جاء الكشف عن قمة سرية جمعت كل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والملك الأردني عبد الله الثاني ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، برعاية وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري، في مدينة العقبة الأردنية، فبراير العام الماضي، لتثير حالة من الجدل داخل الوسط العربي عامة والفلسطيني والمصري بصورة خاصة.
القمة التي كشفت عنها صحيفة “هارتس” بعد عام كامل على انعقادها، ليست الأولى التي تأتي في إطار التنسيق السري المصري الإسرائيلي الذي وصل إلى أعلى درجاته خلال السنوات الثلاثة الماضية، مما يضع العديد من التساؤلات عن دوافع الكشف عن هذه اللقاءات في هذا التوقيت بالذات؟ وانعكاسات مثل هذه التسريبات على مستقبل العلاقات المصرية الصهيونية، إضافة إلى التساؤل عن غياب الطرف الفلسطيني في مثل هذه اللقاءات رغم كونه طرفًا محوريًا في موضوع النقاش.
العقبة.. قمة الفرص الضائعة
سردت صحيفة “هارتس” وقائع وتفاصيل القمة التي عقدت في العقبة فبراير الماضي، والتي جاءت لمناقشة المبادرة التي قدمها جون كيري لحلحلة الأزمة الفلسطينية، والتي تتمحور في الاعتراف العربي بدولة الكيان الصهيوني، في مقابل استئناف مفاوضات عملية السلام، ومناقشة مسألة حل الدولتين.
الصحيفة أشارت إلى أن نتنياهو تقدم بمقترح مكون من خمس نقاط خلال القمة أبرزها: أولاً: المصادقة على تنفيذ أعمال بناء مكثفة للفلسطينيين ودفع مشاريع اقتصادية في المنطقة “ج” في الضفة الغربية، بما في ذلك المصادقة على إدخال أسلحة ضرورية إلى أجهزة الأمن الفلسطينية.
ثانيًا: نشر حكومة الكيان الصهيوني بيان “إيجابي” تجاه مبادرة السلام العربية، والتعبير عن استعدادها لإجراء مفاوضات مع الدول العربية بشأن بنودها.
ثالثًا: تأييد ومشاركة فعالة من جانب الدول العربية في مبادرة سلام إقليمية، تشمل حضور ممثلين كبار عن السعودية والإمارات و”دول سنية” أخرى إلى قمة علنية بمشاركة نتيناهو.
رابعًا: اعتراف أمريكي فعلي بالبناء في الكتل الاستيطانية الكبرى، التي لم يرسم رئيس وزراء دولة الاحتلال حدودها بشكل واضح، مقابل تجميد البناء في المستوطنات الواقعة خارج الكتل الاستيطانية.
خامسًا: الحصول على ضمانات من إدارة أوباما من أجل لجم خطوات ضد تل أبيب في مؤسسات الأمم المتحدة واستخدام الفيتو الأمريكي ضد قرارات تتعلق بعقوبات ضدها.
انتقادات حادة وجهت لنتنياهو لتفريطه في فرصة قد لا تتكرر مرة أخرى، خاصة في ظل المرونة التي يبديها السيسي في التفاوض مقارنة بما كانت عليه إدارة أوباما
الغريب في الأمر أن رئيس وزراء دولة الاحتلال لم يبد رد فعل إيجابي حيال المناقشات التي أثيرت بشأن المبادرة والتي تسمح له بتحقيق حلمه في شرعنة وجود الكيان الإسرائيلي عربيًا، وهو الهدف الذي طالما سعت قيادات تل أبيب إلى تحقيقه منذ عام 1948 وحتى الآن، مما دفع البعض إلى انتقاد نتنياهو لتفريطه في فرصة قد لا تتكرر مرة أخرى، خاصة في ظل المرونة التي يبديها السيسي في التفاوض مقارنة بما كانت عليه إدارة أوباما.
وفي المقابل لم يبد الرئيس المصري والملك الأردني أي اعتراض على تلك المبادرة، مما يعني الموافقة عليها من حيث المبدأ، علمًا بأنها تصب في صالح الكيان المحتل وليس الدولة الفلسطينية كما يعتقد البعض، وهو ما أثار العديد من علامات الاستفهام لدى قطاع عريض من الشارع الفلسطيني والمصري عقب الكشف عن تفاصيل هذا اللقاء.
