أثار الممر الاقتصادي الذي كشف عنه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال قمة العشرين التي احتضنتها نيودلهي في التاسع والعاشر من سبتمبر/أيلول الحاليّ، والمسمى بـ”الخط الأخضر”، حالة من الجدل داخل الشارع المصري، حيث فرض نفسه كأحد الملفات البارزة التي استحوذت على اهتمام الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.
ومن المقرر أن يمتد هذا المشروع الذي وقّع على الاتفاق الأولي بشأنه قادة الولايات المتحدة والسعودية والهند والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي، عبر بحر العرب من الهند إلى الإمارات، ثم يعبر السعودية والأردن و”إسرائيل” قبل أن يصل إلى أوروبا، وفقًا لما ذكرته وسائل إعلام.
وصف الرئيس الأميركي، جو بايدن، اتفاقية #الممر_الاقتصادي للربط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، التي جرى توقيعها على هامش قمة #مجموعة_العشرين بأنها "تاريخية"، مضيفا أنها ستؤدي إلى "شرق أوسط أكثر استقرارا وازدهارا وتكاملا".
مزيد من التفاصيل عن الاتفاقية في هذا الرابط 👇… pic.twitter.com/oWrg2s8u6P
— اقتصاد سكاي نيوز عربية (@SNABusiness) September 10, 2023
الرئيس الأمريكي جو بايدن اعتبر أن المشروع “صفقة كبيرة حقيقية” من شأنها أن تربط الموانئ عبر قارتين وتؤدي إلى “شرق أوسط أكثر استقرارًا وازدهارًا وتكاملًا”، وقالت عنه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إنه “سيجعل التجارة بين الهند وأوروبا أسرع بنسبة 40%”، فيما وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ”التاريخي”.
المشروع الذي لم يزل في طور الدراسة رغم التحديات الجيوسياسية الهائلة أمامه أحدث قلقًا كبيرًا لدى المراقبين من الجانب المصري، فيما انقسمت الآراء بشأنه، فريق يرى فيه تهديدًا كبيرًا لقناة السويس العالمية وتهديدًا لثقل مصر الإقليمي، وإنه يأتي ضمن خطة التآمر والاستهداف الكبرى على مصر التي يتنباها قطاع كبير من المصريين، فيما يميل فريق آخر إلى التقليل من شأنه وأنه لا يعدو محاولة لاستهداف النفوذ الصيني وتهديد مشروع طريق الحرير الذي تعول عليه في فرض قبضتها على حركة التجارة العالمية.
بداية.. ما المشروع؟
المشروع يهدف إلى خلق ممر جديد يربط الهند والشرق الأوسط وأوروبا، ويتألف من 3 ممرات منفصلة، بحرية وبرية، الممر الأول: وهو ممر بحري ويبدأ من موانئ الهند مثل مومباي وصولًا إلى موانئ الإمارات وعلى رأسها ميناء جبل علي.
أما الممر الثاني فهو ممر بري يعتمد على السكك الحديدية، يبدأ من الإمارات ثم السعودية وصولًا إلى الأردن ومنها إلى ميناء حيفا على الساحل الإسرائيلي على البحر المتوسط، فيما يأتي الممر الثالث وهو الشمالي الذي يبدأ من حيفا باتجاه أوروبا مباشرة، فرنسا وإيطاليا واليونان، وهو ممر بحري.
الممر لن يقتصر على نقل البضائع فقط، لكنه سيشتمل على إمداد خط كابلات إنترنت سريعة، وخط نقل هيدروجين أخضر في الاتجاهين بصفته وقود المستقبل، ومن هنا جاءت تسميته بـ”الممر الأخضر”، وعليه تكون الدول التي يمر بها هذا الممر هي (الهند – الإمارات – السعودية – الأردن – إسرائيل – اليونان – إيطاليا – فرنسا).
من #طريق_الحرير الصيني إلى #طريق_التوابل الهندي..
لحظة تاريخية أكثر أهمية هي #الممر_الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، برأي #وزير_الاستثمار_السعودي خالد الفالح#الأسواق_العربية pic.twitter.com/1cmoDznzVI
— العربية Business (@AlArabiya_Bn) September 11, 2023
ولي العهد السعودي أشار إلى أن المشروع “يسهم في تطوير وتأهيل البنى التحتية التي تشمل سككًا حديدية وربط الموانئ وزيادة مرور السلع والخدمات وتعزيز التبادل التجاري بين الأطراف المعنية”، ويتضمن “مد خطوط الأنابيب لتصدير واستيراد الكهرباء والهيدروجين لتعزيز أمن إمدادات الطاقة العالمي، بالإضافة إلى كابلات لنقل البيانات من خلال شبكة عابرة للحدود ذات كفاءة وموثوقية عالية”، مشددًا على أن “مذكرة التفاهم بشأن مشروع الممر الاقتصادي تدعم جهود تطوير الطاقة النظيفة وتوليد فرص عمل جديدة ومكاسب طويلة الأمد لجميع الأطراف”.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكد التزام بلاده بالاستثمار في هذا المشروع، الذي وصفه بأنه جسر جديد لتأمين التواصل بين السكان، كما حث على ضرورة “الالتزام من أجل رؤية نتائج ملموسة على الأرض، وأن يصبح المشروع واقعيًا لكي يمكّنا من إيجاد مسار تجاري عالمي”.
ما الهدف من هذا الممر؟
كما هو معلن فإن الهدف الرئيسي من المشروع هو تيسير حركة التجارة بين الشرق والغرب، كما أشارت رئيسة المفوضية الأوروبية بأنه سيجعلها أسرع بنسبة 40% عما هي عليه الآن، هذا بخلاف الطموحات الأخرى المتعلقة بسهولة تصدير الهيدروجين وإمدادات الطاقة من آسيا إلى أوروبا والولايات المتحدة.
لكن في المقابل هناك من يرى أن المشروع يهدف في المقام الأول إلى منافسة الصين من خلال خلق بديل لطريق الحرير ومبادرة الحزام والطريق، وهو المشروع الذي تعول عليه بيجين للتحكم في حركة التجارة العالمية.
كما أن اختيار الهند تحديدًا لتكون نقطة انطلاق لهذا الممر الجديد لم يكن اختيارًا عشوائيًا حيث تسعى نيودلهي إلى تصدر المشهد بديلًا عن خصمها ومنافسها الأول، الصين، وهنا تلاقى الطموح الهندي مع المخطط الغربي لتقليم أظافر النفوذ الصيني وتمخض عن هذا المشروع.
فيديو غراف يظهر مسار #الممر_الاقتصادي الذي يربط #الهند باوروبا مرورا ب #الامارات و #السعودية و #الاردن و #اسرائيل ثم #اليونان pic.twitter.com/2VKPQDAhNg
— Charbel J. Barakat شربل ج بركات (沙尔贝勒·巴拉卡特) (@cjbarakat) September 11, 2023
ورغم الفارق الكبير بين الهند والصين في حركة التجارة العالمية، (تبلغ صادرات الصين السنوية 3.5 تريليون دولار مقابل 800 مليار دولار حجم التجارة الهندية) فإن مودي وحزبه الحاكم يراوده طموح استبدال الصين كقوة اقتصادية بالهند الذي تحيا في الآونة الأخيرة علاقات جيدة مع القوى الاقتصادية الكبرى، كما عززت مؤخرًا علاقتها مع القوى النفطية في الخليج.
تدعم أمريكا بقوة هذا المشروع نظرًا لاحتمالية أن يكون البديل الأكثر تأثيرًا لاتفاقيات التطبيع وتوسيع الحضور الإسرائيلي في المنطقة، فحين يصبح هذا المشروع جاهزًا، فإن التنسيق والتفاهم والتعاون والربط الملاحي البري والبحري بين تل أبيب والرياض وبقية العواصم في الشرق والغرب سيكون أمرًا طبيعيًا، وهو ما يحقق الهدف من التطبيع حتى وإن لم يكن تحت مظلة أبراهام.
