في عام 1979، طلب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات من النرويج أن تتوسط لتوفير قناة اتصال سرية مع الإسرائيليين، إلا أن “إسرائيل” لم تبدِ في ذلك الوقت اهتمامًا للتواصل المباشر مع عرفات أو مع المنظمة، حيث كان الاهتمام منصبًّا على جبهات أخرى.
بعد ذلك بعدة سنوات، استضافت العاصمة الإسبانية مدريد مؤتمرًا للسلام عُقد في الفترة من 30 أكتوبر/ تشرين الأول حتى 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 1991 في مدريد، شاركت في رعايته الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وكان محاولة من جانب المجتمع الدولي لإحياء عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية من خلال المفاوضات، التي تشمل “إسرائيل” والفلسطينيين وكذلك البلدان العربية، بما فيها الأردن ولبنان وسوريا.
وفي 3 نوفمبر/ تشرين الثاني، أعقب المؤتمر مفاوضات ثنائية بين “إسرائيل” والوفد الأردني الفلسطيني المشترك ولبنان وسوريا على التوالي، وعُقدت اجتماعات ثنائية لاحقة في واشنطن في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1991، وفي 28 يناير/ كانون الثاني 1992، لينتهي كل ذلك في النهاية باتفاقية أوسلو التي وُقّعت بواشنطن في 13 سبتمبر/ أيلول 1993.
كل ذلك حوّل حملة السلاح في بيروت والأردن وفلسطين وتونس إلى جنود لاتفاقية سلام واهية، جعلتهم وكلاء أمنيين لحماية الاحتلال الإسرائيلي عبر بوابة التنسيق الأمني في الضفة الغربية المحتلة فقط، بل أصبحوا وكيلًا للاحتلال في المنطقة العربية للترويج للتطبيع.
وبعد هذه الاتفاقية، مرّت السلطة الفلسطينية بمراحل مواجهة شعبية وفصائلية، كان عنوانها الأبرز رفض التنسيق الأمني الذي التزمت به السلطة بموجب الاتفاقيات التي أُبرمت، سواء في أوسلو أو طابا أو غيرها من المعاهدات الأمنية التي التزمت بها المنظمة.
وجرّدت هذه المعاهدات السلطة من تاريخها الكفاحي والنضالي الذي شهدت عليه عواصم بيروت وتونس ومعركة الكرامة وغيرها من المناطق، لا سيما بعد تكرار حوادث القتل والاعتقال السياسي التي تتابعت منذ عام 1993 وحتى الآن، دون أن تتمكن من الخروج من هذا المأزق.
كانوا وكلاء أمنيين.. وما زالوا
نصت اتفاقية أوسلو على إقامة سلطة حكم ذاتي فلسطينية في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة لفترة انتقالية لا تتعدى الـ 5 سنوات، تنتهي بتسوية دائمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين على مبدأ حل الدولتَين: دولة فلسطين على حدود عام 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة.
غير أن ذلك لم يتحقق، إذ تنصّل الاحتلال من هذا الأمر، فأُلزمت السلطة باتفاق أوسلو واتفاق طابا عام 1995، اللذين نصّا بشكل واضح على محاربة ما يعرَف بالإرهاب، في إشارة إلى المقاومة الفلسطينية، وجعلها في مواجهة شعبية ورسمية مع الفصائل حينما يتطلب الأمر ذلك.
وبموجب اتفاقية أوسلو وما أعقبها من تغيير بند الكفاح المسلح ضد الاحتلال في رؤية منظمة التحرير، بدأت السلطة الفلسطينية بتنسيق عسكري مع الاحتلال، أعلنت عنه قيادات السلطة صراحة أكثر من مرة بأنها لن تسمح بقيام العمليات الفدائية في الضفة الغربية.
وفي ظل تصاعد العمليات الفدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي، بدأت منظمة التحرير الفلسطينية، وتعبيرًا عن حسن نيتها بالالتزام بنصوص اتفاق أوسلو، بتوظيف كامل مخابراتها وعملائها الميدانيين للإيقاع بالمقاومين الفلسطينيين، ورصد تحرُّكاتهم، وجمع المعلومات، وتقديمها على طبق من ذهب للمخابرات الإسرائيلية، حتى تحيك الأخيرة كمائنها لاعتقال أو اغتيال الفدائي الفلسطيني.
بعد وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عام 2004، وتولي محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية وقيادة حركة فتح، عاد استئناف الاتصالات بين السلطة والاحتلال، وأبرمت السلطة اتفاقًا عام 2005 بينها وبين إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، وحكومة رئيس وزراء الاحتلال حينها أرئيل شارون، لتشكيل فريق التنسيق الأمني الأمريكي بقيادة الجنرال كيث دايتون، للعمل على تجهيز القوات الأمنية الفلسطينية والإشراف على التنسيق الأمني بين الطرفَين.
ولم يقتصر التنسيق الأمني على ما بعد وقوع العمليات الفدائية فحسب وملاحقة المقاومين، بل عملت السلطة منذ قدومها على إحباط أي عمل مقاوِم، وتتبُّع الشباب الفلسطيني ومراقبته، واعتقال كل من تستلهبه الروح الثورية لتلبية النضال ضد الاحتلال.
