتكثيف الجهود للتوصل إلى اتفاق سلام دائم حتى يتمكن الناس من بدء إعادة بناء حياتهم والعودة إلى ديارهم.
قررت الحكومة السودانية في مارس 2016 معاملة رعايا جنوب السودان الموجودين على أراضيها بوصفهم أجانب لدى تلقيهم خدمات الصحة والتعليم، وهو ما سيحرمهم من امتيازات المواطنة التي وفرتها لهم الخرطوم بعد اندلاع الحرب الأهلية في بلادهم
وبحسب المفوضية، فرت الأغلبية العظمى من اللاجئين الذين تم إحصاؤهم من الدولة التي استقلت في 2011 على إثر اندلاع الحرب الأهلية في ديسمبر 2013 على خلفية صراع سياسي وعرقي مما أدى إلى سقوط عشرات الآلاف من القتلى، فضلاً عن عدد لا يحصى من حالات الاغتصاب وفظاعات أخرى، وعلاوة على ذلك، نزح 1.6 مليون شخص – أغلبهم من النساء والأطفال – من منازلهم إلى مناطق أخرى في البلاد.
وتقول الأمم المتحدة إن السلطات المحلية تمنع الأمم المتحدة وفرق الإغاثة من الوصول إلى مناطق محتاجة للمساعدات، حيث يعاني نحو ثلث السكان من انعدام الأمن الغذائي بشكل “غير مسبوق”.
واستقبلت أوغندا الجارة الجنوبية لجنوب السودان – والتي تقع حدودها على بعد مئتي كلم من جوبا – أكبر عدد من لاجئي جنوب السودان ويقدر بأكثر من 370 ألف لاجئ، وقال وزير الكوارث واللاجئين الأوغندي موسى أسويكو: “على المجتمع الدولي والمنظمات الإقليمية التحرك بسرعة لإنهاء أعمال العنف هذه”، مضيفًا “نحن مستمرون في فتح حدودنا للاجئين لكن مواردنا ليست بمستوى عددهم، ونوجه دعوة لشركائنا الدوليين والمانحين لزيادة تمويلهم”.
يذكر أنه عقب توقيع اتفاق سلام بين فرقاء النزاع في أغسطس 2015 ظهر بصيص من الأمل في بسط السلم بالبلاد عززته عودة القائد السابق للتمرد رياك مشار إلى جوبا في أبريل الماضي بصفته نائب الرئيس سلفاكير لتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسته.
لكن معارك جديدة بالأسلحة الثقيلة اندلعت في جوبا بداية يوليو الماضي بين قوات سلفاكير وقوات مشار الذي فر من جوبا لاحقًا بعد هزيمة قواته، ولم تتوقف المعارك في باقي البلاد خصوصًا بين مليشيات لديها أجنداتها المحلية.
وبعد تردد تعهدت حكومة جنوب السودان في 4 من سبتمبر/ أيلول الحالي في أثناء زيارة وفد مجلس الأمن الدولي بالقبول بنشر قوة إقليمية من أربعة آلاف رجل لتعزيز قوة الأمم المتحدة في جنوب السودان المكونة من 12 ألف جندي، لكن غداة ذلك قال المتحدث باسم الحكومة إن عدد جنود القوة الإقليمية من المسائل التي ترغب الحكومة في التفاوض بشأنها أكثر، فيما لوحت الولايات المتحدة الأربعاء الماضي بفرض حظر أسلحة إذا رفضت جوبا نشر القوة.
أنت أجنبي؟
ومن جانبها قررت الحكومة السودانية في مارس 2016 معاملة رعايا جنوب السودان الموجودين على أراضيها بوصفهم أجانب لدى تلقيهم خدمات الصحة والتعليم، وهو ما سيحرم مئتي ألف لاجئ جنوبي من امتيازات المواطنة التي وفرتها لهم الخرطوم بعد اندلاع الحرب الأهلية في بلادهم.