أي تأثير على قناة السويس؟
القراءة المصرية الأولى للمشروع منذ الإعلان عنه أنه يستهدف قناة السويس في المقام الأول، بل غرد البعض خارج السرب حين وصف الممر بأنه جزء من مخطط الضغوط الدولية على الدولة المصرية قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو ما اعتبره آخرون تسرعًا غير مبرر، وتسييس مسبق لتقييم المشروع.
هناك فريق استبعد أن يكون للممر الاقتصادي الهندي أي تأثير على قناة السويس وحركة التجارة العالمية بها، نظرًا للصعوبات اللوجستية الكبيرة التي من المحتمل أن يواجهها المشروع، ومن ثم لا يمكنه منافسة الممر المصري العالمي، ومن أبرز تلك الصعوبات: المشاكل التي ستواجه تفريغ سفن الحاويات الكبيرة القادمة من ميناء مومباري وصولًا إلى ميناء جبل علي، ثم تحميلها في قطارات لتقطع مسافة طويلة من الإمارات والسعودية والأردن، ثم تفريغها مرة أخرى تمهيدًا لشحنها في حاويات بميناء حيفا، ثم تفريغها مجددًا في أوروبا.. وهكذا.
كما أن الصين وهي أكبر مصدّر في العالم وصاحبة الريادة في حركة التجارة العالمية فمن الطبيعي أنها لن تستخدم هذا الممر المدشن خصيصًا لمنافستها، وستعتمد على قناة السويس، وعليها ستتأثر أهمية هذا المشروع كثيرًا بالغياب الصيني، هذا بجانب المسافة والوقت الكبيرين التي تحتاجهما حركة التجارة من الهند وصولًا إلى أوروبا، الأمر الذي يدفع الكثير من الدول للتفكير طويلًا قبل نقل خط السير من القناة المصرية إلى الممر الأخضر.
الكاتب السياسي المصري والباحث في شؤون الأمن القومي جمال طه، يرى أن طبيعة السفن والحاويات المتوقع أن تعبر هذا الممر ستشكل هي الأخرى عقبة كبيرة تصب في صالح قناة السويس، لافتًا أن سفينة عالمية مثل “إيفرجيفن” تتجاوز حمولتها 18 ألف حاوية بوزن يصل إلى 219 ألف طن (وهي حمولتها حين جنحت في القناة مارس/آذار 2021 وعطلت الملاحة أسبوعًا تقريبًا)، لا يمكنها أن تمر من أي ممر آخر يربط الشرق والغرب.
وأوضح أن سفينة بهذا الحجم إذا ما تم نقلها عبر السكك الحديدية برًا، فإنها تحتاج إلى 530 رحلة قطار من نوع خط بيجين/لندن الذى يتكون من 20 عربة، هذا بخلاف الكلفة العالية الناجمة عن تفريغ البضائع من السفن وإعادة تحميلها على القطار في جبل علي ثم إعادة تفريغها وتحميلها مرة أخرى على السفن في ميناء حيفا، وهو ما لا تتحمله الكثير من الدول.
لا تحتاج الهند خطا يربطها بأوروبا، فالخط موجود وهو قناة السويس وباب المندب. أما الخط الجديد الذي أعلنه #بايدن وبشّر به #نتنياهو فغايته قطع الطريق على خط حرير الصين، وتحويل الدولة اليهودية إلى قلبٍ للمنطقة، وقصم ظهر مصر التي هي العمود الفقري للعالم العربي من خلال قتل #قناة_السويس pic.twitter.com/OtIeCtwJut
— محمد المختار الشنقيطي (@mshinqiti) September 11, 2023
وبحسب الباحث المصري فإن مصر لديها بدائل أخرى يمكن اللجوء إليها لسد أي تأثير محتمل على قناة السويس مثل خط السكك الحديدية الذي يربط بين ميناء “العين السخنة” على ساحل البحر الأحمر وميناء “الإسكندرية” شرق البحر المتوسط، الأقرب الى الأسواق الأوروبية، والذي لا يزيد طوله عن 350 كيلو مترًا، ما يجعل نقل البضائع من الشرق إلى أوروبا أقل كلفة وأقصر في الوقت.
