مع بداية العام الدراسي في تركيا، ينضم آلاف الطلاب السوريين والأجانب إلى الصفوف التعليمية في المدارس الحكومية، ويأتي هذا العام بعد موجات عالية من الخطاب العنصري تجاه الأجانب عمومًا والسوريين خصوصًا، ومع فترة تشديد حكومي على المهاجرين غير النظاميين، وملاحقة للمخالفين رافقها انتشار صور وفيديوهات لتعامل غير إنساني مع بعض اللاجئين وترحيل آخرين إلى الشمال السوري.
وسط هذه الأجواء المشحونة إعلاميًّا وعلى منصات التواصل الاجتماعي، تشعر الكثير من العائلات السورية بالقلق إزاء ما قد يتعرض له أطفالها في المدارس من مضايقات وإقصاء محتملَين، ووصل الحال بالبعض إلى الامتناع عن إرسال الأطفال إلى التعليم النظامي.
نناقش في هذا التقرير أهمية التواصل الإنساني مع الجيران وأصدقاء المدرسة للحد من الأثر النفسي لما نراه في الإعلام، والخطوات اللازمة لدعم اندماج الطلاب بشكل صحي وناجح مع البيئة المدرسية، وذلك في حوار ثري مع المستشارة النفسية الدكتورة سناء الفروخ، والأخصائية النفسية بشرى أوسكوب Büşra üskup التي تعمل في إحدى المدارس التركية الواقعة في أحد أكثر أحياء إسطنبول المختلطة ثقافيًّا.
تفيد إحصائيات دائرة الهجرة التركية العام الماضي 2022، أنه يوجد مليونًا و124 ألفًا و353 طفلًا تتراوح أعمارهم بين 5 و17 عامًا في سن التعليم تحت الحماية المؤقتة، التحق 730 ألفًا و806 أطفال منهم بالدراسة لغاية يناير/ كانون الثاني 2022.
وفي تصريحات ليوسف بويوك، مدير التعليم في وزارة التعليم التركية، قال إن نسبة التعليم بين الأطفال السوريين في تركيا في مرحلة ما قبل المدرسة، بلغت خلال العام الدراسي 2019-2020 الـ 30.77%، وفي مرحلة التعليم الابتدائي 90%، أما في المرحلة المتوسطة فبلغت 70.13%، و32.55% في مرحلة التعليم الثانوي من مجمل عدد الأطفال السوريين.
أزمة الاندماج في تركيا
في بداية وصول اللاجئين السوريين إلى تركيا، نُظر إليهم من قبل غالبية الشعب التركي كمجموعات هاربة من الحرب والظلم، فقابلهم الشعب المستضيف بالتعاطف وكان الجميع، السوريين والأتراك والحكومة التركية، يظنون أنها مرحلة مؤقتة وسيعود السوريون إلى مدنهم، فلم تولَ أهمية كبيرة لبناء روابط وإقامة أُسُس متينة لعلاقة اندماج صحية لهؤلاء اللاجئين ضمن المجتمع الجديد، وفي تلك المرحلة وحتى أكثر من 5 سنوات استمر السوريون في إرسال أطفالهم إلى مدارس عربية تدرّس المنهاج السوري المعدل، مع تدريس بسيط وبدائي للغة التركية.
الركيزة الأساسية لتجربة الاختلاط بمجتمع جديد ناجحة وصحية، هي تعزيز الهوية الإنسانية لدى الطفل أولًا ثم الهوية الاجتماعية
بعد قرار الحكومة التركية إغلاق هذه المدارس تدريجيًّا وتسهيل دخول الأطفال السوريين والأجانب إلى المدارس الحكومية، اتجه اللاجئون المقتدرون ماديًّا إلى المدارس الدولية، وهي في أغلبها مدارس عربية تولي أهمية كبيرة لتعليم اللغة العربية والإنجليزية، وبعضها يهتم بالتعليم الديني، فيما يهمَل تعليم اللغة التركية فيها.
إذ يجد الأهل في هذه المدارس سهولة أكبر في التواصل مع الإدارة، وهربًا من حاجز اللغة وتجنب أي ممارسات عنصرية أو مضايقات قد يتعرض لها الطفل في بيئته الجديدة، إضافة إلى أسباب أخرى.
وترى المستشارة النفسية الدكتورة سناء الفروخ، أن إرسال الأطفال إلى مدارس لا تؤمّن احتكاكًا مع أبناء البلد المضيف، له عدة وجوه سلبية على الطفل والمجتمعَين المضيف والمهاجر، “منها إعاقة عملية التقدم كمجتمع واحد، وخلق فكرة لدى الطفل المهاجر أنه ضعيف وضحية والحل هو الهرب بدلًا من بناء هويته الجديدة، وتعزيز العنف عند بعض الأطفال الذين يتحركون ضمن التوجه الرافض للآخرين”، وتضيف أن الهروب من المشكلة وعدم مواجهتها يؤديان إلى غياب الضغط القانوني والاجتماعي والحقوقي بما يخدم قضية اللاجئين وحقوقهم.
لكنها تؤكد في الوقت نفسه “على أن الركيزة الأساسية لتجربة الاختلاط بمجتمع جديد ناجحة وصحية، هي تعزيز الهوية الإنسانية لدى الطفل أولًا ثم الهوية الاجتماعية، لأنها ستحمي الطفل والمراهق من ظاهرة التخلي عن ذاته وإنكار هويته الأصلية (عربية-سورية)، لأجل أن يتم تقبله من أطفال المجتمع المضيف”.
وتوضح: “تساعد هذه الهوية الطفل على إظهار شخصية واثقة ثابتة انفعاليًّا تحميه من التنمر وتمنحه فرصة تعلم الرد المتزن على المواقف الصعبة، كما ستحفظ شعوره بالكرامة تجاه أشياء من حقه وتجاه أشياء لم يخترها بنفسه، وبالتالي الحصول على التقبل من الآخرين بسبب فخره بوجوده، وعمومًا سيكون لديه الوعي بما له وما عليه لاحترام ذاته والآخرين”.
أسرة مشجّعة على الانفتاح الثقافي والتواصل
شددت الدكتورة سناء على أهمية تقبل الأم لفكرة التعدد الثقافي.. هل حققت هي الأرضية الأولية للاندماج الثقافي الإيجابي من تعلم للغة والتاريخ ومعرفة للمكان والقوانين وجهات الدعم؟ هل جربت العمل أو التطوع أم ما زالت بمرحلة الانتظار والتمني في حين أن عجلة العالم أسرع ممّا نتوقع؟
إذ إن الأم هي قدوة الطفل، وهي البطل الذي يقوم بتصويره وتقليده بشكل واعٍ وغير واعٍ، وتتابع: “يمكن للأمهات مشاركة الطفل بالأنشطة اليومية التي تعكس اندماجها وهويتها الإنسانية الحقيقية، مثل الذهاب معًا إلى الحديقة ثم شراء بعض الأغراض واستخدام اللغة والحديث عن تاريخ المكان أو التقاط الجمال فيه، وممارسة أنشطة معينة بوجود أصدقاء من السكان الأصليين مع وعيها بهويتها العربية السورية”.
بدورها، تشجّع الأخصائية النفسية التركية بشرى أوسكوب على إرسال الأطفال إلى المدارس العامة بدلًا من مؤسسات التعليم العربية في مرحلة ما قبل المدرسة، لأنهم سيتطورون أكثر من ناحية اللغة ويصبحون أكثر قدرة على التكيف، بينما توصي بتسجيل الأطفال بدورات وأنشطة البلديات.
إذ إنه بالإضافة إلى تفريغ طاقتهم الجسدية، سيتعرضون أيضًا للغة ويكونون ضمن عملية تعلم أكثر كثافة، كما تشجّع الآباء على إقامة علاقات ودية مع العائلات التركية حتى يتمكن أطفالهم من سماع اللغة باستمرار، وتضيف: “لسوء الحظ، العديد من الطلاب الذين أتعامل معهم يتحدثون اللغة التركية أكثر من عائلاتهم”.
أفكار لكسر الحواجز وبناء بيئة محبّة للطفل
اشتهر عن النبي الكريم ﷺ قوله: “تبسُّمك في وجه أخيك صدقة”، وذلك لما لها من فائدة ونفع في تأليف القلوب وتقريب الغرباء، ويقول أيضًا: “تهادوا تحابوا”، إذ إن الهدية مبعث أُنس وتفتح مغاليق القلوب وتبذر المحبة بين الناس.
يمكن للعائلات تجهيز بعض الألعاب البسيطة أو الأطعمة الخفيفة والتسالي خاصة لو كانت من ثقافة البلد الأم، مع عبارات جميلة باللغتَين العربية والتركية ليقوم الطفل بتوزيعها على أطفال فصله، بعد الترتيب مع معلمة الفصل، ويمكن اختيار مناسبات مشتركة مثل بدء العام الدراسي وبدء رمضان والأعياد، وبذلك نعزز من حضور الطفل في الفصل ويلفت انتباه بقية الطلاب ويسهل عليه البدء بإقامة علاقات معهم.
رغم اتساع دائرة الخطاب العنصري مؤخرًا وحصول حوادث مؤسفة، إلا أن الأخبار والمنشورات المتداولة على شبكات التواصل يبالغان في تصوير الواقع، ويعطيان شعورًا دائمًا بالتهديد والضغط والاستهداف
كما يمكن اختيار بعض القصص المكتوبة باللغة التركية، والتي تعزز من فهم الأطفال لقضايا الاختلاف والتنوع الثقافي، وترشّد من فهم ما يسمعونه يوميًّا من مصطلحات مثل اللاجئين، ومشاركتها مع معلمة الفصل لتقرأها للطلاب، مثل هذه القصة لشرح قصة الأطفال المهاجرين.
توصي الأخصائية النفسية بشرى الأهالي بأن يكونوا نشطين في المجموعات المدرسية، إذ إن انسحابهم بحجّة اللغة سيكون له تبعات وآثار سلبية على أطفالهم، بل إن حضورهم الدائم في اجتماعات المدرسة يدعم ويشجّع خلق مساحة لأطفالهم.
اللغة كمفتاح رئيسي وأول للحل
يبدو لأي متابع أن مشاكل السوريين على مدى أعوام طويلة في تركيا تعود في أغلبها إلى ضعف التواصل مع البيئة المحيطة في كل مكان، ويشتكي الأتراك دومًا من “ضعف” الإقبال على تعلم اللغة من الأجانب المقيمين في تركيا.
ومن تجربتها، ترى الأخصائية النفسية بشرى أن “المشكلة الأكبر التي تواجه الطلاب الأجانب هي اللغة، إذ يعاني الأطفال من مشاكل في التكيف لأنهم غير متقنين للغة التركية بشكل جيد، ولهذا هم غالبًا لا يرغبون في الذهاب إلى المدرسة، ويشعرون بالملل في الفصول الدراسية وينشغلون باللعب أثناء الدروس، ما يدفع المعلمين إلى التدخل باستمرار لفظيًّا للحفاظ على نظام الفصل الدراسي، وهذا يؤثر على الأطفال بشكل سلبي إلى حد ما”.
من المهم حماية الأطفال من تقمص دور الضحية الذي يؤدي إلى زيادة رفضه والتنمر عليه، لأن شكل الضحية جذاب للعدوان ويؤدي إلى تكاثر الجماعة المتنمرة
كما نبّهت الأخصائية للمشاكل التي تحدث بسبب وجود المترجمين بين الإدارة والعائلة، لأن المترجمين قد يرتكبون أخطاء في الترجمة، ما يسبب خلافات بين أولياء الأمور والإدارة، “لقد مررت بهذا الأمر بنفسي، غضب والد الطفل مني وبعد ذلك اعتذر المترجم وقال: “لا أعرف بالضبط لماذا غضب الأب، لم أفهم ما حدث، ربما لم أتمكن من الترجمة بصورة مناسبة””.
لذلك، من حق أطفالهم، بما أنهم اختاروا العيش في هذا البلد، تعلم اللغة حتى يتمكن الأطفال من الاستفادة من أعلى مستوى من التعليم، ويجب أن تكون الأسرة رائدة من حيث اللغة ليتكيف أطفالها ويندمجوا بشكل إيجابي.
التعامل مع المخاوف من العنصرية
رغم اتساع دائرة الخطاب العنصري مؤخرًا وحصول عدة حوادث مؤسفة، إلا أن الأخبار والمنشورات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي يبالغان في تصوير الواقع، ويعطيان شعورًا دائمًا بالتهديد والضغط والاستهداف، ما يعيق دخول الأفراد في أي عملية اندماج أو تواصل مع المجتمع المحيط، ويصبغ البيئة كاملة بصبغة “عدو”، ويجعل الأفراد يتقاعسون عن طلب المساعدة لحل المشاكل أو الحصول على دعم.
كل هذه المشاعر السلبية تنتقل إلى الطفل ممّا يسمعه ويراه في عائلته والنقاشات التي تدور حوله، لذا من المهم حماية الأطفال من تقمص دور الضحية والشعور بالتهديد والاستهداف، والذي يؤدي بحسب الدكتورة سناء إلى زيادة رفضه والتنمر عليه، لأن شكل الضحية جذاب للعدوان ويؤدي إلى تكاثر الجماعة المتنمرة على طفل واحد.
كما أن شكل الضحية لا يغري الأطفال الآخرين للدفاع عنها أو حتى فهمها ليكونوا أصدقاء، ما سيجعله منعزلًا ووحيدًا ورافضًا للآخرين، ثم غاضبًا وعنيفًا بسبب الظلم والأذى الذي تعرض لهما، ويزيد من احتمال تعرضه لمواقف مهينة مؤلمة وصادمة.
وتشرح الدكتورة كيفية التعامل مع الطفل في ظل الإشاعات والنقاشات: “يجب أن أكون صريحة وشفافة معه، ثم أعلمه لماذا يحدث هذا وكيف علينا التصرف بالطريقة السليمة وليس العنيفة، ومن المهم جدًّا ألا أعطيه شعور أننا ضحايا لاجئون مهاجرون لا حول لنا ولا قوة، كما أعزز لديه الشعور بالقيمة من الله أولًا ثم الحق بالحياة، وبعدها أروي قصص نجاح لآخرين مرّوا بنفس تجربتنا”.
إغلاق الأبواب وعبوس الوجوه والرهبة من التواصل، تترك فجوات واسعة بين الجيران وسكان الحي، يتسلل من خلالها أصحاب الأجندات ليزرعوا الخوف
في حال تعرض أحد الأطفال لمشكلة عنصرية، تقترح الأخصائية النفسية بشرى على الأطفال وأولياء الأمور طلب تدريب توجيهي من خدمات الاستشارة النفسية في المدارس، وبالنسبة إلى العائلات التي تتواصل بشكل جيد مع الجيران والبيئة المحيطة من مختلف الثقافات، فلم يكن لديهم أي قلق بخصوص تعرض أطفالهم لمواقف عنصرية، لأنه إذا واجه طفلهم شيئًا ما في المدرسة، فإن صديقه التركي سيدافع عنه أولًا.
وتؤكد أن المستشارين النفسيين في المدارس يحاولون بالفعل تحسين البيئة على كل مستوى في المدارس، من خلال إنتاج مشاريع لمنع التحيزات العنصرية وتوفير تدريب للآباء بشكل منتظم.
أما التعامل مع الطفل فيكون أولًا بتفهُّم مشاعره، والحديث معه أثناء تمشية أو نزهة قصيرة، إذ تكون الأجواء مناسبة للحوار وانفتاح الطفل على مشاعره، وبعدها نشجّعه على التفكير في ما يمكنه القيام به لتحسين شعوره.
ومن المهم هنا فهم الطفل وشعوره بأنك ستدعمه دائمًا وستكون معه، حتى إذا لم يستطع التغلب على كل مشكلة، لأن الطفل الذي يدرك مشاعره سيوجه سلوكه بشكل طبيعي، كما أنه من المفيد توجيه الأطفال نحو ممارسة رياضات معينة لحمايتهم من الاعتداء الجسدي، وهذا سيساعد في زيادة ثقة الطفل بنفسه وتقليل احتمالية التعرض للاعتداء.
تنشئة طفل سوي نفسيًّا في مجتمع جديد.. حوار مع د. ملهم الحراكي
إن إغلاق الأبواب وعبوس الوجوه والرهبة من التواصل، تترك فجوات واسعة بين الجيران وسكان الحي الواحد، يتسلل من خلالها أصحاب الأجندات الفاسدة والقلوب المريضة والنفوس الحاقدة ليزرعوا الشك والخوف والرعب ويدمروا نسيج المجتمعات، وفيما تبقى متابعة الحوادث والجرائم مسؤولية الحقوقيين والمسؤولين، تكون مهمتنا بناء جسور التواصل وتتبُّع الأخبار الجيدة واستقبال المبادرات الطيبة بروح متفائلة محبة، من أجل حماية مستقبل أطفالنا ونبذ خطاب الكراهية.