لم يكن الجيش التونسي الحديث الذي تأسس في 30 من يونيو 1956، حسب وثائق سرية للمخابرات المركزية الأمريكية نُشرت حديثًا، بعيدًا عن الحياة السياسية، فقد شارك في مواجهة الإضراب العام الذي شهدته البلاد في يناير 1978، واحتجاجات مايو 1984، حتى إن بعض قياداته خططت لانقلاب عسكري في ديسمبر 1985 ضد نظام حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.
محاولة الانقلاب
في ديسمبر 1985، أحبط النظام الحاكم في تونس، محاولة انقلاب عسكري، لمجموعة من الضباط وضباط الصف في الجيش التونسي، حسب وثيقة بعنوان “تسييس الجيش”، نشرتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ضمن آلاف الوثائق السرية التي نشرت عن تونس، في يناير الماضي بالتزامن مع نشرها (أي الوكالة) ما يقرب من 13 مليون صفحة من وثائق سرية، على الإنترنت، كان الوصول إليها متاحًا فقط من خلال 4 أجهزة كمبيوتر في الأرشيف الوطني في “كوليج بارك” بولاية ماريلاند.
لم تكشف السلطات التونسية سابقًا عن هذه المحاولة الانقلابية المزعومة التي أشارت إليها وثيقة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية
ورغم علمه بمحاولة الانقلاب، فإن قائد جيش الطيران لم يشارك فيها، وفق نص الوثيقة، التي أضافت أيضًا، أن هذه المحاولة الانقلابية قد عزز صحتها وجود معلومات عن حركة نقل أو إحالة على التقاعد شملت أربعة من كبار الضباط في ظروف غامضة، في شهر نوفمبر 1985، وفي يناير 1986 تم حل قيادة تدريب الجيش وإقالة رئيسها وتوزيع تلامذة المدارس العسكرية على وحدات مختلفة من الجيش.
ضباط وضباط صف خططوا للمحاولة الانقلابية المزعومة
ولم تكشف السلطات التونسية سابقًا عن هذه المحاولة الانقلابية المزعومة التي أشارت إليها وثيقة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، رغم محاولات نظام “بورقيبة” توريط الجيش في أكثر من مناسبة قصد إضعافه خوفًا منه، خاصة في ظل حالة التململ بين كبار ضباط الجيش، وكان الرئيس التونسي، آنذاك، الحبيب بورقيبة، يعيش أوضاعًا صحية صعبة في تلك الفترة، أفقدته القدرة على تسيير البلاد وإدارة شؤون الحكم وفرض سيطرته على دواليب الدولة.
المشاركة في قمع الاحتجاجات الشعبية
مشاركة الجيش في قمع الاحتجاجات الشعبية ونزوله إلى الشارع، زمن حكم بورقيبة، لم تكن خفية على أحد، وقد تطرقت وثائق وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية إلى هذا الأمر، حيث أشارت في وثيقة بعنوان “تصاعد الاضطرابات في تونس” بتاريخ 23 من مايو 1984 إلى الدور الذي لعبه الجيش في مواجهة الإضراب العام في يناير 1978.
أقرت السلطة آنذاك بسقوط 52 قتيلاً و365 جريحًا فقط
وتعرف أحداث السادس والعشرين من شهر يناير 1978، بأحداث “الخميس الأسود“، حيث عرفت البلاد خلالها صدامات بين الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) والسلطة، بعد أن أعلنت قيادة “المنظمة الشغيلة” رفضها للسياسة التي تتبعها الحكومة، مما أدى إلى اندلاع مواجهات واعتقالات ووفاة العديد تحت التعذيب، وشهدت تونس يومها نزول الجيش لأول مرة إلى الشوارع وانتشاره في العاصمة، ونتج عن هذه الأحداث سقوط أكثر من 400 قتيل وآلاف الجرحى في العاصمة وبقية المدن التونسية، حسب مصادر نقابية، فيما أقرت السلطة آنذاك بسقوط 52 قتيلاً و365 جريحًا فقط، كما تمت إحالة 30 من القيادات النقابية إلى محكمة أمن الدولة وهم أعضاء المكتب التنفيذي والكتاب العامين للاتحادات الجهوية والكتاب العامين للجامعات والنقابات العامة والأساسية.