بخلاف ميناء العريش المزمع الانتهاء من أعمال المرحلة الأولى له قبل نهاية 2023، على أن ينتهي مخطط التطوير خلال الربع الأول من عام 2024، وهو المشروع الذي سيسهل عملية نقل البضائع إلى أوروبا في وقت أقل، والذي وصفه الاعلام الإسرائيلي – بحسب خبير الأمن القومي المصري – بأنه المنافس القوي للموانئ الإسرائيلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط وهو امتداد لمشروع تطوير قناة السويس.
وفي المقابل يرى السفير المصري محمد مرسي، أن التقليل من شأن المشروع على قناة السويس، استنادًا إلي مقارنات استيعاب السفن والحاويات والقطارات للبضائع هو تقدير متسرع وسابق لأوانه، وأضاف “لا بد أن نبني تقديراتنا في قضايانا الإستراتيجية الكبري ومنها هذا المشروع علي العلم والدراسة المتأنية وعدم التحيز لفكر مسبق أو لعاطفة”، لافتًا إلى ضرورة وضع مثل تلك المشروعات وغيرها تحت مجهر الدراسة والعناية والتقدير العلمي بعيدًا عن التسييس.
ما القلق إذًا؟
في ضوء الشواهد الأولية فإن التأثير المتوقع لهذا الممر على قناة السويس في ظل الصعوبات والتحديات اللوجستية المتوقع أن يواجهها لن يكون بالحجم المقلق، فقد يكون هناك تأثير بالفعل لكنه ليس بالدرجة التي تتناسب وحجم الخوف الحاليّ، ليبقى السؤال: مما القلق إذًا؟
القلق الأبرز للمشروع يتمثل في تهديد ثقل مصر الاقتصادي إقليميًا ودوليًا، ومنافستها في العديد من المشروعات التي كانت تعول عليها في وضع موطئ قدم لها على خريطة الاقتصاد الدولي، وعلى رأسها قطاع الهيدروجين الأخضر، حيث كانت تستهدف القاهرة جلب استثمارات أجنبية في هذا المجال تقدر بنحو 40 مليار دولار في منطقة محور قناة السويس بحلول 2030.
كذلك المشروع يهدد ريادة مصر في قطاع الكابلات والإنترنت، وهي صاحبة المركز الثاني عالميًا في الكابلات البحرية للإنترنت، وبالتالي فإن المشروع حال تنفيذه وإمداد خطوط إنترنت من الهند إلى أوروبا عبر الدول التي يمر بها فإنه بذلك يسحب البساط من تحت الريادة المصرية.
هذا بخلاف تهديد حلم مصر في أن تصبح مركزًا للطاقة المتجددة في الشرق الأوسط، إذ إن المشروع الحاليّ سيجعل كل من السعودية والإمارات والهند و”إسرائيل” على رأس هذا القطاع إذا ما تم تطوير مشروعات لنقل الهيدروجين الأخضر إلى أوروبا.
التهديدات في مجملها ستؤثر بشكل أو بآخر في إقصاء جيوسياسي لمصر من خريطة الاقتصاد العالمي، حيث تتغير قواعد اللعبة، لتنافس الدول المجاورة القاهرة في القطاعات التي كانت تتميز بها والتي تحفظ لها ثقلها وحضورها الإقليمي والدولي، وهو ما سينعكس بطبيعة الحال على الدور السياسي لمصر في المنطقة.
في ضوء ما سبق، فإنه من السابق لأوانه وضع تقييمات نهائية لهذا الممر الاقتصادي الجديد، الذي لم يُعرف بعد ما إذا كان سيتم تنفيذه أم مجرد أفكار تداعب خيالات أصحابه، لكنه وبعيدًا عن تأثيراته المحتملة المباشرة وغير المباشرة، يمثل جرس إنذار شديد اللهجة، ومؤشر خطير يدفع القاهرة إلى إعادة النظر في سياساتها العامة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتشريعية، ومحاولة سد الثغرات وترميم الشروخ التي تعاني منها وتبعدها عن مزاحمة الكبار اقتصاديًا، حتى لا تجد نفسها إذا ما استمرت في المسار ذاته في عزلة شبه تامة تفاقم الوضع المتدني بطبيعة الحال وتزيد من معاناة الملايين من أبنائها.