يبدو أن جولات الصراع ما بين مؤسسة الرئاسة المصرية وشيخ الأزهر لن تنتهي في القريب العاجل، فرغم التصريحات التي يطلقها عبد الفتاح السيسي ما بين الحين والآخر بشأن علاقته القوية بالدكتور أحمد الطيب، وأن ما يثار بشأن الخلاف بينهما ليست سوى أكاذيب تروجها بعض وسائل الإعلام، فالواقع يقول عكس ذلك تمامًا.
وفي حلقة جديدة من مسلسل الصدام بين الطرفين، أعلن النائب محمد أبو حامد عضو تكتل “دعم مصر” الداعم للنظام الحالي، وصاحبة الأغلبية بمجلس النواب، إعداده لمشروع تعديل قانون تعيين هيئة كبار العلماء بمؤسسة الأزهر، ومن أبرز ملامح هذا التعديل أن يكون تعيين الأعضاء من صلاحيات رئيس الجمهورية وليس شيخ الأزهر كما هو معمول به.
التعديل المقترح المقدم من أبو حامد، يأتي في إطار الرد على قرار الهيئة الأخير بشأن وقوع الطلاق الشفهي والذي جاء عكس رغبة السيسي، وهو ما أشار إليه النائب بقوله إن الهيئة جانبها الصواب في هذا الشأن، ومن ثم كان لا بد أن يكون الرد سريعًا.
لماذا هيئة كبار العلماء؟
المقترح المقدم من النائب الداعم للنظام الحالي يقوم في فلسفته على ضرورة أن تتدخل المؤسسات الدينية المختلفة لترشيح أعضاء هيئة كبار العلماء وإن كان هناك تعيين لأعضائها يكون من خلال رئيس الجمهورية وليس شيخ الأزهر، كما قال في تصريحاته الصحفية.
وضع هيئة كبار العلماء تحت ميكروسكوب الاهتمام في الفترة الأخيرة، وإن جاء ردًا على فتواها بوقوع الطلاق الشفهي غير الموثق، إلا أنه أعاد من جديد الدور المحوري لهذا الكيان الذي غاب دوره لفترات طويلة، لا سيما في ظل الصلاحيات التي منحها له القانون الجديد والتي جاءت في مادته الـ(32) مكرر(1)، ومنها: انتخاب شيخ الأزهر عند خلو منصبه، ترشيح مفتى الجمهورية، البت في المسائل الدينية ذات الطابع الخلافي، والقضايا الاجتماعية التي تواجه العالم الإسلامي والمجتمع المصري على أساس شرعي، بعد أن يقدم مجمع البحوث الإسلامية رأيه في تلك القضايا، البت في النوازل والمسائل المستجدة التي سبقت دراستها ولكن لا ترجيح فيها لرأى معين، دراسة التطورات المهمة في مناهج الدراسة الأزهرية الجامعية أو ما دونها، التي تحيلها الجامعة أو مجمع البحوث أو المجلس الأعلى أو شيخ الأزهر إلى الهيئة.
وضع هيئة كبار العلماء تحت ميكروسكوب الاهتمام في الفترة الأخيرة، وإن جاء ردًا على فتواها بوقوع الطلاق الشفهي غير الموثق، إلا أنه أعاد من جديد الدور المحوري لهذا الكيان الذي غاب دوره لفترات طويلة
إلا أن هذا التعديل المقترح يتضمن مخالفة صريحة للدستور وقانون الأزهر المعدل في 2012 والذي جاء في مادته الـ(32) مكرر(2) أن اختيار أعضاء هيئة كبار العلماء من صلاحيات شيخ الأزهر، وفقًا لعدد من الشروط أبرزها: ألا يقل سنه عن ستين عامًا، أن يكون ملتزمًا بمنهج الأزهر علمًا وسلوكًا، وهو منهج أهل السنة والجماعة الذي تلقته الأمة بالقبول في أصول الدين وفى فروع الفقه بمذاهبه الأربعة، أن يكون حائزًا لشهادة “الدكتوراة” وبلغ درجة الأستاذية في العلوم الشرعية أو اللغوية، أن يكون قد تدرج في تعليمه في المعاهد الأزهرية وكليات جامعة الأزهر.
