خلف الإعصار الذي ضرب مدينة درنة شرق ليبيا والأحياء القريبة منها فجر الأحد 10 سبتمبر/أيلول 2023 المعروف بـ”إعصار دانيال” أكثر من 5300 قتيل، فيما لا يزال هناك نحو 10 آلاف في عداد المفقودين، وسط توقعات بزيادة عدد الضحايا أضعاف المعلن حتى الآن بحسب مسؤولين رسميين.
صور ومشاهد مؤلمة تناقلتها منصات التواصل الاجتماعي لتلك الفاجعة التي أزالت أحياءً بأكملها من على الخريطة الليبية، وطوت الأرض بعشرات البنايات الشاهقة، كما أخفت من فوق البسيطة شوارع رئيسية كانت تعج بالسكان ليل نهار، فيما يحبس الجميع أنفاسه بعد إعلان درنة منطقة منكوبة.
ولم تسعف الجهود المبذولة لحشد المساعدات الإنسانية في إيقاف البحر عن إلقائه بعشرات الجثث بين الساعة والأخرى، بعضها شُوه بالكامل والأخرى يتم التعرف عليها عبر تحليل الحمض النووي، فيما تتطاير النعوش الحاملة لجثث القتلى إلى بلدانهم الأصلية، ومن لم يتم الكشف عن هويته يُدفن في مقابر جماعية في درنة.
لحظة إنهيار السدود ودخول المياه إلى شوارع مدينة #درنه
pic.twitter.com/yD9GXJaLnQ
— Dr.Sam Youssef Ph.D.,M.Sc.,DPT. (@drhossamsamy65) September 12, 2023
رغم قسوة الإعصار وشدته، فإن ما فاقم الكارثة وزاد من أرقام الضحايا إلى هذا العدد الذي يتوقع أن يتجاوز 20 ألف في غضون أيام، تلك الحالة المزرية التي تعاني منها أحياء درنة وبنيتها التحتية الهشة وتردي الخدمات الصحية وتواضع إستراتيجيات التعامل مع مثل تلك الأزمات من السلطات الحاكمة التي كرست كل جهودها للعمليات العسكرية والهيمنة على السلطة فيما تجاهلت حياة المدنيين، ليدفعوا ثمن الفساد الذي نخر في جسد الدولة، فهوى بها إلى هذا المستنقع.
ومما يعزز الصورة بشكل أوضح، ويكشف دور الفساد في زيادة رقعة الكارثة، أفقيًا ورأسيًا، أن الإعصار الذي ضرب اليونان وتركيا وبلغاريا قبل وصوله إلى الشرق الليبي أسفر عن سقوط 27 قتيلًا في البلدان الثلاث مجتمعة، أي قرابة نصف بالمائة من الحصيلة الأولية لضحايا درنة المتوقع بلوغهم 4 أضعاف هذا الرقم.
رغم الإنكار.. بنية تحتية هشة
يقول مدير مكتب الإعلام بوزارة الداخلية الليبية في شرق ليبيا، الرائد محمد أبو لموشة، إن البنية التحتية لمدينة درنة جيدة وأنها استطاعت الصمود لفترة مناسبة أمام الإعصار، محملًا الموقع الجغرافي للمدينة مسؤولية تفاقم الوضع، مضيفًا في تصريحاته لـ“الحرة“: “درنة مدينة ساحلية وتقع في موقع منخفض جغرافيًا”، وأن “هذه المنطقة منخفضة جدًا ومحاطة بالجبال، ونتيجة الأمطار الغزيرة والسيول انجرفت الكثير من المنازل”.
وردًا على تلك التصريحات خرج الكثير من المراقبين والمسؤولين ليؤكدوا أن هشاشة البنية التحتية السبب الأبرز وراء وصول الأزمة إلى مرحلة المأساة، وأنه لولا ما تعاني منه من إهمال وفساد لما وصل عدد الضحايا إلى ما وصل إليه حاليًّا، كما جاء على لسان المتحدث باسم جهاز الإسعاف الليبي أسامة علي، الذي قال: “عدم صيانة السدّين في درنة كان له تأثير واضح في حدوث الفيضانات”.
https://twitter.com/muatez2015/status/1702262866668122178
ويقع في درنة سدان، سد أبو منصور شمالًا وسد البلاد جنوبًا، ويبلغ ارتفاع السدين قرابة 40 مترًا، غير أنهما طيلة السنوات الماضية لم يشهدا أي ترميمات أو تطوير، ليتركا على تلك الحالة المزرية، ما سهل هدمهما سريعًا أمام إعصار “دانيال” الذي لم يجد أي صعوبة مطلقًا في الإطاحة بهما في أقل من ساعة.
وكانت درنة قد تعرضت لسلسة من الفيضانات منذ خمسينيات القرن الماضي، أبرزها في أعوام 1941 و1959 و1968، ومع ذلك لم تتعرض للانهيار كما حدث اليوم، حيث أولت الحكومات حينها رعاية فائقة بسدود المدينة وترميمها بين الحين والآخر، كذلك متابعتها وتطوير سعتها التخزينية.
لكن على مدار السنوات الماضية أهملت بشكل كبير، فكانت النتيجة أن تهاوت سريعًا مع أول فيضان قوي، ليرتفع عدد الضحايا من بضعة عشرات إلى آلاف قابلة للزيادة، وذلك بعدما تسبب انهيار السدين في زيادة قوة الإعصار، ما أطاح بعقارات شاهقة بسكانها وأحياء بأكملها من فوق سطح الأرض.
وفي ورقة بحثية نشرت قبل عام حذر عالم الهيدرولوجيا عبد الونيس عاشور، الأستاذ بجامعة عمر المختار الليبية، من خطورة الفيضانات على درنة بسبب سوء بنيتها التحتية وتردي مستوى سدودها وعدم الاهتمام بها وتجاهل صيانتها الدورية، وأشارت الورقة إلى أنه: “إذا حدث فيضان هائل فإن النتيجة ستكون كارثية على سكان الوادي والمدينة”.
وتشير الخبيرة بالطقس والتغير المناخي، شادن دياب، إلى أن المناطق المعرضة للفيضانات وسقوط الأمطار مثل وادي درنة لا بد أن تكون مجهزة ببنية تحتية قوية، تتحمل أي هزات من هذا الشكل، كما لا بد أن تكون مهيأة لتصريف مياه الأمطار، وهو ما لم يحدث في الشرق الليبي، وبالتالي أصبحت المنطقة منكوبة والتداعيات كارثية.
تآكل القطاع الصحي.. والسككي كذلك
الفاجعة عرت بشكل كبير منظومة الخدمات الصحية المتدنية، وأسقطت القناع عما تعانيه من تآكل وإهمال كان له كلمته في تفاقم الأزمة وزيادة أعداد الضحايا، فدرنة التي تعد ثالث أكبر مدينة في الشرق الليبي لا يوجد بها إلا 3 مؤسسات صحية حكومية فقط، هي: مستشفى الهريش ومستشفى الوحدة التعليمي الجامعي ومستوصف شيحا.
وتخدم تلك المؤسسات الثلاثة أكثر من 100 ألف شخص هم سكان المدينة، فضلًا عن العمالة الوافدة إليها من البلدان الأخرى، حيث تعد درنة معقل لآلاف الوافدين، وحتى موعد الإعصار كانت مؤسستان من بين الثلاثة خارج نطاق الخدمة تقريبًا، فمستشفى الهريش المتوقفة عن العمل منذ 2019 بسبب أعمال الصيانة ومستشفى الوحدة كذلك التي كانت تعمل بقدرة لا تتجاوز 10% من إمكاناتها، ليتبقى مستوصف واحد فقط وهو مستوصف شيحا الذي يعمل بكامل قوته رغم إمكاناته المتواضعة، فهو غير مجهز بالمرة للتعامل مع مثل تلك الأعداد الكبيرة من الجرحى والضحايا، وفق تصريحات صحفية للمسؤول بمكتب الصحة ببلدية درنة أشرف الحصادي.
https://twitter.com/BouchraSahrane/status/1702238500462932118
ويشير المسؤول الصحي إلى أن إجمالي الأطقم الطبية العاملة في درنة وقت الفيضان كان لا يتجاوز 8 أطباء و7 مساعدين فقط، وهو ما دفع العشرات من المتطوعين للانضمام إليهم، إلا أن نقص الأدوية والمستلزمات الطبية أدى في النهاية إلى تواضع الخدمات المقدمة، ليقتصر عمل معظم الأطقم على تأكيد حالات الوفاة أو تقديم بعض الخدمات الصحية الأولية، بحسب شهادة أحد المسعفين.
وفي السياق ذاته، تعاني شبكة الطرق في درنة من أوضاع مأساوية، فمعظمها غير ممهد، حتى الرئيسية منها، ومع الساعات الأولى من الإعصار لم يكن في المدينة سوى طريق واحد فقط، ومهدد هو الآخر بالانهيار، لتصبح درنة شبه معزولة تمامًا عن المدن المحيطة بها، وهو ما أدى إلى صعوبة التنقل منها وإليها، سواء نقل المصابين للعلاج خارجها أم تزويدها بالمساعدات والإغاثات العاجلة، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على أعداد الضحايا.
الإنفاق العسكري.. ازدواجية فجة
في الوقت الذي تتجاهل فيه السلطات الحاكمة للمنطقة الشرقية بقيادة الجنرال خليفة حفتر وميليشياته خدمات البنية التحتية والأوضاع المعيشية ومنظومة الصحة وشبكة الطرق والخدمات العامة لسكان المنطقة، ويُغلق صنبور الدعم عن معظم مدن الشرق، إذ بالخزائن تفتح على مصراعيها أمام الإنفاق العسكري والتسليح.
وبدلًا من توجيه المليارات لدعم وصيانة السدود رغم التحذيرات، وتحسين المستشفيات في ظل الشكاوى المتعددة، كانت العمليات العسكرية هي الشغل الشاغل لحفتر الذي حول مدن الشرق إلى ثكنة عسكرية لخدمة طموحاته السياسية والهيمنة على السلطة، حتى لو كان الثمن الإطاحة بالحياة المدنية في المنطقة.
ووفق البيانات الأمريكية فإن حجم الإنفاق العسكري في ليبيا عام 2022 بلغ قرابة 4 مليارات دولار، متفوقًا على تونس (1.1 مليار دولار) والأردن (ملياري دولار) والسودان (287 مليون دولار) وإريتريا (100 مليون دولار)، وقد ساهم انقسام المؤسسة العسكرية بين الشرق والغرب في تشتت موازنة الدفاع بين المعسكرين وزيادة حجمها.
الفساد كلمة السر
تكشف تلك الازدواجية بين الاهتمام بالتسليح والعمل العسكري مقارنة بخدمات البنية التحتية ومشتقاتها واقع الفساد الذي تحياه ليبيا، لا سيما في المنطقة الشرقية، بحكم احتضانها للكارثة الحاليّة، حيث كشفت مجلة “جون أفريك” المقربة من الاستخبارات الفرنسية، في تقرير لها في أبريل/نيسان 2022 عن إحكام حفتر وميليشياته سيطرتهم على أجزاء كبيرة من البلدان بالعصا والنار وإسكات كل الأصوات المعارضة التي تندد بفساده وتطالب بتجفيف منابعه.
المجلة نقلت عن عدد من الضباط الليبيين وفق فريق منظمة العفو الدولية الذي التقى بهم في شباط/فبراير 2022، تعرضهم للخطف والاحتجاز بسبب تباين وجهات النظر مع الحليف الأقرب لحفتر، رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، واستنكارهم للمستوى الذي وصل إليه الفساد، وفقًا للمجلة الفرنسية.
الأهالي أرادوا إخلاء مساكنهم قبل ساعات من وصول الإعصار لكن قوات #حفتر منعتهم وطالبتهم بالبقاء فكانت الكارثة مرعبة.. شهادة عميدة مدينة #درنة تورط خليفة حفتر في التسبب بكارثة غير مسبوقة تشهدها المدينة#ليبيا pic.twitter.com/PEXfIRkFVX
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) September 13, 2023
وفي سبتمبر/أيلول 2021 نشرت الكاتبة الصحفية فرات علوان مقالًا تحت عنوان “شرق ليبيا.. بين فساد حاشية حفتر والقيود الحكومية” كشفت فيه عن تورط نجل حفتر (صدام) في تهريب الذهب إلى الإمارات وتركيا عبر طائرة خاصة لوالده، حسبما ذكرت إذاعة فرنسا الدولية التي أفادت أن أقارب حفتر دومًا ما يستخدمون تلك الطائرة في عمليات الاتجار وغسل الأموال.
وتنديدًا بهذا الفساد الذي خيم على الأجواء في مدن الشرق الليبي وزاد من تدني المستوى المعيشي للسكان، تظاهر شبان ليبيون في طرابلس ودرنة وغيرها من المدن في أغسطس/آب 2020، رافعين لافتات وشعارات تطالب بالتصدي لهذا الفساد ومحاسبة المسؤولين عنه في القطاع العام والنظر بعين الاعتبار للبنية التحتية لمدن الشرق أسوة بالاهتمام الخاص بالتسليح والعمليات العسكرية.
وكانت حكومة الوفاق الوطني “المعترف بها دوليًا” قد كشفت في يونيو/حزيران 2020 عن وثيقتين تثبتان وقائع فساد مالي للجنرال خليفة حفتر في البلاد، مؤكدة بالمعلومات الموثقة تغول هيئة الاستثمار العسكري (إحدى الأذرع الاقتصادية لميليشيا حفتر)، على أراضي وممتلكات الدولة، بما يؤكد تقرير سابق نشرته صحيفة لوموند الفرنسية، في يوليو/تموز 2016، بعنوان “كيف سيطر حفتر على اقتصاد برقة (شرق) في ليبيا”، كشفت فيه كيف حول حفتر مدن الشرق إلى “ولاية خاصة” يهيمن على اقتصادها لخدمة أهدافه وطموحاته في الاستيلاء على السلطة دون أي اعتبار للحالة المعيشية والمستوى الاقتصادي للمواطنين.
عندما يحكم العسكر الجهلة تحدث الكوارث، هذا الوغد وقراره تسبب في حدوث الكارثة https://t.co/iycenq7TIy pic.twitter.com/6YAr5dgETi
— 𝓜𝓾𝓼؏𝓫 (@yahqoby) September 13, 2023
وفق التقديرات الجيولوجية فإن إعصار “دانيال” يمتلك قوة هائلة، لكن من الصعب أن تصل إلى هذا المستوى من التدمير وأعداد الضحايا، في حال وجود بنية تحتية قوية واستعدادات صحية واجتماعية واقتصادية عاجلة، إلا أن الفساد والإهمال ساعدا بشكل كبير في تحول الفيضان من كارثة قد تخلف وراءها ضحايا بالعشرات إلى مأساة إنسانية تتجاوز الآلاف، ليدفع الليبيون الثمن مرتين، ثمن الكارثة وثمن الفساد.