“الأخوة الأعداء”.. يعد هذا المصطلح هو الأقرب سياسيًا لتوصيف العلاقات بين تركيا وإيران، باعتبارهما حافظا على شعرة معاوية في الأمور الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية بينهما لفترات طويلة، على الرغم من الخلافات السياسية الجوهرية بين البلدين، لا سيما الملف السوري والقضايا البارزة في المنطقة، باعتبار أن تركيا السنية وإيران الشيعية على طرفي نقيض من فحوى هذا النزاع.
فالأولى تدعم فصائل المعارضة ضد نظام بشار الأسد، في حين تدعم طهران الرئيس بشار الأسد على طول الخط، سواء بالتسليح أو بالعتاد العسكري واللوجيستي، ورغم ذلك جلسا معا في مفاوضات ما بعد حلب ومؤتمر موسكو وأستانة، لكن جولة أردوغان الخليجية ربما قطعت هذه الشعرة.
تصعيد متتالي
الأزمة والخلافات بين الجانبين إذًا معلومة للجميع، ولطالما توترت الأجواء بين الجانبين بتصريحات هنا وهناك، لكن التصعيد التركي الأخير شغل بال المحللين، وطرح بمخيلة الجميع تساؤلاً كبيرًا: لماذا الآن؟ وعلى من تعود مكاسب إثارة هذا التوتر الآن في ظل تعلق موقف المفاوضات السورية بين النظام والمعارضة؟ ومن الكاسب والخاسر الأكبر منها؟
تحول الموقف التركي المفاجئ تجاه إيران بعد الجولة الخليجية حمل العديد من الدلالات، أولها من حيث التوقيت كونه جاء وبشكل شبه منظم، وبوتيرة متصاعدة من عدة مسؤولين أتراك على مستوى كبير من التأثير، منذ الجولة الخليجية
جولة الخليج
التصعيد التركي بدأ على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على هامش زيارته للخليج، حينما صرح بأن حزب الله منظمة إرهابية تتحرك في سوريا أيضًا، بجانب دورها في توتير الأجواء بلبنان.
أردوغان لم يتوقف عند تلك النقطة، بل زاد: “إذا كانت إيران تقول إنها ضد المجازر وليست وراءها، فلا بد أن نتعاون ونتكاتف لنوقف إراقة الدماء في سوريا مع بعضنا البعض”.
يلدريم يتوعد طهران
معركة النفوذ
رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم هو الآخر دخل على خط الأزمة بتصريحاته في مؤتمر ميونيخ للأمن، ردًا على سؤال عن الموقف الأمريكي الجديد الذي يرى أن إيران تشكل تهديدًا بالقول: “ليس إيران فقط، هناك دول أخرى في المنطقة، الهدف ألا تحقق دولة ما نفوذًا في سوريا أو العراق، مضيفًا “إيران جارتنا التاريخية، شهدت علاقاتنا العديد من التقلبات، ولكن نحن مستاؤون من إحدى المسائل هنا، في حال تم التركيز على المذهب سيترتب على الأمر الكثير من الأضرار”.
وعن انزعاج الخليج من إيران، قال: “نعم لديهم حساسيات تتعلق بالجوانب الأمنية، وسنشعر جميعًا بالقلق في حال قيام إيران بأمور من قبيل توسيع مجال نفوذها”.
أوغلو يهاجم طائفية إيران
أوغلو والطائفية
يلدريم لم يكن الأخير، فالهجوم الأكبر جاء على لسان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، الذي وصف الدور الإيراني في المنطقة بأنه “دور يزعزع الاستقرار، خاصة أن طهران تسعى لنشر التشيّع في سوريا والعراق”، داعيًا طهران لإنهاء الممارسات التي من شأنها زعزعة استقرار وأمن المنطقة، وتابع: “إدخال المليشيات الشيعية لمدينة الموصل التي يشكل العرب السنة 99% من سكانها أمر خطير”.
استغلال اللاجئين
وعلى خطى سابقيه قال المتحدث باسم الخارجية التركية حسين مفتي أوغلو: “بلد (إيران) لا يتورع عن إرسال من لجأوا إليه بسبب الأزمات في المنطقة، إلى ساحات الحروب، وهو المسؤول عن التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة، لا يمكن فهم أو تقبل توجيهه الاتهامات للآخرين”.
وأكمل “إشادة قاسمي بسياسات بلاده الإقليمية ووصفه لتلك السياسات بالعادلة، تتعارض بشكل كبير مع مخاوف الأمم المتحدة، ومنظمة التعاون الإسلامي من سياسات طهران الإقليمية، والمنتظر من إيران الإقدام على خطوات بنّاءة، وإعادة النظر في سياساتها تجاه دول المنطقة، عوضًا عن اتهام الدول التي توجه لها انتقادات”.
الحياة في سوريا على هامش هدنة هشة
سوريا الخاسر الأقرب!
سيل من الانتقادات والهجوم التركي يراه بعض المحللين بأنه غير محسوب العواقب، قياسًا على أن التوافق بين تركيا وإيران حاسمًا بالنسبة لضمان الحفاظ على هدنة هشة في سوريا، مدعومة من روسيا أيضًا، أعلنت في نهاية عام 2016 لتشكل أساسًا لمحادثات السلام في هذا البلد المدمر، لكن مع كل فشل في إيجاد تسوية، أصبح إطار التنافس بين تركيا وإيران أكثر تعقيدًا والخلافات أكثر صعوبة.
بينما يرى آخرون هذا الصراع خطوة في اتجاه التقارب مع دول الخليج، ونوع من المغازلة والتودد بين ترامب والقوى الشرق أوسطية، وهو ما عكسته تصريحات الرياض وأنقرة، بشأن تأييد وجهة النظر الأمريكية حيال مستقبل الأزمة السورية، فبعد تلميحات الرئيس ترامب بشأن ضرورة إعادة واشنطن كأحد اللاعبين البارزين في الملعب السوري عبر بوابة المناطق الآمنة تارة ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” تارة أخرى، كانت الإدارتان، السعودية والتركية، أبرز الداعمين لهذه المقترحات.
الضوء الأخضر الخليجي يدفع أردوغان للتصعيد ضد طهران
مكاسب خليجية
تحول الموقف التركي المفاجئ تجاه إيران – خصوصًا بعد جولة أردوغان الخليجية – حمل العديد من الدلالات، أولها من حيث التوقيت كونه جاء وبشكل شبه منظم وبوتيرة متصاعدة من عدة مسؤولين أتراك على مستوى كبير من التأثير، منذ الجولة الخليجية، مما يعني أن تركيا قدمت دعمًا أكبر لدول مجلس التعاون الخليجي، فيما يتعلق بالوقوف ضد سياسات طهران في المنطقة، وأرادت إظهار ذلك إعلاميًا مقابل تعزيز العلاقات معها، ورفع مستوى التعاون على جميع المستويات، خاصة السياسية والعسكرية والاقتصادية خلال الفترة المقبلة.
الهجوم الأكبر جاء على لسان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، الذي وصف الدور الإيراني في المنطقة بأنه “دور يزعزع الاستقرار، خاصة أن طهران تسعى لنشر التشيّع في سوريا والعراق”
تركيا.. وتأمين الدور الإقليمي
الدلالة الأخرى تعتمد على كون الموقف التركي جاء في ظل المواقف المتصلبة التي يُظهرها الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب ضد طهران، وبالتالي تسعى أنقرة لاستغلال هذه القضية في محاولة لتعزيز فرصها في فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة، تحت الإدارة الجديدة.
إذا كان ما سبق يركز على المكاسب الخليجية من التحول التركي، والمغازلة التركية كما قلنا لترامب، فما مكاسب تركيا إذًا؟
معركة الباب.. مكاسب تركيا تحاصر إيران
فتش عن الحالة السورية، هذه هي الإجابة الأولى على سؤال المكاسب التركية، من خانة أن تشديد الضغط على إيران بجانب الموقف الأمريكي والخليجي، قد يجبر طهران على التراجع، وتقليل محاولاتها لتوسيع نفوذها في المنطقة، خاصة إمكانية مراجعة عملياتها في سوريا، في ظل التأزم الحالي في الهدنة الهشة.
مع الوضع في الاعتبار أن الحملة التركية ضد داعش بمدينة الباب السورية “درع الفرات”، تعتبر بالمقاييس الحالية للحروب ناجحة إلى حد كبير، وربما تدفع تركيا بعدها بقواتها أو بالمعارضة المسلحة الموالية لها، إلى معركة مشابهة بالرقة السورية، تؤمن تمامًا الموقف التركي الحدودي والإقليمي بالأزمة، خصوصًا مع اعتماد أنقرة على حقيقة أن إيران عملت بقوة خلال الفترة الماضية على توجيه ضربات لعملية درع الفرات التي يقوم بها الجيش التركي في شمالي سوريا، ومحاولة خلق صراع بين تركيا وروسيا للحد من النفوذ التركي هناك، لصالح نفوذها المتصاعد نتيجة قتالها إلى جانب قوات الأسد.
التصعيد التركي بدأ على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على هامش زيارته للخليج، حينما صرح بأن حزب الله منظمة إرهابية تتحرك في سوريا أيضًا، بجانب دورها في توتير الأجواء بلبنان
سيناريوهات مرسومة بدقة
الفرضيات الأخيرة تؤكد إذًا أن التحركات التركية الأخيرة وتصعيدها غير المسبوق ضد إيران، خطوة محسوبة بدقة، وربما قد تم رسم ملامحها بين أردوغان وكل من ملك السعودية وأمير قطر، عبر دائرة مغلقة خلال الزيارة الأخيرة للرئيس التركي للدولتين، وهي الجولة التي استثنى خلالها الإمارات ليحل محله فيها مسؤول عسكري، مما يعني أن الأيام القريبة حبلى بالمزيد من التوتر بين الجانبين، ما لم تستغل روسيا تقاربها الأخير مع تركيا للتدخل لتهدئة الموقف بين الجانبين رغبة في تحجيم الدور الأمريكي الراغب في مناطحتها النفوذ بالأزمة السورية.
فهل تكون للاستثمارات الخليجية دورًا في إقناع الدب الروسي بغض الطرف عن التصعيد التركي – الإيراني، ليترك لترامب والملك سلمان والأمير تميم بن حمد، الحرية للتحرك وفق هذا السيناريو الذي يقلم أظافر إيران تمامًا بكل من سوريا والعراق، وبالتالي يحد من نفوذ حزب الله بلبنان قبل سوريا.
الخطة محكمة، هل تنجح سيناريوهات تنفيذها إذًا؟ الأمر هنا يتوقف على التحركات الخليجية ومدى قوتها في تحييد الدور الروسي، وكسب ود ترامب، مع الوضع في الاعتبار أن إيران في وضع لا يسمح لها أن تستدعي التصعيد ضد تركيا أو السعودية أو مع دول الخليج الآن، لأنها منهزمة استراتيجيًا، بعد تصريحات ترامب الأخيرة، لكن الأهم الآن كيف ستستغل طهران مليشيا الحرس الثوري وعملاءها بسوريا؟