في نوفمبر العام الماضي، وقعت شركة توتال الفرنسية اتفاقًا مبدئيًا لتطوير حقل غاز بارس الجنوبي بقيمة ملياري دولار أمريكي، ولكن ما لبثت أن أبدت الشركة في شهر فبراير من العام الحالي إشارات تفيد احتمالية انسحابها من الاتفاق لأسباب سياسية، على أن تقرر نهائيًا خلال الشهرين القادمين.
حينما وقعت توتال على الاتفاق لم تبد آنذاك اهتمامًا بصعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فيما تراجعت شركات أخرى عن الدخول إلى السوق الإيرانية خشية إعادة فرض عقوبات، واليوم لا تقتصر المخاوف على قطاع النفط فقط، بل تشمل مخاوف الشركات الدولية إجراء تعاملات في قطاعات حيوية أخرى يعد قطاع النقل الجوي أهمها بعد رفع العقوبات، إذ تتطلع طهران للتحول إلى مركز ترانزيت إقليمي على غرار دبي والدوحة، وليس هذا الطموح وليد اليوم، بل يعود إلى سبعينيات القرن الماضي.
تأسست شركة الخطوط الإيرانية، وهي أول شركة طيران إيرانية، في ديسمبر عام 1944 على يد مجموعة من رجال الأعمال الإيرانيين، وحصلت الشركة طائراتها الأولى في مارس من العام التالي، بدأت الشركة رحلاتها في داخل إيران من طهران إلى مشهد وإصفهان وشيراز وبوشهر والأحواز ومناطق أخرى، وانطلقت الرحلات الخارجية إلى القاهرة وبغداد وبيروت في صيف عام 1946، ومع توسع هجرة اليهود في المنطقة إلى الدولة الإسرائيلية، التي كانت في طور التأسيس آنذاك، بدأت الشركة في تسيير رحلات إلى تل أبيب.
يجب قراءة الطموح الإيراني في مجال الملاحة الجوية للتحول إلى مركز ترانزيت إقليمي في سياق جيو اقتصادي أكبرمية
ثم شملت رحلاتها الخارجية أثينا وباريس في أبريل من العام التالي، وتوسعت رحلات الشركة لتشمل العديد من العواصم الإقليمية في منطقة الخليج، لاحقًا، تأسست شركة طيران خاصة أخرى في عام 1954 باسم “الخدمة الجوية الفارسية” تخصصت في الشحن الجوي.
بعد أقل من عقدين من تأسيس أول شركة طيران إيرانية خاصة، تم دمج شركتي الطيران وتأسيس “شركة الطيران الإيرانية المتحدة” في عام 1961 ليتقرر في العام التالي تأميمها تحت مسمى “الخطوط الوطنية الإيرانية” (هوما)، وخلال السنوات التالية، استطاعت الشركة اكتساب سمعة وثقة في مجال الملاحة الجوية العالمية، ففي عام 1970، تولى المدير الإدارى للشركة علي محمد خادمي، رئاسة الاتحاد الدولي للنقل الجوي IATA.
إعلانات للخطوط الوطنية الإيرانية (1971- 76)
بحلول عام 1978، كانت الخطوط الوطنية الإيرانية تسير رحلات إلى 35 موقعًا دوليًا، لم يخدم فقط افتتاح مجموعة من المكاتب الخارجية التي افتتحتها في عواصم مختلفة صعود الشركة، بل كان لانخراط الخطوط في نشاطات اقتصادية تكميلية في القطاع الخدمي كالفنادق دورًا في ذلك، حيث أسست الشركة مجموعة هوما الفندقية التي افتتحت سلسلة من الفنادق في طهران وشيراز ومشهد وغيرها من المدن بهدف خدمة المسافرين.
ولد آنذاك حلم تحويل إيران إلى مركز ترانزيت إقليمي، إذ لم يكن تطور خطوط الطيران الإيرانية والبنية التحتية عنصر قوة فقط، بل موقع إيران الجغرافي الذي يتوسط أوروبا وشرق آسيا يؤهلها للعب هذا الدور، ولكن مع فرض الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات تحظر بيع الطائرات الأمريكية إلى إيران بعد الثورة الإسلامية والدخول في حرب مع العراق استنزفت القدرات المالية لإيران، تلاشى هذا الحلم مع فقدان إيران لميزة الاستقرار الأمني آنذاك.