بيان مؤسسة الرئاسة المصرية وإن لم يشر بشكل واضح إلى حضور السيسي هذه القمة من عدمها، إلا أن فحواه يعكس تأكيدًا على المشاركة فيها، مكتفيًا بتبرير دوافع الحضور
وفي أول رد فعل مصري على هذه التسريبات، أصدرت الرئاسة المصرية بيانًا تعقيبًا على ما نشرته “هارتس” قالت فيه: “مصر لا تدخر وسعًا في سبيل التوصُّل إلى حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية استنادًا إلى حل الدولتين وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة على أساس حدود 4 من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية دون أي مواءمات أو مزايدات، وهو الموقف الذي يتنافى مع ما تضمنه التقرير من معلومات مغلوطة”.
المتحدث باسم الرئاسة لفت إلى جهود مصر لتهيئة المناخ أمام التوصل إلى حل دائم للقضية الفلسطينية يستند إلى الثوابت القومية والحفاظ على حقوق الشعب الفلسطيني، ومن ثم وفي هذا الإطار سعت القاهرة إلى تقريب وجهات النظر بين مختلف الأطراف المعنية، ودعم أي مبادرات أو لقاءات تهدف إلى مناقشة الأفكار العملية التي تساعد على إحياء عملية السلام من أجل التوصل إلى حل عادل وشامل يساهم في إعادة الاستقرار إلى منطقة الشرق الأوسط.
بيان مؤسسة الرئاسة المصرية وإن لم يشر بشكل واضح إلى حضور السيسي هذه القمة من عدمها، إلا أن فحواه يعكس تأكيدًا على المشاركة فيها، مكتفيًا بتبرير دوافع الحضور، وأن هذا جاء انطلاقًا من حرص مصر على دعم عملية السلام في الشرق الأوسط.
الملك عبد الله الثاني خلال لقائه نتنياهو
ليس اللقاء الأول
تسريب “هارتس” عن القمة الرباعية السرية في العقبة لم يكن التسريب الأول من نوعه الذي يكشف حجم اللقاءات والتنسيق فيما بين الجانبين المصري والصهيوني لبحث الملف الفلسطيني وسبل الوصول إلى حل وسطي يحقق السلام في المنطقة، وهو ما كشفته سلسلة من التسريبات الأخرى.
1- اتصال شكري – مولخو
في العاشر من فبراير الحاليّ، بثت قناة “مكملين” المعارضة لنظام عبد الفتاح السيسي، تسريبًا صوتيًا لمكالمة هاتفية بين وزير الخارجية المصري سامح شكري، ومحامي نتنياهو، إسحق مولخو، تطرق إلى الحديث عن قضية تيران وصنافير، والتباحث بخصوص بعض البنود المتعلقة باتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية.
المكالمة المسربة والتي اعترض عليها البعض، ووصفها بـ”المفبركة” كشفت تنسيقًا بين القاهرة وتل أبيب بشأن الجزيرتين، حيث أظهرت مراجعة شكري مع مولخو بنود الاتفاقية بصورة تفصيلية، وفيها يعلن وزير الخارجية المصرية الموافقة على مقترح المحامي الصهيوني بتعهد القاهرة بعدم إقرار تعديل أي بند في الاتفاقية دون الموافقة المسبقة لحكومة تل أبيب، إضافة إلى تعهد شكري بمواصلة جميع إجراءات تنفيذ الاتفاقية بغض النظر عن أحكام القضاء المصري في هذا الشأن.
المكالمة المسربة والتي اعترض عليها البعض، ووصفها بـ”المفبركة” كشفت تنسيقًا بين القاهرة وتل أبيب بشأن الجزيرتين، حيث أظهرت مراجعة شكري مع مولخو بنود الاتفاقية بصورة تفصيلية
2- مقترح إقامة دولة فلسطينية في سيناء
في الرابع عشر من فبراير الحالي، كتب الوزير الصهيوني أيوب قرا، على صفحته الشخصية على “تويتر”: “ترامب ونتنياهو سوف يتبنيان خطة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بإقامة دولة فلسطينية في غزة وسيناء بدلاً من الضفة الغربية”.
