في الرابع من فبراير 2017، وفي أثناء زيارته لليابان، قال جيمس ماتيس وزير الدفاع الأمريكي، إن إيران أكبر دولة راعية للإرهاب على مستوى العالم، وسبقه مستشار الأمن القومي الأمريكي مايكل فلين في إدانة ما أسماه أفعال إيران الذي قال إنها تهدد الاستقرار في المنطقة وتضع حياة “الأمريكيين” دون غيرهم في خطر.
هذه النغمة اقتنع بها عادل الجبير وزير الخارجية السعودية، وردد ذات الكلام في مؤتمر الأمن الذي عقد في ميونيخ بألمانيا الأحد 19 من فبراير 2017، حيث قال إن طهران هي الراعي الرئيس للإرهاب في العالم وقوة مُزعزِعة للاستقرار في الشرق الأوسط وتريد تدمير جيرانها العرب، متوعدًا بتحييدها منتشيًا بحماس وتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن إيران وخطرها على إسرائيل.
هل تهاجم أمريكا إيران؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال لا بد من التطرق أولًا إلى مواقف الإدارات السابقة منذ 12 عامًا وحتى الآن، أي منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش، والذي قال في 13 من أغسطس 2005، إنه لا يستبعد اللجوء إلى القوة ضد إيران بعد قرارها استئناف نشاط تحويل اليورانيوم المشارك في الصناعة النووية.
واضح أن أهداف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هي المال مقابل الحماية، ولن يقدم بالمال وفق ما يريد إلا في ظل التهديدات والتلويح بوجود خطر كبير وليس هناك أفضل من الحديث عن خطر إيران وأذرعها حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن
لم يمض على تصريحات بوش سوى أشهر قليلة لتعلن فيها إيران النجاح في تخصيب اليورانيوم وصناعة الرؤوس النووية، لكن العرب تناسوا تحذير بوش وكأنه لم يكن وغض الأخير الطرف عن ذلك.
أما الإدارة التالية، أي إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وبعد ثلاث سنوات من حديث بوش المشهور، قال الرئيس الجديد “وقتها” إن كل الخيارات بما فيها الخيارات العسكرية ستبقى متاحة لمنع إيران من حيازة السلاح النووي، لكنه اعتبر أن ضربة جوية لن تكفي لتسوية هذه المسألة، داعيًا في ذات الوقت إلى فرض سياسة متشددة على إيران تترافق مع عقوبات قاسية تحمل الإيرانيين على إعادة النظر في حساباتهم.
كانت تلك التصريحات جرعة تخدير أخرى تلقاها العرب من رئيس أمريكي، إلا أن طهران استطاعت في عهده السيطرة الكاملة على المدن العراقية التي انسحبت منها القوات الأمريكية، ثم وصلت سوريا، وباتت قريبة جدًا من السيطرة الكاملة على اليمن، وها هو الحال يتكرر مع الرئيس الأمريكي الجديد.
والحقيقة أن العلاقات الإيرانية – الأمريكية لم تنقطع في الأساس منذ “الثورة الإسلامية” في إيران عام 1979، وقد تنوعت هذه الاتصالات ومستوياتها، وتمخض عن هذا النوع من التواصل تفاهمات أمريكية أساسية مع النظام في إيران في أكثر من محطة، كانت عاملاً مهمًا، وربما حاسمًا، في تنسيق ودعم الهجوم الأمريكي على أفغانستان لإسقاط حركة طالبان، وعلى نفس النسق والتوجه تم التنسيق الكامل بين النظام في إيران والإدارة الأمريكية بشأن العمليات العسكرية الأمريكية لاحتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين عام 2003، حيث أكدت إيران مرارًا وعلى لسان قادتها أنها ساهمت في حسم عملية الاحتلال وإنجاحها.
إذًا بعد مرور أكثر من 37 عامًا من الثورة الإيرانية والوعيد والتهديدات المتبادلة بينها وبين وأمريكا وإسرائيل من جهة، تلك التهديدات بقيت حبيسة الشعارات، فيما لم يكن التنفيذ إلا من خلال ضرب كل الأطراف لعدد من الدول العربية، ثم يتوقف فجأة ذلك الوعيد مع أفول إدارة جديدة، لتتجدد التهديدات ذاتها مع بزوغ صعود إدارة جديدة ثم تختفي، وها هي تعود مجددًا مع بزوغ نجم ترامب الرئيس الأمريكي الأكثر حماسة وكلامًا عن القوة وعودة أمريكا إلى أمجادها.
هكذا هو تراب الوطن العربي بات حلبة صراع بين أمريكا وإيران يدوسه الخصمان الوهميان دون أن نرى ركلة أو لكمة أو تهديد حقيقي لكليهما.
ذلك صدى من المواقف الأمريكية والإيرانية على مدى عقد من زمن، فهل يتغير الحال في الوقت الحالي، ويتحول العداء الوهمي إلى حقيقي، ومن ثم يبدأ الصراع الحقيقي؟
ستسعى إيران إلى تفويت الفرصة على الرئيس الأمريكي الجديد بخلق تفاهمات مباشرة مع دول الخليج وتقديم تنازلات سواء في الملف اليمني أو السوري ولكن دون التفريط بمصالحها المستقبلية
وللإجابة على هذا السؤال أيضًا، لا بد من فهم علاقة وطبيعة إيران كدولة في تعاملها مع الغرب لا سيما ما تسميه “الشيطان الأكبر”، وإن كانت ليست خصمًا للولايات المتّحدة وإسرائيل كما كان الحال بالنسبة للعراق بقيادة صدّام وأفغانستان بقيادة حركة طالبان.
وإذا ما تجاوزنا تلك التكهنات وذهبنا إلى سيناريو آخر وهو أن إيران رأت استغلال دول الخليج حماس دونالد ترامب الذي لم يفهم بعد طبيعة الولايات المتحدة الأمريكية وعُرف إدارتها المتعاقبة التي صنعت ما يسمى “البع بع” الإيراني لتخويف دول الخليج العربي، (من أجل نشر أساطيلها في قلب الخليج العربي الغني بالنفط)، وبدأت تدفع به إلى مواجهة مع إيران، فإن لها خيارات سياسة وعسكرية يمكن أن تعمل عليها لتفويت فرصة الصدام المباشر مع أمريكا.
ورغم أنها كانت وما زالت تستخدم التصريحات الاستفزازية لكنها لا تتصرف بناءً عليها بأسلوب متهور وأرعن من شأنه أن يزعزع نظامها، وعليه فيمكن توقع تحركات إيران عبر الطرق التقليدية الدبلوماسية، وهي تعمل حاليًا على قراءة المشهد وخلفية الرئيس الأمريكي الجديد وما إن كان سيخرج عن الإطار الأمريكي المعروف به نحو إيران الأداة التي يمكن من خلالها ابتزاز الخليج.
خيارات سياسية
بعد أن تدرك إيران أن هناك تصاعد في الهجوم ضدها، قد تتجه في مرحلة ما وكبداية في محاولة منها لإخماد المواجهة، إلى تأسيس قنوات خلفية تستطيع من خلالها الوصول إلى تفاهمات مع الإدارة الأمريكية الجديدة بشأن الملفات الخلافية المتعددة، وهو ما يرتبط بالمحددات التي تضبط حدود تعامل طهران مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ قيام الثورة الإيرانية في عام 1979، فضلاً عن سعيها بشكل دائم، وعلى عكس ما تدعي، إلى “تطويع” أيديولوجيتها لتحقيق مصالحها في حالة اقتراب الخطر من حدودها، وهذا خيار أول.
الخيار الثاني، ستسعى إيران إلى تفويت الفرصة على الرئيس الأمريكي الجديد بخلق تفاهمات مباشرة مع دول الخليج وتقديم تنازلات سواء في الملف اليمني أو السوري ولكن دون التفريط بمصالحها المستقبلية، وهذا ما بدأ يلوح في الأفق من خلال الوفد الإيراني الذي سيزور المملكة العربية السعودية خلال الأشهر القادمة ظاهره الحج وباطنه مباحثات في العمق، إضافة إلى تحركها إلى عمان والكويت، ويقابله جهود تبذلها الدولتين “الكويت وعمان” لتحقيق تفاهمات إيرانية خليجية.
خيارات عسكرية
إن فشلت الخيارات السياسية الإيرانية ورفضت دول الخليج الدخول معها في حوار وتفاهمات وأصرت على تحقيق أهداف ترامب “المال مقابل الحماية”، وإن كان لن يقدم المال وفق ما تريده دول الخليج إلا في ظل التهديدات والتلويح بوجود خطر كبير وليس هناك أفضل من الحديث عن خطر إيران وأذرعها حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، فإن لطهران خيارات عسكرية ستعمل عليها.
وستكون هنا حريصة على تبني سياسة تصعيدية في مواجهة الضغوط والتهديدات الأمريكية، وتأكيد جهوزيتها لأي خيارات قد تستند إليها واشنطن في التعامل معها، بما فيها الخيار العسكري، إلا أن ذلك لا ينفي في الوقت ذاته أنها تسعى بجدية إلى تجنب المواجهة العسكرية المباشرة، خاصة في حالة ما إذا كانت مع القوة العظمى الأولى في العالم.
إذ إنها تفضل بشكل دائم سياسة الحرب بالوكالة من خلال تكوين ودعم مليشيات مسلحة حليفة لها في مناطق مختلفة بالإقليم، تسعى إلى تحقيق أهدافها بما يخدم طموحاتها في دعم دورها الإقليمي وفرض ضغوط على خصومها في المنطقة.
ومن هنا ربما يمكن تفسير مغزى التوقيت الذي أطلق فيه أوس الخفاجي أمين عام ميليشيا “أبو الفضل العباس” تهديداته لإدارة ترامب، والتي لا يمكن فصلها عن التوتر المتصاعد بين الأخيرة وإيران، رغم أن أوس الخفاجي حرص على ربط تهديداته بقرار إدارة ترامب منع مواطني سبع دول، منها العراق وإيران، من دخول الولايات المتحدة الأمريكية، وربما يلي ذلك تهديدات أخرى من مليشيات حليفة لإيران تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في إطار التصعيد المستمر بين الطرفين خلال المرحلة الماضية.
لا نستبعد أن تستخدم طهران كل من الحشد الشعبي العراقي لتهديد المملكة العربية السعودية ولي ذراع ترامب بتهديد إسرائيل عن طريق حماس وحزب الله، فحماس وحزب الله لديهما من الخبرة القتالية ما يكفي لإنهاك إسرائيل واستنزافها وربما كسر هيبتها.
بعد أن تدرك إيران أن هناك تصاعد في الهجوم ضدها، قد تتجه في مرحلة ما وكبداية في محاولة منها لإخماد المواجهة، إلى تأسيس قنوات خلفية تستطيع من خلالها الوصول إلى تفاهمات مع الإدارة الأمريكية الجديدة
يبقى هذا الخيار الأكثر ترجيحًا لمسارات التفاعل بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية خلال المرحلة القادمة، لا سيما في ظل حرص الأخيرة على تأكيد أن الخلافات مع طهران لا تنحصر في الاتفاق النووي، وإنما تمتد أيضًا إلى ملف دعم إيران للإرهاب، لكن دون أن ينفي ذلك احتمال أن تفكر إيران في خيارات أخرى أكثر مرونة وبراجماتية للتعامل مع اقتراب الخطر الأمريكي من حدود، إذا تم ذلك بالفعل.
الخلاصة
واضح أن أهداف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هي المال مقابل الحماية، ولن يقدم المال وفق ما يريد إلا في ظل التهديدات والتلويح بوجود خطر كبير وليس هناك أفضل من الحديث عن خطر إيران وأذرعها حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن.
ستقابل ذلك إيران بتفويت الفرصة عليه بخلق تفاهمات مباشرة مع دول الخليج وتقديم تنازلات سواء في الملف اليمني أو السوري ولكن دون التفريط بمصالحها المستقبلية، وقد تهدئ إيران اللعبة مع جيرانها وتمتص الحماس الأمريكي الذي لن يتجاوز التهديدات الكلامية.