وقالت وكالة الأنباء السودانية الرسمية: “مجلس الوزراء قرر في جلسته الدورية اليوم الخميس معاملة مواطني دولة جنوب السودان المقيمين في السودان بوصفهم أجانب لدى تلقيهم خدمات الصحة والتعليم”، وأضافت “المجلس قرر التحقق من هويات الجنوبيين المقيمين بالبلاد، واتخاذ الإجراءات القانونية حيال كل من لا يحمل جواز سفر وتأشيرة دخول رسمية خلال أسبوع بدءًا من صدور القرار”.
واستقبل السودان أكثر من مئتي ألف لاجئ فروا من دولة جنوب السودان منذ اندلاع النزاع المسلح فيها في ديسمبر/ كانون الأول 2013. ومع بدء توافد اللاجئين الجنوب سودانيين أمر البشير بمعاملتهم كمواطنين يتمتعون بجميع الخدمات وعدم معاملتهم كلاجئين.
ويأتي قرار معاملتهم كأجانب بعد ساعات من تهديد إبراهيم محمود مساعد الرئيس السوداني بإغلاق الحدود مع دولة جنوب السودان إذا لم تتخل عن “دعم المتمردين” على حكومته، وحمل محمود حكومة جنوب السودان مسؤولية عدم تنفيذ الاتفاقات الموقعة بين الطرفين منذ عام 2012.
جاءت تهديدات محمود في مؤتمر صحفي مشترك مع الوسيط الإفريقي ثابو أمبيكي عقب اجتماعه بالرئيس عمر البشير في الخرطوم.
الأطفال والانفصال
أطفال جنوب السودان اللاجئون في إثيوبيا يحصلون على فرصة للتعليم
طالت نار الحرب والانفصال الأطفال، جون وبيتر ودينغ ثلاثة أطفال تقطعت بهم السبل قبل أن ينجحوا في الوصول إلى الحدود التي قطعوها قبل خمس سنوات باتجاه الجنوب للعيش في دولة جنوب السودان الوليدة، حيث عادوا اليوم راجلين إلى السودان مع آلاف الأطفال قبل أن تستقبلهم جمعية الهلال الأحمر السوداني وتجمعهم بآخرين وصلوا منذ أشهر.
وفي مدرسة اكتظت بالتلاميذ الناجين من الموت مثل اكتظاظ المعسكر نفسه يجلسون جميعًا على ركبهم لتلقي قسط من الدروس ومواصلة ما بدأوه من عملية تعليمية انقطعت في دولة الجنوب لأسباب قاهرة.
ويندمج القادمون الجدد مع رفقائهم مرددين في صوت صاخب كلمات نشيد العلم السوداني: “نحن جند الله جند الوطن.. هذه الأرض لنا فليعش سوداننا علمًا بين الأمم”.
استقبل السودان أكثر من مئتي ألف لاجئ فروا من دولة جنوب السودان منذ اندلاع النزاع المسلح فيها في ديسمبر/ كانون الأول 2013
يقول دينغ لموقع “الجزيرة نت”: “لا أحفظ النشيد كاملاً لكنني حفظت جزءًا كبيرًا منه من أخوتي، وهم يقلدون أفراد المنتخب السوداني لكرة القدم الذين يرددونه مع الجمهور قبل كل مباراة”.
وينتظر جون وبيتر فرصة الانتقال إلى مدرسة في العاصمة الخرطوم قائلين إنهما تركاها بعدما طلب منهما ضمن آخرين مغادرة السودان إلى دولة الجنوب، بينما يقول دينغ إنه سيبقى في المدرسة لأن ليس لديه أهل يستضيفونه في الخرطوم، في حين يجد في المعسكر أصدقاء يأنس بهم.
ما ذكر أعلاه نقطة في بحر مليء بالمشاكل والأزمات التي نتجت عن انفصال الجنوب عن السودان، فما تم تسليط الضوء عليه هو الجانب الشخصي والاجتماعي والوضع المعيشي الذي يعانيه المواطن الجنوبي داخل وطنه، فهناك العديد من المشاكل الأخرى وعلى رأسها السياسية التي دفع المواطن ثمنها وما زال يدفع حتى الآن.