منذ الأيام الأولى التي أعقبت انقلاب عبد الفتاح السيسي (وزير الدفاع آنذاك) على أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، محمد مرسي، بدأ دعم خليجي هائل يتدفّق عليه، في صورة منح نقدية وودائع بالبنك المركزي، واستثمارات مباشرة لدعم قطاع السياحة وقناة السويس بالإضافة إلى توفير احتياجات القاهرة من المواد البترولية لسنوات.
المساعدات السعودية التي لا تقل عن 23 مليار دولار حسب الأرقام الرسمية، لم يظهر لها أثر ملموس سواء في الموازنة العامة للدولة أو في الأحوال المعيشية للمواطنين المصريين
ورغم ضخامة هذه المساعدات التي لا تقل عن 23 مليار دولار حسب الأرقام الرسمية، و30 مليار دولار حسب تسريبات مكتب السيسي، و47.5 مليار دولار طبقًا لأرقام غير مدقّقة، فلم يظهر لها أثر ملموس سواء في الموازنة العامة للدولة أو في الأحوال المعيشية للمواطنين، بل حدث العكس تمامًا، فقد تراجع الجنيه المصري إلى مستويات قياسية وزادت معدلات الفقر والبطالة، وارتفعت الأسعار بشكل جنوني، واستمر تراجع احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدلّ على أنها لم تذهب إلى حيث كان يجب أن تذهب.
المملكة العربية السعودية كانت واحدة من أبرز الدول التي دعمت السيسي، حرصًا منها على استمرار علاقتها مع مصر بالشكل الذي كانت عليه في أيام الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، فرغم تراجع أسعار النفط والحرب المكلفة في اليمن، ومسؤوليات أخرى في سوريا وغيرها، فضلًا عن الالتزامات الداخلية الهائلة، وتطبيقها سياسة تقشفية وصفها محللون اقتصاديون بـ”القاسية”، تمثّلت بفرض ضرائب جديدة ورفع رسوم الخدمات المُقَدَّمة لمواطنيها، إلا أنها ظلّت ملتزمة بدعم النظام المصري.
فقد تدفّقت مليارات الدولارات من الرياض إلى القاهرة كهباتٍ لا تُستَرَد، ووجّه الملك سلمان بن عبد العزيز بزيادة الاستثمارات السعودية في مصر لتصل إلى أكثر من 30 مليار ريال سعودي، أي نحو 8 مليارات دولار أمريكي، من خلال صناديق حكومية وسيادية، وذلك بهدف مساعدتها على اجتياز أزمة العملات الصعبة التي تمر بها، فضلًا عن توفير احتياجات مصر من البترول لمدة 5 سنوات، وكذلك دعم حركة النقل في قناة السويس من السفن السعودية.
النظام المصري وللأسف الشديد، لم يقابل هذا الكم من المساعدات التي تُعتَبر الأكبر في تاريخ مصر، وجنّبته انهيارًا اقتصاديًا كان محتومًا، بالجحود فحسب، وإنما انقلب بالضد من المملكة، وأصبح يغرّد في سرب المعسكرات التي تناصب العداء للخليج عمومًا والسعودية خصوصًا، وأضحى سلوك السيسي غير مفهوم حتى لأنصاره.
في الوقت الذي كانت فيه المملكة تكافح مع حلفائها ضد المليشيات الحوثية وحليفها الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح، عملت القاهرة على استقبال مندوبين عن المخلوع
ففي الوقت الذي كانت فيه المملكة تكافح مع حلفائها ضد المليشيات الحوثية وحليفها الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح، عملت القاهرة على استقبال مندوبين عن المخلوع، واستضافت كذلك معرض صور نظّمه الحوثيون عما قيل إنها “مجازر في صفوف المدنيين اليمنيين نتيجة القصف الذي يشنه التحالف الذي تقوده السعودية”.
الأمر الآخر الذي أغضب المملكة كثيرًا هو الهجمة الإعلامية المصرية ضدها، والتي تحظى برضا رسمي، فلا يمر يومٌ دون أن يطلق الإعلاميون المصريون – خصوصًا المقرّبين من السيسي – اتهاماتهم للحكومة السعودية بدعم الإرهاب وتمويله، بالإضافة إلى اتهامها بإشعال الطائفية والنزاعات المسلحة في المنطقة العربية، ورغم مطالبات سفير الرياض في القاهرة أحمد القطان بوقف هذه الهجمة فإن هذه المطالبات قوبلت بآذانٍ صمّاء.
الموقف المصري تجاه بشار الأسد ووقوف مصر إلى جانب روسيا وإيران بالضد من القرار الخليجي في سوريا، كان حاسمًا لعلاقتها مع السعودية، إذ بدأت الانتقادات للمواقف السياسية المصرية تتخذ طابعًا رسميًا، فقد وصف مندوب السعودية الدائم في الأمم المتحدة عبد الله المعلمي، تصويت مصر لصالح مشروع القرار الروسي في مجلس الأمن الدولي بشأن الأزمة السورية، بـ “المؤسف والمؤلم والمهزلة”، وتبع ذلك عتاب الرئيس السابق للديوان الملكي السعودي خالد التويجري، للسيسي، والذي قال فيه: “أسف ما بعده أسف يا فخامة الرئيس أن يحدث ذلك منكم تجاه المملكة بالذات، أنسيتم مواقفنا معكم كأشقاء؟”.
أصبح لا يخفى على أحد برود العلاقات المصرية مع الرياض، وهي نتاج طبيعي لمواقف النظام المصري ممَثّلًا بالسيسي، الذي باتت المملكة تراه شخصيًا، كرهانٍ غير مضمون، فالرجل يزداد انفصالًا عن الواقع يومًا بعد آخر
ومنذ ذلك اليوم، أصبح لا يخفى على أحد برود العلاقات المصرية مع الرياض، وهي نتاج طبيعي لمواقف النظام المصري ممَثّلًا بالسيسي، الذي باتت المملكة تراه شخصيًا، كرهانٍ غير مضمون، فالرجل يزداد انفصالًا عن الواقع يومًا بعد آخر، والخناق العالمي يضيق عليه تدريجيًا، أما في الداخل المصري فقد ارتفعت درجة الغليان الشعبي ضده إلى مستويات غير مسبوقة بسبب فشله في إدارة الدولة والذي أغرق المصريين بمشاكل لا حصر لها.
نعم، نعترف بأن السيسي كان استثمارًا فاشلًا، والاعتراف بذلك خطوة مهمة لكنه لا يكفي، نحتاج تجاوزه أيضًا، وتجاوزه يكون بوقفه، فمن الخطأ ضخ مزيد من الأموال في مشروعٍ فاشلٍ لا أمل إطلاقًا بنجاحه، خصوصًا أن المملكة اليوم تعاني من شح مالي بسبب التكلفة الكبيرة للحرب على جبهتها الجنوبية وانهيار أسعار النفط الذي أجبرها على نهج سياسة تقشفية، في محاولة لتقليص العجز الكبير الذي أصاب ميزانيتها.