بعد أسبوع من دعوته لقتل عدد من مشايخ المسلمين المناهضين له، خرج تنظيم الدولة الإسلامية بإصدار جديد، دعا فيه أنصاره للهجوم على رموز ومرجعيات المسيحيين في مصر، ومفجرًا مفاجئة من العيار الثقيل وقاطعًا الشك باليقين، ببثه وصية الانتحاري “أبو عبد الله المصري” منفذ تفجير الكنيسة البطرسية بحي العباسية بمحافظة القاهرة شهر ديسمبر الماضي.
الإصدار المعنون بـ”وقاتلوا المشركين كافة” بدأ دعايته التحريضية بتركيب محترف وانتقاء مقصود لعدد من مقاطع فيديو التي تظهر خطابات رجال دين مصريين مسيحيين “تهاجم الإسلام والمسلمين في مصر”
لم يقف الإصدار الدعائي لتنظيم الدولة عند هذا الحد، فبعد استعراض مقاطع الفيديو المهاجمة للإسلام في أوله، فند التنظيم من خلال الأرقام والإحصائيات الرسمية، ادعاءات الكنيسة المصرية، بأن عدد المسيحيين المصريين يبلغ 12 مليونًا، مؤكدا أنهم لا يتجاوزون 4 ملايين يسيطرون في المقابل على 40% من اقتصاد البلد، وذلك نقلاً عن مجلة اقتصادية غربية لم يذكر اسمها.
وأضاف التنظيم أن 3 من مسيحيي مصر يتربعون على رأس أغنياء مصر، وهم كل من نجيب ونصيف وسميح ساويرس، ويمتلكون مجموعة من الفضائيات والمنابر الإعلامية التي وصفها بـ”المحاربة لدين الله”، كما أنهم علاوة على نفوذهم السياسي والاقتصادي، “يحظون بدعم مطلق من الدول الصليبية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ليكونوا بذلك أداة لدى المشروع الصليبي ورأس حربة في محاربة دين الله في مصر” وفق ما ورد في الفيديو الذي تتجاوز مدته العشرين دقيقة بثواني معدودة.
التنظيم لم يكتف بهذه المعلومات لتبرير هجومه على الكنيسة البطرسية الذي سيتبناه لاحقًا، حيث ظهر أحد مقاتليه المكنى “أبو يحيى المصري” محرضًا على النصارى ومستدلاً بما ورد في الوثيقة العمرية التي سطر فيها الخليفة الثاني للمسلمين عمر بن الخطاب، “ما على أهل الذمة من واجبات وأنهم إذا نقضوا بندًا واحدًا منها فقد نقضوا العهد كله”، وذلك في إطار تبرير دعايته بأن “نصارى مصر ليسوا بأهل ذمة ولا معاهدين”، مستشهدًا بالآية القرآنية “قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله.. وهم صاغرون”، مع إنشاد أبيات شعر والزعم بأن تاريخ محاربة المسيحيين للمسلمين معروف منذ أن دخلوا إلى مصر.
وتابع التنظيم مهاجمًا القضاة المسيحيين “نصارى مصر أكثروا من ادعاء المظلومية لكونهم أقلية في محيط مسلم مع أن لهم نفوذًا لدى النظام المصري الطاغوتي خاصة في مفصله الاقتصادي والإعلام، كما أن لهم في جهاز القضاء، حيث يعمل القضاة الصليبيون على إصدار أحكام مشددة غالبًا ما تكون بالإعدام في حق الأسرى الموحدين”، مدللاً على ذلك بما فعله القاضي المسيحي أميل حبشي ملكية عبد المسيح حين حكم بالإعدام على من وصفهم بـ”مجاهدي سيناء”، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أن حبشي نصبه الرئيس المعزول محمد مرسي.
حزب النور السلفي هو الآخر، نال نصيبه من أحكام الردة والعمالة التي يطلقها التنظيم، مرفقًا ذلك بوصف حزب النور بـ”المرتد” وبفيديو لقيادييه في أثناء تقديمهم العزاء لأهالي القتلى الأقباط الذين ذبحوا في ليبيا على أيدي مقاتلي التنظيم منتصف شهر فبراير 2015، كما لم يستثن تنظيم الدولة من هجومه جماعة الإخوان المسلمين التي وصفها هي الأخرى بـ”المرتدة”، مظهرًا مرسي يهنئ البابا شنودة في يوم عيد الأقباط لعلم الإخوان حسب زعمه بأن “النصارى يمتلكون تأثيرًا قويًا خاصة أنهم يتحكمون في مفاصل السلطة والشأن العام”.