إقرار هيئة كبار العلماء للطلاق الشفهي أشعلت الصراع بين الأزهر والنظام
شيخ الأزهر.. الهدف
البعض ذهب إلى أن المقترح المقدم بتعديل القانون بما يعطي لرئيس الدولة صلاحية اختيار وتعيين أعضاء هيئة كبار العلماء، إنما الهدف منه هو الضغط على الدكتور أحمد الطيب، خاصة أن قانون الأزهر الجديد سلب من رئيس الجمهورية الحق في تعيين شيخ الأزهر أو عزله من منصبه.
بحسب قانون الأزهر الجديد فإن من يختار شيخ الأزهر هيئة كبار العلماء، وذلك حسبما جاء في نص القانون في مادته الـ(5) والتي تقول: وتختار هيئة كبار العلماء لهذا المنصب ثلاثة من بين أعضائها الذين تتوافر فيهم الشروط المقررة بشأن شيخ الأزهر عن طريق الاقتراع السري في جلسة سرية يحضرها ثلثا عدد أعضائها، ثم تنتخب الهيئة شيخ الأزهر من بين المرشحين الثلاثة في ذات الجلسة بطريق الاقتراع السري المباشر ويصبح شيخًا للأزهر إذا حصل على الأغلبية المطلقة لعدد أصوات الحاضرين.
هذا الرأي يرى أن اختيار أعضاء هيئة كبار العلماء هو الخطوة الأولى نحو الإطاحة بشيخ الأزهر الحالي، إذ إن الرئيس بمقدوره أن يأتي بأعضاء جدد يضمن ولاءهم وتأييدهم، ومن ثم يتولون هم الضغط على أحمد الطيب، ثم بعد ذلك اختيار شيخ أزهر جديد يتماشى وهوى النظام الحاكم.
البعض ذهب إلى أن المقترح المقدم بتعديل القانون بما يعطي لرئيس الدولة صلاحية اختيار وتعيين أعضاء هيئة كبار العلماء، إنما الهدف منه هو الضغط على الطيب
مشايخ السلطان
فريق آخر يرى أن هذا المشروع المقدم ليس من بنات أفكار النائب الذي تقدم بعرضه، بل يأتي في إطار مساعي السلطة الحالية في إعادة إحياء مفهوم “مشايخ السلطان” مرة أخرى، بحيث يكون تعيين واختيار كل رجال الدين وقياداتهم بيد رئيس الدولة وحده دون غيره.
هذا الفريق حذر من خطورة العودة لمثل هذه السياسة مرة أخرى، خاصة أنها تبنى على مخالفة واضحة للمادة السابعة من الدستور والتي تنص على “الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على شؤونه كافة، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية، وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء”.
أنصار هذا الرأي استنكروا أن يتحول الصراع الشخصي بين عبد الفتاح السيسي وأحمد الطيب إلى ساحة للانتقام من أكبر مؤسسة دينية في الدولة، وأن هذه الخطوة حال اتخاذها ستلقي بظلال قاتمة على المشهد العام برمته، خاصة في ظل ما يتمتع به الأزهر ورجاله من مكانة لدى المصريين من جانب، وما تنطوي عليه هذه الخطوة من محاولة لتأميم مؤسسات الدولة لصالح خدمة النظام دون اعتبار لدستور أو قانون من جانب آخر.