تعتبر أحداث “الخميس الأسود” أحد الأحداث الدامية في تاريخ تونس الحديث
نزول الجيش إلى الشارع لم يقتصر على أحداث يناير 1978، بل شارك أيضًا في التصدي للاحتجاجات التي عرفت باسم “انتفاضة الخبز” في يناير 1984، التي انطلقت من مدينة دوز جنوب البلاد، وخلال هذه الأحداث التي شهدتها تونس في يناير 1984، عقب دخول مشروع الزيادة في أسعار العجين ومشتقاته حيز التنفيذ، استدعى النظام الجيش بعد أن سجل عجز قوات النظام العام في الحد من توسع الانتفاضة التي شملت مختلف مناطق البلاد، سقط خلالها عديد من القتلى والجرحى في صفوف المتظاهرين.
تململ في صفوف الضباط والجنود
وثيقة “تسييس الجيش”، أشارت أيضًا إلى حالة التململ بين كبار ضباط الجيش التونسي بعد استدعائهم لمواجهة المدنيين خلال الأحداث التي شهدتها البلاد وخشيتهم من تجدد ذلك في تحركات متوقعة، وتنقل الوثيقة أن مجموعة من الضباط أبلغت محمد مزالي رئيس الوزراء أنها لن تستجيب لأي أوامر مستقبلية للتدخل ضد المدنيين.
ترفض السلطات التونسية الكشف عن الأرشيف الخاص بعديد من الأحداث التي شهدتها تونس رغم مرور عشرات السنين عليها
حالة التململ التي ميزت كبار ضباط الجيش التونسي بعد استدعائهم لمواجهة المدنيين، كانت سببًا لتوجه رئيس الوزراء مزالي إلى تقوية جهازي الأمن والحرس الوطني وإدماج مئات من العسكريين في هذا السلك في شهر مارس 1984، حسب نفس الوثيقة.
وثيقة “تسييس الجيش”
إضافة إلى تململ كبار الضباط من تدخلهم لمواجهة المدنيين، كانت الأجور المتدنية ونقص المعدات والتدريب والفساد سببًا لتذمر الجنود التونسيين وأصحاب الرتب المتوسطة، حسب نص الوثيقة، وكانت تونس في تلك الفترة في صراع مع ليبيا، الأمر الذي زاد من قلق الجنود التونسيين نتيجة محدودية التجهيزات والاستعدادات لصد أي عدوان ليبي على بلادهم التي عرفت أيضًا حينها، تمكن الإسرائيليين من اختراق الأجواء التونسية وتنفيذ اعتداء حمام الشط في أكتوبر 1985.
وكان “الحبيب بورقيبة” يبدي تخوفًا من الجيش خاصة بعد المحاولة مجموعة “الأزهر الشرايطي” سنة1962 الانقلاب عليه، فاتخذ موقفًا سلبيًا وحذرًا من الجيش، وأبقى المؤسسة العسكرية بعيدة عن الفعل السياسي، كما كان بورقيبة يؤمن أيضًا بفكرة الاحتماء تحت مظلة القوى الكبرى وجواز التحالف معها، فبقي الجيش قليل العدد والعدة ولم يشكل وزنًا إقليميًا له تأثير في السياسية الخارجية لتونس.
وتكشف هذه الوثائق الأمريكية السرية جزءًا من الأحداث المتعلقة بالجيش التونسي في وقت ترفض فيه السلطات التونسية الكشف عن الأرشيف الخاص بعديد من الأحداث التي شهدتها تونس رغم مرور عشرات السنين عليها.