بعد دقائق من العرض وتركيب المقاطع المنتقاة بدقة، جاء الدور على “خطيب الدولة” أبو يحي المصري، لمهاجمة المسيحيين، والادعاء بأنهم سبوا النبي صلى الله عليه وسلم على شاشاتهم وفي فضائياتهم، قبل أن يتساءل “وهذا والله دونه دماء المسلمين أجمعين فكيف يسب النبي الأمين على لسان هؤلاء الملاعين ثم يعيشون في ديارنا آمنين”، مع اختيار مقطع لمن وصفه التنظيم بـ”عدو الله الصليبي مرقص عزيز” يقول فيه “الحمد لله والصلاة والسلام على مش عارف مين وعلى آله وصحبه ماذا قال رسول الله إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران”، مع مقطع آخر لـ”عدو الله الصليبي زكريا بطرس” يسب النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً ونهارًا على قنوات النصارى المحاربين جاء فيه “يا عم الرسول حاجة ثانية، دا أبو الفيل وأم الفيل، ودا مين دا عار وصمة عار”.
ولمزيد من الإقناع وفي إطار حرب الدعاية ومحاولة استقطاب أنصار وذئاب منفردة جديدة، اختار التنظيم مقتطفًا لمقابلة تليفزيونية أجراها الإعلامي عمرو أديب مع البابا شنودة، سأله خلالها “لماذا لم نجد تصريحًا من الكنيسة القبطية إنه يا جماعة زكريا بطرس دا اللي بيهين الإسلام كل يوم احنا ضده بلاش نشلحه أو نحرمه أو نعمل أي حاجة فيه، يعني بس عشان المسلمين يحسوا إن فضيلتك مش موافق عالكلام دا، إنت عاجبك الكلام اللي بيقولوا”.
البابا شنودة الذي وصفه التنظيم بـ”الهالك الصليبي كبير نصارى مصر”، أقر بحسب دعاية التنظيم “سب الرسول صلى الله عليه وسلم” استنادًا على رده على سؤال عمرو أديب بالقول “سمعت بعض الحاجات دي وبعدين كان بيقول أنا أتساءل فأصبح في حوار بينه بين شيوخ المسلمين يردوا عليه، دي مسألة حوار”.
أبو يحي المصري عاد ليواصل حديثه مجددًا، باتهام مسيحيي مصر بإعانة السيسي في قصف المساجد مقابل ترميم الكنائس والمعابد ومد يد العون له لـ”سفك دماء المسلمين وتثبيت عرشه على رقاب المؤمنين ليحكم فيهم بغير شريعة رب العالمين”، مع عرض مقطع لبابا الكنيسة القبطية الأرثودكسية تواضروس الثاني يصرح فيه بأن “السيسي هو أول رئيس يعقد اجتماع مع كل رؤساء الكنائس المسيحية على أرض مصر”، ثم كلمة لعبد الفتاح السيسي أكد خلالها أنه لا مكان للإرهاب وجماعاتهم وأفكارهم وممارساته داخل مصر وأن مواجهته بالوسائل العسكرية والأمنية ستستمر، ليبث التنظيم على إثر ذلك مقاطع تظهر دمارًا في سيناء وأخرى لرجال دين مسيحيين مصريين يمدحون السيسي والجيش والوزراء والجنود تزامنًا مع انتهاكات تقوم بها القوات المصرية في سيناء، وقع خلالها قتلى من الأطفال ودمار في المنازل.
تركيز الإصدار على موضوع واحد يهدف من خلاله التنظيم إلى إبراز “عداوة” مسيحيي مصر للمسلمين، ووقوفهم إلى جانب السيسي رغم جرائمه في سيناء
الملاحظ في هذا الإصدار المرئي، كثرة مقاطع القطع وتنوعها وتركيزها على موضوع واحد يهدف من خلاله التنظيم إلى إبراز “عداوة” مسيحيي مصر للمسلمين، ووقوفهم إلى جانب السيسي رغم جرائمه في سيناء، لأن بينهم وبين السيسي “زواج كاثوليكي لا ينتهي إلا بالموت” وفق تصريحات أحد رجال الدين المسيحيين.
ومن هذه المقاطع التي قصد تنظيم الدولة التركيز عليها، فيديوهات لـ”تفجير بيوت المسلمين الآمنين وتهجيرهم” مع سقوط عدد من القتلى رجالاً وأطفالاً وجثة متفحمة لا يظهر منها إلا هيكلها العظمي، مع تركيب أنشودة جاء فيها “ستعلم في الحساب إذا التقينا * غدا عند المليك من الملوم” ثم حديث لأحد السيناويين جاء فيه “ها هو يهدم المساجد هدم مساجدنا أحرق مصاحفنا”، ختامًا بتصريح البابا شنودة جاء فيه “ولذلك سيادة الرئيس اعمل وتحمل هذه المسؤولية ونشاركك جميعًا فيها”.
بعد كل هذا التركيب والمونتاج المحترف، أعلن تنظيم الدولة أنه “كان لزامًا على المجاهدين والموحدين استهداف نصارى مصر وتنغيص عيشهم في أي مكان وإدخالهم في دائرة الصراع فهم من جملة الصليبيين المحاربين للمسلمين”، أعقب ذلك فيديو يوثق لحظة تفجير الكنيسة البطرسية نفذه محمود شفيق محمد مصطفى الذي كناه التنظيم بـ”أبو عبد الله المصري”، مع عرض مقطع صوتي لتبني إذاعة البيان للعملية وتقرير إعلامي عن موقع وأهمية الكنيسة المستهدفة نقلاً عن قناة الجزيرة.
وفي إطار تضخيم نتائج العملية، اختار تنظيم الدولة تعليق عمرو أديب بأن “هذه العملية من أشرس العمليات اللي اتعملت في التفجيرات في مصر.. الدم على كل نقطة زجاج الدم على كل نقطة خشب الدم على كل طرابيزة الدم في كل حتة حديد انصهر حديد اتكسر الدم عالحيطان والله لو نص بوصة متع دبابة ما يعمل فيه كدا”، مع فيديو صراخ بعض أهالي الضحايا على إثر العملية والذين ردد بعضهم “كنتِ فين يا داخلية لما ضربوا البطرسية”.
التنظيم، تابع إصداره معلقًا على هذه اللقطات بالقول “وما علموا أن السيسي عاجز عن توفير الأمن حتى لجنوده وشرطته الذين تمزقهم عبوات المجاهدين في سيناء والقاهرة”، معقبًا على ذلك بممارسة هوايته المفضلة وهي هجومه على مشايخ المسلمين الذين أسماهم بـ”حمير العلم” ممن نددوا وشجبوا قتل “إخوانهم المسيحيين”، وهم على التوالي عصام تليمة الذي جرم العملية “بحكم الدين والقانون والأخلاق وبحكم العيش المشترك”، وأحمد الطيب ومحمد حسان وخالد الجندي، الذين وصفهم جميعا بـ”المرتدين”.
وعلى إثر هذا التسلسل، جاء الدور على “أبو الزبير المصري” خطيب الدولة الثاني لمواصلة الهجوم على المسيحيين ومشايخ المسلمين، قبل أن يظهر منفذ العملية “أبو عبد الله المصري” ملثمًا في آخر الشريط، مما أحدث مفاجئة للمراقبين، خاصة لما أثارته الرواية الرسمية من الجانبين من غموض وعدم وضوح.
المصري توجه بالخطاب إلى من أسماهم بـ”إخوانه المجاهدين في كل مكان في العراق وفي الشام وفي اليمن وفي ليبيا وفي إفريقيا والنيجر والفلبين وفي أفغانستان وباكستان والشيشان وفي كل مكان خاصة في سيناء”، أوصاهم فيه بالثبات حتى النصر أو القتل دون ذلك.
وكما هي عادة خطابات الجهاديين، لم ينس أبو عبد الله المصري تذكير معتقلي التنظيم باقتراب فكاك أسرهم وتحرير القاهرة “بالمفخخات”، قبل أن يتوعد الإصدار مسيحيي مصر بمواصلة استهدافهم كونهم صيد التنظيم المفضل، في إشارة إلى أنهم أصبحوا أولوية على سلم التنظيم.
إصدار “فقاتلوا المشركين كافة”، والذي حمل لأول مرة شعار “مصر” على غرار الإصدارات السابقة “ولاية سيناء”، يوحي بأن الاستهداف من أجل الديانة أصبح أولوية للتنظيم
إن إصدار “فقاتلوا المشركين كافة”، والذي حمل لأول مرة شعار “مصر” على غرار الإصدارات السابقة “ولاية سيناء”، يوحي بأن الاستهداف من أجل الديانة أصبح أولوية للتنظيم، كما يكشف عن تمدد فعلي إلى كل أرجاء مصر، مع تأكيد تمسك اللجان الشرعية داخل التنظيم بـ”ردة” عدد من المشايخ المصريين على غرار محمد حسان وأحمد الطيب، الذين وقفوا صفًا واحدًا ضد التنظيم، إضافة إلى فضيحة لجهاز المخابرات المصرية، بعد أن أظهر الإصدار تناقض الاسم الحركي لمنفذ الهجوم في التسجيل وهو “أبو عبد الله المصري”، مع الاسم الحركي الذي سبق أن أعلنته السلطات المصرية لشفيق وهو “أبو دجانة الكناني”.
الساحة المصرية تعتبر إحدى أهم الجبهات التي يراهن عليها تنظيم الدولة الإسلامية لتصدير الفوضى، خاصة مع تشديد الخناق عليه في ليبيا ولجوء مقاتليه إلى الصحراء، بالإضافة إلى تنامي القمع والانتهاكات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية المصرية، إلا أن هذا الرهان سيصطدم بوقائع على الأرض قد تمنع إعلان التمدد في محافظات الداخل، ربما نفرد لها مقالاً آخر للحديث عنها.