فريق يرى أن هذا المشروع المقدم ليس من بنات أفكار النائب الذي تقدم بعرضه، بل يأتي في إطار مساعي السلطة الحالية في إعادة إحياء مفهوم “مشايخ السلطان” مرة أخرى
الدكتور علي جمعة، أبرز من لقبوا بـ”شيوخ السلطان”
السيسي – الطيب.. موجات من المد والجذر
مرت العلاقة بين النظام الحاكم وشيخ الأزهر منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013 بالعديد من موجات المد والجذر، ما بين الصعود والهبوط، بدءًا من حضور الطيب وقائع بيان عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، وحتى الآن، ولم تكن واقعة الطلاق الشفهي سوى محطة واحدة من محطات الصدام التي كان من أهمها:
1- أحداث الحرس الجمهوري
أول مراحل الصدام بين شيخ الأزهر ونظام ما بعد الثالث من يوليو كانت عقب أحداث الحرس الجمهوري في الثامن من يوليو 2013، حين طالب الطيب في تصريحات للتليفزيون الرسمي للدولة فتح تحقيق في الأحداث وتشكيل لجنة للمصالحة الوطنية وإعطاء اللجنة صلاحيات كاملة والإعلان عن جدول للفترة الانتقالية التي لا يجب أن تزيد على ستة أشهر، وإطلاق سراح جميع المعتقلين، ثم أعلن اعتكافه في بيته رفضًا للأجواء التي تفوح منها رائحة الدماء – وفقًا لقوله -.
2- فض اعتصامي رابعة والنهضة
وفي الرابع عشر من أغسطس 2013، وعقب مجزرة فض اعتصامي رابعة العدوية وميدان النهضة، خرج الطيب ببيان سمي حينها بـ”بيان الاعتكاف” قال فيه: وإيضاحًا للحقائق وإبراءً للذمة أمام الله والوطن يعلن الأزهر للمصريين جميعًا أنه لم يكن يعلم بإجراءات فض الاعتصام إلا عن طريق وسائل الإعلام صباح اليوم، مطالبًا بالحل والحوار الجاد للخروج من الأزمة، معقبًا على ذلك بقوله: “لو صدقت النوايا” ثم غاب حينها عن الأنظار متوجهًا إلى موطن مولده مدينة الأقصر(جنوب مصر) معلنًا “اعتكافه”.
3- تكفير تنظيم “داعش”
الصدام الثالث بين الطيب والنظام كان في الحادي عشر من ديسمبر 2014، حين رفض الضغوط التي مورست عليه لإصدار فتوى بتكفير تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وهو ما كان صدمة للمقربين من دوائر صنع القرار المصري حينها، حيث يرى الطيب أن تكفير أي شخص يلزمه أن يخرج من الإيمان وينكر الإيمان بالملائكة وكتب الله من التوراة والإنجيل والقرآن.
4- نقد سياسات النظام
في كلمته خلال المشاركة في مؤتمر أهل السنة والجماعة الذي عقد في الشيشان، في الخامس والعشرين من أغسطس 2016، انتقد الطيب سياسات صندوق النقد الدولي، وما تحمله من بذور الهدم للحكومات والدول الإسلامية، حين قال: “إن العولَمة اتخذت خطُوات تُنذر بخطرٍ محدق، على طريق إفقار العالم الشرقي، ووضع العوائق والعقبات على طريق تقدُّمه، وإحكام السيطرة على مفاصِلِ دُوَلِه وأوطانه، من خلال منظمات عالمية، وبنوك دولية، وقروضٍ مجحفة” وهو ما اعتبره البعض انتقادًا واضحًا لتوجهات وسياسات الدولة التي احتفت حينها بتوقيع الاتفاق على قرض الصندوق.
الطيب خلال كلمته في بيان عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي
وفي المقابل كان رد النظام سريعًا على شيخ الأزهر بسبب مواقفه التي اعتبرها البعض تحديًا واضحًا لتوجهات الدولة في هذا الظرف الاستثنائي الذي تمر به، والذي يتطلب تضافر جميع المؤسسات لدعم الإرادة السياسية بصرف النظر عن دستورية هذا الدعم أو شرعيته القانونية والأخلاقية والمجتمعية، وتمحورت مظاهر الرد الرسمي للسلطة الحاكمة على الطيب في عدة نقاط:
أ- اتهام مناهج الأزهر بالتطرف
الورقة الأولى التي لعب بها النظام للضغط على الأزهر عمومًا وشيخه خصوصًا هي قضية “تجديد الخطاب الديني” والتي حمّل فيها السيسي المناهج الدراسية في الأزهر مسؤولية تخريج أجيال من المتطرفين، وهو ما عزفت عليه آلة الإعلام الداعمة للنظام بصورة كبيرة تجاوزت حد انتقاد المناهج إلى تشويه صورة الأزهر كمؤسسة دينية عريقة.