טרמפ ונתניהו יאמצו את תוכנית נשיא מצרים אסיסי.מדינה פלסטינית בעזה וסיני.במקום ביהודה ושומרון.כך תסלול הדרך לשלום כולל עם הקואליציה הסונית. pic.twitter.com/Sb9WyUidgP
— איוב קרא (@ayoobkara) February 14, 2017
وفي تصريح له، قال الوزير الصهيوني: “هذه هي الطريقة الوحيدة التي ستمهد الطريق إلى السلام بما في ذلك مع الائتلاف السني”، مشيرًا حسبما نقلت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” إلى أن هذا المقترح المصري يعود إلى عام 2014 إلا أنه قوبل بالرفض من قبل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبو مازن.
وقد أثارت هذه التغريدة مخاوف الكثيرين سواء داخل مصر أو فلسطين، لما تحمله من دلالات كارثية سواء على مستقبل القضية الفلسطينية والتخلي عن حلم إقامة الدولة الفلسطينية الكاملة، أو على الجانب المصري حيث المضي قدمًا في سياسة التفريط في أرض الوطن لصالح حسابات أخرى.
ورغم نفي السلطات المصرية والصهيونية لصحة ما غرد به قرا، فإن مضمون الحديث ألقى بظلاله القاتمة على المشهد المصري بصورة خاصة، وهو ما دفع بعض المحامين إلى رفع دعوى قضائية لوقف أي اتفاق أو قرار يحمل بين ثناياه توطين الفلسطينيين في سيناء.
دعوى قضائية ضد التوطين
في خطوة استباقية خشية ما يمكن أن يترتب على هذه التسريبات من قرارات مفاجئة، أقام عدد من المحامين يتقدمهم خالد علي ومالك عدلي، دعوى قضائية أمام مجلس الدولة، طالبوا فيها بوقف تنفيذ مخططات إعادة توطين الفلسطينيين في أراضي شبه جزيرة سيناء.
الدعوى في عريضتها طالبت بوقف تنفيذ قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي، والمهندس شريف إسماعيل رئيس الوزراء، بالامتناع السلبي عن إصدار قرار بإلزام الخارجية المصرية باتخاذ كل الإجراءات القانونية والدستورية لطلب مراجعة وتعديل الاتفاق الأوروبي المتوسطي لتأسيس مشاركة بين حكومة مصر من جانب، والجماعات الأوروبية ودولها الأعضاء من جانب آخر، فيما تضمنته مادتها رقم (69) من السماح بتوطين مواطني دولة ثالثة في الأراضي المصرية، الصادر بشأنها القرارين الجمهوريين 335 لسنة 2002 اللذين نشرا في الجريدة الرسمية في العدد 47 بتاريخ 20 من نوفمبر 2003، والقرار الجمهوري 11 لسنة 2004 لمخالفة ذلك لدستوري 1971، 2014.
حسام مؤنس: رغم النفي الرسمي من عدة أطراف لجدية هذه الأفكار أو طرحها للمناقشة، فما جرى في قضية جزيرتي تيران وصنافير يدعو للتحسب والتحوط
وعن أسباب هذه الخطوة، قالت صحيفة الدعوى: “ما كنا نظنه مستحيلاً ودربًا من دروب الخيال التي لا يمكن تصديقها، يبدو أن كل الخيوط التي تتشابك يومًا بعد يوم تجبرنا جميعًا على التحوط، والتعامل بجدية مع كل ما يتعلق بمقترحات حل الصراع العربي الإسرائيلي التي طرحت في الآونة الأخيرة، وأبرزها ما يسعى إليه البعض من منح الفلسطينيين جزء من سيناء، يعاد فيها إعادة الفلسطينيين به مقابل حصول مصر على جزء من صحراء النقب وبعض المميزات الأخرى”.
بينما صرح حسام مؤنس، أحد مقيمي الدعوى قائلاً: “رغم النفي الرسمي من عدة أطراف لجدية هذه الأفكار أو طرحها للمناقشة، فما جرى في قضية جزيرتي تيران وصنافير يدعو للتحسب والتحوط سواء من أن تصبح هذه الأفكار قابلة للتطبيق حاليًا أو مستقبلاً، في ظل هذه السلطة أو غيرها”.
شبح تيران وصنافير يطارد المصريين في مقترح التوطين في سيناء
لماذا غاب الطرف الفلسطيني؟
من الملاحظ أن في كل اللقاءات والاتصالات المسربة بشأن التنسيق المصري الأردني الإسرائيلي، غاب الطرف الفلسطيني بشكل ملفت للنظر، رغم كونه القطب الثاني في المعادلة التفاوضية، مما يدفع للتساؤل عن أسباب هذا الغياب.
بداية لا بد أن نشير إلى توتر العلاقة بين عبد الفتاح السيسي ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وذلك إثر تباين وجهات النظر حيال بعض الملفات، أبرزها عودة القيادي الفتحاوي المطرود محمد دحلان، حيث رفض أبو مازن ضغوط اللجنة الرباعية المشكلة من مصر والأردن والإمارات والسعودية لإعادة دحلان للمشهد الفلسطيني مرة أخرى بعد سنوات من الإبعاد.
موقف أبو مازن الرافض للوساطة المصرية الخليجية دفع الأخير إلى ممارسة بعض وسائل الضغط عليه من خلال وقف بعض المساعدات التي كانت تقدم للسلطة الفلسطينية من جانب، وفتح قنوات اتصال مع حركة المقاومة الإسلامية “حماس” من جانب آخر.
التحرك المصري الأردني لمناقشة المبادرات المقدمة من كل من واشنطن وتل أبيب لتفعيل عملية السلام في الشرق الأوسط بعيدًا عن الحضور الفلسطيني تحمل بين ثناياها إجهاضًا مبكرًا لمثل هذه اللقاءات، خاصة في ظل الرفض الفلسطيني الواضح لما أثير بشأن بنود تلك المبادرات.
محمد دحلان.. نقطة الخلاف الرئيسية بين أبو مازن واللجنة العربية
ماذا عن مستقبل “السلام الدافئ”؟
“إن تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين سيجعل السلام القائم بين مصر وإسرائيل أكثر دفئًا” جسدت هذه الكلمات التي خرجت عن السيسي خلال كلمة له في مايو 2016 حالة الوئام والتنسيق الكامل بين القاهرة وتل أبيب، وهو ما عززته مواقف الإدارة الإسرائيلية الداعمة دومًا للنظام المصري الحالي، والتي أكدت في كثير منها أن العلاقات بين البلدين لم تشهد تطورًا كالتي شهدته خلال السنوات الثلاثة الماضية.
هذا التنسيق القوي بين البلدين والذي تشكل في صور مختلفة، ما بين لقاءات سرية لبحث مستقبل القضية الفلسطينية في غياب الطرف الأصلي فيها، ومكالمات مسربة تتناول بعض الملفات التي تندرج تحت إطار الأمن القومي كقضية تيران وصنافير، إضافة إلى اللقاءات العلنية سواء بين سامح شكري ورئيس وزراء الكيان، أو التي عقدت منذ يومين بين السيسي وبعض ممثلي المنظمات اليهودية والصهيونية في القاهرة، يدفع إلى التساؤل عن الهدف من وراء بث مثل هذه التسريبات، والتي قد تسبب الحرج للقاهرة عربيًا وشعبيًا.
البعض رأى أن بث هذه التسريبات في الفترة الأخيرة، فضلاً عما أثارته وسائل إعلام صهيونية منذ أيام بشأن إطلاق صواريخ على دولة الاحتلال من شبه جزيرة سيناء، يدفع إلى تعزيز الموقف الصهيوني أمريكيًا، في محاولة للحصول على أكبر قدر من المكاسب في ظل ولاية دونالد ترامب الداعم القوي للصهيونية.
هذا التنسيق القوي بين البلدين والذي تشكل في صور مختلفة، ما بين لقاءات سرية، ومكالمات مسربة، إضافة إلى اللقاءات العلنية الأخرى، يدفع إلى التساؤل عن الهدف من وراء بث مثل هذه التسريبات، والتي قد تسبب الحرج للقاهرة عربيًا وشعبيًا
بينما رأى آخرون أن إطلاق الضوء الأخضر لبث هذه التسريبات في الوقت الحالي، محاولة صهيونية للضغط على القاهرة بعد الخطوات الملموسة التي تقدمت بها للتقريب بينها وبين حماس، وهو ما تسبب في إزعاج الكيان الإسرائيلي، ومن ثم سعى إلى إحراج النظام المصري وممارسة الضغط عليه.
إلا أنه وعلى كل حال، فإن مثل هذه التسريبات من الصعب أن تؤثر بشكل أو بآخر على مستقبل العلاقات بين القاهرة وتل أبيب في ظل ولاية السيسي ونتنياهو، خاصة مع قدوم ترامب، وما يحدث لا يعدو كونه فصلاً من المواجهات الدبلوماسية المقبولة التي تحرك المياه الراكدة لكنها لا تعكر صفوها.