في الوقت ذاته، ورغم كل الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، تشبّث الرئيس الحالي للسلطة، محمود عباس، بالاتفاقيات والمعاهدات، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حين وُصف التنسيق الأمني بـ”المقدس”، وأنه سيبقى كذلك رافضًا كل الاتهامات التي توجَّه إليه من الفصائل.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتدَّ لتشهد الفترة الحالية من عام 2021 حتى عام 2023 ارتفاعًا غير مسبوق في أعداد المعتقلين السياسيين، على خلفية المقاومة أو المعارضة السياسية للسلطة، حيث وُثقت مئات حالات الاعتقال السياسي، لعلّ من أبرزهم مصعب اشتية وجهاد ملايشة وغيرهما من المطاردين من قبل الاحتلال.
لكن المثير ما كشفته وسائل إعلام إسرائيلية مؤخرًا عن موافقة إسرائيلية وأمريكية وأردنية على نقل شحنة أسلحة إلى الأجهزة الأمنية الفلسطينية، شريطة أن يتم استخدامها فقط ضد مطاردين ومقاومين من حماس والجهاد وليس ضد المجرمين، في إطار التفاهمات التي شهدتها لقاءات العقبة وشرم الشيخ من العام الجاري.
ووفق إذاعة الجيش الإسرائيلي، فإن شحنة الأسلحة شملت 1500 قطعة بينها بنادق إم-16 موجّهة بالليزر، وصلت من الولايات المتحدة الأمريكية عبر الأردن بموافقة الاحتلال، إلى جانب معدّات تجسُّس تسلمتها السلطة لخدمة جهازَي الأمن الوقائي والمخابرات في مواجهة المقاومة بالضفة.
أضحوا وكلاء تطبيع
في عام 2020 رفضت السلطة الفلسطينية عبر رئيسها والتيار المحسوب عليه اتفاقيات أبراهام، ووصفتها باتفاقيات تطعن القضية الفلسطينية وتساهم في تطبيق صفقة القرن التي سعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تمريرها، إلا أن ذلك لم يتحقق بشكل علني.
ولم تعلق السلطة الفلسطينية رسميًّا على التطبيع المغربي الإسرائيلي نهاية عام 2022، وهو ما فُهم حينها من أن السلطة تريد أن تغير في استراتيجيتها، ولا تريد أن تكرر موقفها إزاء الإمارات، وتكرر الأمر لاحقًا مع عودة قوية للعلاقات الإسرائيلية التركية، حين صرح وزير الخارجية التركي أن السلطة لا تمانع تطبيع بلاده مع “إسرائيل”.
وفي عام 2021 شاركت مع “إسرائيل” في منظمة الغاز، والتي اُعتبرت فلسطينيًّا أن المشاركة لا تشرعن الاحتلال فقط، بل تقوض حقوق الفلسطينيين في مواردهم الطبيعية التي يقوم الاحتلال بنهبها ومنعهم من استغلالها، وتقدم هذه المشاركة، كما ترى حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، غطاء فلسطينيًّا لتعميق العلاقات التطبيعية الإسرائيلية مع أنظمة عربية، ولتأسيس تحالفات عسكرية تكون “إسرائيل” في محورها مع دول أوروبية ومع نظام الإمارات العربية المتحدة.
ومع صعود ملف التطبيع السعودي إلى الواجهة، شهد سبتمبر/ أيلول 2023 مشاركة السلطة الفلسطينية في لقاءات مع وفد أمريكي، لمناقشة خطة التطبيع السعودية مع الاحتلال الإسرائيلي، بحضور مساعدة وزير الخارجية الأمريكية باربرا ليف، وشخصيات فلسطينية من ضمنها وزير الشؤون المدنية حسين الشيخ، وماجد فرج رئيس جهاز المخابرات العامة، ومجدي الخالدي مستشار الرئيس عباس.
وتتمحور هذه اللقاءات في موافقة السلطة على المشاركة بصفقة تضمن موافقتها وعدم معارضتها للتطبيع السعودي مع الاحتلال، مقابل أن تحصل على عدد من الأمور، من ضمنها فتح السفارة الأمريكية في القدس، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وكذلك دعم السلطة ماليًّا وإخراجها من أزمتها الحالية.
أعقب ذلك توجُّه بريت ماكغورك، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي بايدن لشؤون الشرق الأوسط، إلى السعودية للقاء وفد فلسطيني يضمّ حسين الشيخ وماجد فرج ومجدي الخالدي، لمناقشة مشاركة فلسطين في الصفقة الضخمة المحتملة بين الولايات المتحدة والسعودية والاحتلال.
ويكتسب دور السلطة كممثل معترف به دوليًّا للشعب الفلسطيني أهمية خاصة الآن، حيث تعمل الولايات المتحدة على التوسط في اتفاق تطبيع بين “إسرائيل” والسعودية، وقد أعطى الرئيس محمود عباس للسعوديين قائمة التنازلات من “إسرائيل”، التي يريد أن تكون جزءًا من أي اتفاق دبلوماسي.