ب- الخطبة الموحدة
المناهج الأزهرية ليست السلاح الوحيد التي أشهره النظام في وجه الأزهر، فهناك مقترح “الخطبة الموحدة” الذي تقدم به وزير الأوقاف مختار جمعة، وأيدته مؤسسة الرئاسة، مما دفع شيخ الأزهر إلى الاعتراض على هذا المقترح منوهًا أنه يقضي على مسألة الإبداع في الخطابة، فضلاً عن السلبيات الفقهية وأوجه القصور الدعوية المترتبة على توحيد الخطبة، وهو ما أعتبره مقربون من قصر الاتحادية بأنه معارضة أزهرية للسيسي ونظامه، تخدم “أهل الشر” كما يحلو للسيسي أن يصفهم.
الورقة الأولى التي لعب بها النظام للضغط على الأزهر عمومًا وشيخه خصوصًا هي قضية “تجديد الخطاب الديني” والتي حمّل فيها السيسي المناهج الدراسية في الأزهر مسؤولية تخريج أجيال من المتطرفين
ج- تقريب خصوم الطيب
السلاح الثالث الذي استخدمه النظام ضد شيخ الأزهر، تمثل في تقريب خصوم الطيب من مؤسسة الرئاسة على حساب مؤسسة الأزهر ورجالها، فالبداية كانت حين سحب ملف “تجديد الخطاب الديني” من الطيب وأسنده إلى الشيخ أسامة الأزهري مستشار رئيس الدولة للشؤون الدينية، والمعروف عنه خصومته مع قيادات الأزهر، فضلاً عن الاستعانة بالداعية اليمني الحبيب علي الجفري، لإلقاء ندوات ومحاضرات لجنود الجيش المصري، في تحد واضح لشيخ الأزهر، علمًا بأن الجفري صديق مقرب للأزهري.
كذلك دعم مؤسسات الدولة لوزير الأوقاف مختار جمعة، في معاركه الشخصية ضد شيخ الأزهر، والتي كان أبرزها قضية “الخطبة الموحدة” فضلاً عن تمسك النظام بالوزير رغم الإخفاقات المتتالية له ولوزارته، وهو ما دفع البعض للقول إن هذا التمسك ليس إلا نكاية في أحمد الطيب.
وتلخص كلمات السيسي بين مناسبة وأخرى علاقته بشيخ الأزهر، فرغم الإطار الساخر التي تأتي من خلاله فإنها تعكس وبصورة كبيرة موقفه الشخصي من الطيب، منها ما جاء في احتفالات مؤسسة الرئاسة بليلة القدر خلال شهر رمضان الماضي، حيث انتقد السيسي الطيب بشكل خاص وعلماء الأزهر بوجه عام، موجهًا حديثه له قائلاً: “فضيلة الإمام كل ما أشوفه بقول له إنت بتعذبني”، بينما في احتفالات مؤسسة الرئاسة بعيد الشرطة وجه الحديث لشيخ الأزهر قائلاً: “تعبتني يا مولانا”.
مما سبق يتضح أن الصراع على الصلاحيات ما بين السيسي والطيب لن يتوقف عند هذه الجولة، إذ أن هناك عددًا من السيناريوهات المتوقعة لمستقبل العلاقة بينهما، أبرزها أن يرضخ الشيخ لإملاءات الرئيس، أو أن يرتفع منسوب الصدام إلى آفاق جديدة.. هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة.