لم تكن مباراة سهرة الأربعاء، التي جمعت فريقي بورتو ويوفنتوس، مجرّد مواجهةٍ تقليديّةٍ في نطاق ذهاب دور ال16 من دوري أبطال أوروبّا، بل كانت فرصةً ثمينةً لعشّاق الفنّ الكرويّ الرفيع حول العالم، لمتابعةٍ اثنين من أعظم حرّاس المرمى في تاريخ المستديرة، هما العملاق الإيطاليّ جيان لويجي بوفون، قائد فريق يوفنتوس الملقّب بالعنكبوت، ونظيره الإسباني إيكر كاسياس، حارس مرمى فريق بورتو الحالي الملقّب بالقدّيس، فما هي الأسباب التي جعلتهما يكتسبان هذه السمعة العطرة؟ وما هي الإنجازات والأرقام والألقاب التي حقّقاها خلال مسيرتهما، والتي دعت المراقبين لوصفهما بأسطورتي حراسة المرمى في العصور الحديثة؟ فلنتابع:
ولد جيان لويجي بوفون في مدينة كارارا التابعة لإقليم توسكانا وسط إيطاليا يوم 28 من يناير من عام 1978، لعائلةٍ ميسورةٍ تعشق الرياضة وتحترفها، حيث كان الأبّ أدريانو رافع أثقال سابقٍ ومدرّس تربيةٍ رياضيّة، والأمّ ماريا ستيلا من بطلات إيطاليا في رياضة رمي القرص، لذا فلا عجب أن نرى الأولاد متّجهين نحو عالم الرياضة، فالفتاتان اختارتا لعبة كرة الطائرة واحترفتاها، فيما عشق شقيقهما جيجي كرة القدم.
وبدأ ممارستها في سنٍّ صغيرةٍ جدًّا، فكان في السادسة فقط حين التحق بصغار نادي سبيزيا، ثم مرّ عبر ناديي بيرتيكاتا وبانا سكولا، قبل أن يحطّ الرحال في نادي مدينة بارما الشهير، لينخرط في صفوف أكاديميّته وهو ابن 13 عامًا، حيث بدأ مسيرته كلاعب خطّ وسط، قبل أن يغيّر مركزه ويتحوّل إلى حارس مرمى، مقتديًا بالحارس الكاميرونيّ الفذّ توماس نكونو، الذي أثار إعجاب العالم في مونديال إيطاليا 1990.
بدايات كاسياس مع نادي ريال مدريد
أمّا إيكر كاسياس فيرنانديز، فقد ولد في ضاحية موستوليز التابعة للعاصمة الإسبانيّة مدريد، يوم 20 من مايو من عام 1981، لعائلةٍ متوسّطةٍ تنحدر من أصولٍ باسكيّة، لم يمنعها عمل الأب خوسيه لويس كموظّفٍ في قطّاع التعليم، والأم ماريا كمصفّفةٍ للشعر، من عشق كرة القدم والتولّع بها، وهو ما ورثه عنهما ابنهما إيكر، الذي انتسب إلى مدرسة براعم نادي ريال مدريد وهو بعمر ال9 سنوات، حيث تدرّج في صفوف نادي العاصمة العملاق على مدى 9 سنواتٍ، لعب خلالها للفريق الثالث ثمّ الرديف، قبل أن يحين موعد ترفيعه إلى الفريق الأوّل صيف عام 1999.
بوفون حقّق لقب الدّوري الإيطالي 7 مرّات مع يوفنتوس
بداية مشوار بوفون الاحترافي كانت صيف عام 1995، حين قام مدرّب بارما نيفيو سكالا بترقيته إلى الفريق الأوّل، ليلعب دور الحارس البديل للوكا بوتشي، حيث خاض 9 مباريات في موسمه الأوّل، كانت كافيةً لاكتشاف حجم موهبته وقدراته الهائلة، ممّا أهّله ليصبح الحارس الأوّل في الفريق وهو بعمر 18 عامًا، ومكث 6 مواسم مع بارما، أحرز خلالها 3 ألقابٍ جاءت جميعها خلال عام 1999، وهي كأس إيطاليا وكأس السوبر الإيطاليّة، إضافةً إلى لقب بطولة اليوروبا ليغ، الذي بقي الإنجاز الأوروبيّ الوحيد للعنكبوت الإيطالي عبر مسيرته، التي عرفت صعودًا كبيرًا اعتبارًا من صيف عام 2001، عندما انتقل إلى نادي يوفنتوس العملاق، مقابل صفقةٍ بلغت 53 مليون يورو، جعلته أغلى حارس مرمى في تاريخ اللعبة!
ومع السيّدة العجوز تابع بوفون مشواره الحافل، فحقّق لقب الدّوري الإيطالي 7 مرّاتٍ، وكأس إيطاليا مرّتين، وكأس السوبر الإيطاليّة 5 مرّات، علمًا بأن مسيرته مع اليوفي شهدت منعطفًا خطيرًا صيف عام 2006، عندما أثبتت التحقيقات تورّط ناديه في فضيحة التلاعب الشهيرة باسم (كالتشيو بولي)، والتي تقرّر على إثرها هبوط البيانكونيري إلى الدّرجة الثانية بعد تجريده من لقبي دوري 2005 و2006، ليقضي الحارس الوفيّ موسم 2006-2007 مع ناديه في الدّرجة الثانية، قبل أن يعود سريعًا إلى أضواء السيري آ، حيث استعاد النادي العريق مكانته تدريجيًّا، وسيطر تمامًا على لقب بطولة الدّوري الإيطاليّ منذ عام 2011 وحتّى الآن.
كاسياس حقّق لقب الشامبيونز ليغ 3 مرّات مع ريال مدريد
أمّا مسيرة كاسياس الاحترافيّة، فلم تعرف سوى نادٍ واحدٍ حتّى عامه ال34، هو نادي مدريد الملكي، الذي كان الحارس القدّيس أحد أبرز صنّاع أمجاده الحديثة، التي تضم 11 لقبًا محلّيًا، منها 5 في الدّوري الإسباني، ولقبين في كأس الملك، و4 في كأس السوبر، و8 ألقابٍ قارّيةٍ وعالميّة، أغلاها بلا شكٍّ ألقاب دوري أبطال أوروبّا ال3، التي جاءت أعوام: 2000 و2002 و2014، إضافةً إلى لقبين في كأس السوبر الأوروبيّ، ومثلهما في كأس الانتركونتيننتال، ولقب وحيد في كأس العالم للأندية.
قضى القدّيس بين جدران النّادي الملكي 16 موسمًا، تحوّل خلالها إلى واحدٍ من أكبر أساطير النادي، سواءً على صعيد الإنجازات الجماعيّة، أو على صعيد الأرقام الفرديّة، التي توجته عميدًا للاعبي النادي الملكي عبر تاريخه، بخوضه 725 مباراةً بقميصه في مختلف البطولات، قبل أن يحين موعد الرحيل صيف عام 2015، وفيما ظنّ البعض أنّ مسيرة كاسياس الرياضيّة ستنتهي بمغادرته الميرنغي، أثبت صاحب ال35 عامًا العكس، بتألّقه في صفوف بورتو البرتغالي، وخاصّةً خلال الموسم الحالي، الذي يبدو فيه فريق التنانين العريق وقد استعاد شيئًا من رونقه القديم، تحت قيادة الملهم الإسباني، الذي أثبت أن الذهب العتيق لا يصدأ.
بوفون حمل كأس العالم عام 2006 مع منتخب إيطاليا
وتحت لواء المنتخب الإيطاليّ، يحمل جيجي بوفون الرقم القياسيّ في عدد المباريات الدّوليّة برصيد 167 مباراةً، لعبها منذ ظهوره الأوّل بقميص الآزوري عام 1997، حيث خاض غمار 5 نسخٍ موندياليّةٍ بين عاميّ 1998 و2014، توّجها بحمل لقب كأس العالم الأغلى عام 2006، كما شارك في 5 نسخٍ من بطولة أمم أوروبّا، بدءًا بنسخة عام 2000 التي خسر الآزوري مباراتها النهائية أمام فرنسا، وهو نفس الإنجاز الذي تحقّق في نسخة عام 2012، حيث خسروا المباراة النهائية أمام رفاق كاسياس، وانتهاءً بالنسخة الماضية من البطولة الأوروبيّة عام 2016، والتي ودّعها رفاق بوفون من الدّور ربع النهائي.
كاسياس حمل كأس العالم عام 2010 مع منتخب إسبانيا
وبدوره، يشترك كاسياس مع ندّه الإيطاليّ بكونه صاحب الرقم القياسيّ في عدد المباريات الدّوليّة لمنتخب بلاده، بخوضه 167 مباراةً بقميص إسبانيا بين عاميّ 2000 و2016، كان خلالها جزءًا لا يتجزّأ من تشكيلة لاروخا خلال 4 نسخٍ من كأس العالم، و5 نسخٍ من كأس أمم أوروبّا، وحقّق خلالها 3 ألقابٍ كبرى، أبرزها لقب كأس العالم عام 2010، إضافةً إلى لقبيّ كأس أمم أوروبّا عامي 2008 و2012، علمًا بأن جميع ألقاب لاروخا جاءت في الفترة التي حمل فيها القدّيس شارة قيادة المنتخب خلفًا لراؤول.
لقاء الحارسين في نهائي بطولة أمم أوروبّا عام 2012
وإذا تحدّثنا عن الجوائز والألقاب الفرديّة، نجد أن الحارسين العملاقين حصدا معظم الجوائز الخاصّة بحراس المرمى على مدى عقدٍ ونيّف، فاختير بوفون كأفضل حارسٍ في العالم 4 مرّات، بحسب الاتّحاد الدّولي للتاريخ والإحصاء الرياضي IFFHS، وذلك بين عاميّ 2003 و2007، كما اختارته الجهة ذاتها كأفضل حارس مرمى في القرن ال21، واختير كذلك كثاني أفضل لاعبٍ في العالم لعام 2006، وهو العام ذاته الذي حصد خلاله جائزة أفضل حارسٍ في المونديال، كما اختاره الاتّحاد الأوروبيّ كأفضل لاعبٍ في القارّة العجوز لعام 2003، فضلًا عن اختياره ضمن تشكيلة العام المثاليّة 4 مرّاتٍ في أوروبّا، و11 مرّةً في إيطاليا.
أمّا كاسياس، فاختارته IFFHS كأفضل حارسٍ في العالم ل5 مرّاتٍ متتاليةٍ بين عاميّ 2008 و2012، واختارته الفيفا كأفضل حارس مرمى في مونديال عام 2010، فضلًا عن اختياره ضمن تشكيلة الفيفا المثاليّة 5 مرّاتٍ، وضمن تشكيلة أوروبّا المثاليّة 6 مرّات، ممّا أهّله ليكون ضمن عداد أفضل تشكيلةٍ أوروبيّةٍ في التاريخ، بحسب اختيارات الاتّحاد الأوروبيّ عام 2015.
بوفون وكاسياس صنّفا بين الأفضل في تاريخ المستديرة
وإذا وضعنا العملاقين في مقارنةٍ فنّية، نجد أن كلاهما يتميّز بحسن التمركز وقوّة التوقّع وخفّة الحركة والتوقيت السليم، مع تميّز بوفون بشكلٍ أكبر في الكرات العالية بحكم طوله الفارع الذي يبلغ 191سم مقابل 184سم لكاسياس، الذي تُعتبر ردّة فعله ضمن الأفضل في تاريخ اللعبة، وهو ما ساعده على القيام بتصدّياتٍ إعجازيّةٍ، أهّلته لحمل لقب القدّيس، أمّا بوفون فاكتسب لقب العنكبوت من تغطيته المذهلة لمرماه، وكأنه عنكبوتٌ ضخمٌ نسج شباكه على أخشاب المرمى!
ويُعاب على كاسياس ضعف استخدامه لقدميه، بعكس بوفون الذي يُعتبر الحارس الأكثر تكاملًا في التاريخ، حيث يندُر أن تجد له نقاط ضعف، باستثناء مستواه المتوسّط في صدّ ركلات الجزاء، التي تُعدّ بدورها نقطة قوّةٍ لدى القدّيس الإسباني.
رغم التنافس …علاقةٌ طيّبةٌ تجمع العملاقين
وهكذا نجد بأنّه من الصعب تفضيل أحد الحارسين على الآخر، وهو ما يعبّر عنه الرجلان في جلّ تصريحاتهما، التي تعكس علاقتهما الطّيبة وتقديرهما المتبادل، الذي تزكّيه صفاتهما الشخصيّة التي تتّسم بالالتزام والاحترام والعلاقة الممتازة بجميع من حولهما، وهو ما يضاف إلى سيرتهما الرياضيّة الفذّة، لتكتمل أسباب اختيار بوفون وكاسياس كأسطورتين حيّتين في عالم الساحرة المستديرة.