بعد نجاح الثورة الإسلامية، أعادت طهران تغيير مسمى شركة الطيران إلى خطوط الجمهورية الإسلامية الإيرانية كما أنها دمجت كل الشركات الخاصة وأممتها تحت اسم آسمان إير، كانت التغييرات التي أجراها النظام الجديد أشمل من مجرد تغيير اسم الشركة (رغم أهميته الرمزية)، إذ تمت إعادة هيكلة الشركة وتطهيرها من عدد معتبر من الموظفين الذين رأتهم السلطة الجديدة موالين للنظام الشاهنشاهي، وبعد الثورة، أصبح مطار مهرباد، مطار طهران الدولي، هو المطار الدولي الوحيد بعد أن فقدت بقية المطارات الإيرانية صفتها الدولية.
تواجه إيران منافسة إقليمية شرسة، خاصة من قبل شركات الطيران الإماراتية والقطرية اللتين تهيمنان على السوق الإقليمي بفضل سعة مطارات البلدين والكفاءة الإدارية العالية التي تتمتع بها الخطوط
في ورقة له بعنوان “مراجعة عن قطاع الملاحة الجوية الإيرانية: ضحية العقوبات أم بفعل سوء الإدارة“، يرد الباحث الإيراني علي دادباي في ذلك بشكل محتمل إلى رغبة السلطات الإيرانية في التحكم بجميع المنافذ بشكل تام، يمكن فهم أسباب أمننة قطاع الملاحة الجوية آنذاك بالعودة إلى محاولة الانقلاب الفاشلة التي قامت بها مجموعة من ضباط القوات الجوية ضد النظام الإسلامي في يوليو عام 1980.
في سياق مرحلة إعادة البناء ولبرلة الاقتصاد، كان أواخر عقد الثمنينيات والتسعينيات إبان رئاسة هاشمي رفسنجاني هو عقد الانفراجة بالنسبة لقطاع الطيران في إيران مع عدم قدرة الخطين الحكوميين على خدمة العدد المتزايد من المسافرين آنذاك إذ شهد تأسيس عددًا من شركات الطيران الخاصة مثل كيش إير وسفيران إير وماهان إير (المشهورة إعلاميًا بعلاقتها بالحرس الثوري الإيراني).
فمنذ عام 1988 تأسست على الأقل 30 شركة طيران إيرانية خاصة، كما استعادت بعض المطارات صفة العالمية مثل مطارات تبريز وشيراز وإصفهان ومشهد وكيش، ولكن وفقًا لدادباي، إذا كان عقد الثمانينيات عقد التضييق والسيطرة بالنسبة لقطاع الملاحة الجوية في إيران، فإن التوسع الذي جاء في عقد التسعينيات كان له ثمن، فمع استمرار العقوبات الأمريكية، اشترت شركات الطيران الخاصة طائرات روسية وأوكرانية الصنع، وتسببت هذه الطائرات في عدد كبير من الحوادث حتى أصبحت طائرة التبوليف الروسية بحسب تعبير الباحث مرادفًا لعدم الأمان الجوي في إيران.
عدد المسافرين على الخطوط الإيرانية من عام 1970 وحتى 2015 (الوحدة القياسية: مليون) المصدر: ذا جلوبال ايكونومي
على الرغم من تعقد إجراءات رفع العقوبات، فتح الاتفاق النووي باب الأمل من جديد لطهران لتجدد أسطولها الجوي المتهالك حتى تسير في خطط التحول إلى مركز ترانزيت إقليمي، وقعت طهران في ديسمبر العام الماضي اتفاقين مع شركتي بوينج الأمريكية وإيرباص الأوروبية للحصول من الأولى على 80 طائرة ركاب و100 طائرة من الشركة الثانية، وفي فبراير من العام الحالي وقعت طهران على صفقة مع شركة أي تير أر الإيطالية – الفرنسية.
وتتفاوض شركة آسمان إير الإيرانية على شراء 100 محرك من رولز رويس، ووصل مجموع طائرات الركاب التي وقعت على اتفاقات للحصول عليها إلى 200 طائرة، ناهيك عن مفاوضات تجريها لتأجير طائرات من عده شركات طيران عملاقة.
فيما وقعت الشركات الغربية العملاقة السابق ذكرها هذه الصفقات في أواخر العام الماضي، لا يبدو أن جميع شركات تصنيع الطيران الدولية مقبلة على بيع الطائرات لإيران الآن، ففي شهر فبراير من العام الحالي، أجلت شركة ميتسوبيشي اليابانية بيع 20 طائرة لإيران حتى تتضح ملامح السياسة الأمريكية تجاهها بصورة أكبر.
في مقابل حالة عدم اليقين التي لا زالت تخيم على الصفقات التي أبرمتها طهران لتحديث أسطولها الجوي، تمضي إيران قدمًا في طريق تحديث مطاراتها، فوفقًا لتقرير لصحيفة وول ستريت جورنال نُشر في أكتوبر العام الماضي، بدأت طهران مفاوضات مع مؤسستي بويغ وإيربورت دي باريس اللتين تديران مطاري أورلي وتشارل دي غول في فرنسا لتحديث وتوسعة مطار الإمام الخميني الدولي (طهران) وشركة فينشي إس أي الفرنسية لتطوير مطار مشهد الدولي.
كما شرعت طهران أيضًا في تطوير الفنادق الخاصة بمطاراتها بمساعدة شركات دولية، وتستهدف طهران توسعة مطار الإمام الخميني بحيث تصل طاقته الاستيعابية السنوية إلى 45 مليون مسافر من 6 مليون مسافر في الوقت الحالي، إذ يتوقع الاتحاد الدولي للنقل الجوي ارتفاع عدد المسافرين في السوق الإيرانية من 12 مليون مسافر حاليًا إلى 44 مليون مسافر بحلول عام 2034، ولكن وفقًا لتقرير نشرته وكالة رويترز عن هذا الملف في فبراير العام الماضي، لا تزال تحتاج إيران إلى التركيز على سوقها المحلية قبل التحرك للتحول إلى مركز ترانزيت إقليمي.
تواجه إيران منافسة إقليمية شرسة، خاصة من قبل شركات الطيران الإماراتية والقطرية اللتين تهيمنان على السوق الإقليمية بفضل سعة مطارات البلدين والكفاءة الإدارية العالية التي تتمتع بها الخطوط، حيث تصل سعة مطار دبي إلى 90 مليون مسافر سنويًا ويليه مطار حمد الدولي في الدوحة الذي تصل سعته إلى 30 مليون مسافر سنويًا.
تأسست شركة الخطوط الإيرانية، وهي أول شركة طيران إيرانية، في ديسمبر عام 1944 على يد مجموعة من رجال الأعمال الإيرانيين
ولكن ترى دورية إيرلاين ليدر في تقرير لها أن الإمكانات الإيرانية التي تتمثل في موقعها الجغرافي وتعدادها السكاني وتكتلات المهجر والقوة العاملة المدربة ذات الخبرة تمكنها من منافسة الخطوط الخليجية خاصة السعودية، ولكن حتى السعودية، وإن لم يتمتع قطاع الطيران فيها بقوة نظيريه الإماراتي والقطري، فإن تراجع أسعار النفط ومساعي تنويع الاقتصاد تدفع الرياض إلى خصخصته من أجل رفع كفاءته، وسيؤدي دخول إيران إلى السوق الإقليمية من جديد إلى تحقيق قدر أكبر من المنافسة الصحية كما أنه سيؤدي على الأرجح إلى ضغوط على الأسعار مع تباطؤ النمو العالمي.
يجب قراءة الطموح الإيراني في مجال الملاحة الجوية للتحول إلى مركز ترانزيت إقليمي في سياق جيو اقتصادي أكبر، فإيران تحاول مركزة ذاتها في شبكات النقل العالمية، وتلعب دورًا مركزيًا في طريق الحرير الصيني الجديد New Silk road الذي يمتد من الصين وحتى أوروبا الغربية وممر الشمال – الجنوب الذي يربط الهند بروسيا وغرب أوروبا من خلال ميناء شهبار الإيراني وكذلك خطوط السكك الحديدية التي تربط إيران بتركمانستان وكازاخستان في آسيا الوسطى، ولكن ستقرر مسارات العلاقات بين طهران وواشنطن ما إذا ستتمكن طهران من تطوير بنيتها التحتية بشكل جدي أم لا من أجل تنمية هذه المشروعات.