تقوم أيديولوجيا العسكريين الذين يحكمون بعد الانقلابات العسكرية على العنف والاستخدام المفرط للقوة لثبيت شرعيتهم الزائفة بالرصاص لا بالمنطق والحوار، هذه الشرعية التي تقوم على الاغتصاب والاستيلاء على السلطة بقوة السلاح.
ولا تزال غزارة الدماء التي أُريقت والسجون التي امتلأت بالمعارضين للحكم العسكري، شاهدة على تاريخ الانقلابات العسكرية وعلى سيكولوجية الحكم العسكري الذي احتل بعض البلاد العربية بعد الاستقلال وذهاب المحتل الأجنبي.
في مصر وقع الانقلاب العسكري بعد عام واحد من التجربة الديمقراطية، وقد بدأ عنيفًا بحملة شرسة من الاعتقالات وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات، ثم توالت المذابح الجماعية والقتل الفردي والجماعي ثم الاختفاء القسري والتصفية الجسدية لمجرد الاشتباه دون العرض على المحاكم – كحق قانوني أصيل للمتهم – ليتسنى له الدفاع عن نفسه، كل ذلك يتم مع استمرار حملات الاعتقال والمطاردة ومداهمة المنازل وحرقها والفصل من الوظائف والتعليم ومصادرة الأموال والمنع من السفر، إلخ.
يطوي العام 2016 سجله الدامي، على مئات القتلى الذين أزهق الحكم العسكري أرواحهم وأسال دماءهم دون محاكمة ودون أدلة أو اتهامات حقيقية مبنية على حقائق وبراهين
لم ولن تسكت البندقية، ولم ولن يهدأ القتل، وأصبح لا صوت يعلو في بر مصر على صوت الرصاص، الذي أصبح كلمة النظام العليا، وتميز العام 2016 بأنه عام القتل والخطف والاختفاء القسري والتصفية الجسدية خارج القانون.
فحسب التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، بلغت حالات التصفية الجسدية خارج القانون 43 حالة عام 2016، منها 34 لأسباب سياسية، و8 مواطنين لخلافات مدنية وحالة واحدة لأسباب جنائية.
ونقلاً عن موقع رصد الإخباري فقد شملت حالات التصفية عددًا من المحافظات كالتالي: كفر الشيخ (2)، دمياط (4)، بني سويف (4)، المنيا (1)، القليوبية (2)، القاهرة (6)، الفيوم (1)، محافظة الشرقية (6)، الدقهلية (3)، الجيزة (7)، الإسماعيلية (1)، أسيوط (2)، المنوفية (2)، أكتوبر (2)، وتم تصفية (14) حالة في الشارع، و(16) حالة تصفية في المنزل، و(3) حالات أخرى.
القمع والقتل وتصفية المعارضين وسرعة إطلاق الرصاص مع غياب العقل، متلازمة لا تنفك عن العسكريين، لأن الجيش أداة قتل كما قال السيسي، وعقيدته قائمة على السمع والطاعة وتنفيذ الأوامر دون تردد، كما يضيق قادته ذرعًا بالحوار والنقاش ومراجعة الأوامر.
هذه الطاعة التي في طبيعة النظام العسكري لا تقود إلى الحكم المدني والديمقراطي، لأنها “لا تشجع على تحمل المسؤولية والإبداع وحرية التعبير عن الرأي، بل تفرض الخضوع والعبودية، وما إلى ذلك من الصفات التي تتنافى مع الطرق الكفيلة بتربية جيل جديد معافى يحكم نفسه بنفسه في ظل الحياة الديمقراطية الحرة” كما قال مجيد خدوري.
ولقد أثبت التاريخ كذب ادعاء العسكريين المنقلبين على السلطة الديمقراطية، أنهم ما أرادوا إلا الخير والحفاظ على البلاد، كما أثبتت التجارب الانقلابية خاصة في البلاد العربية نية العسكر الحقيقية في التطلع إلى السلطة والطمع في حكم البلاد.
وبعد كل استيلاء للعسكر على السلطة بقوة السلاح واعتلائهم كراسي الحكم، تنضاف إلى خصائصهم العسكرية، فساد السلطة، وأخلاقيات الحكم الفردي المطلق فاقد الأهلية والشرعية، يقول الدكتور مجيد خدوري في الاتجاهات السياسية في العالم العربي: “طبيعة الحكم الفردي المطلق أن يحيط الحاكم نفسه بهالة تدفعه إلى الاقتصار على حلقة صغيرة وتبعد عنه المؤيدين والمعجبين، وقد أثبتت التجربة العربية صحة ما ذهب إليه اللورد أكتون حين قال: “السلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد بصورة مطلقة”، وهكذا ينقلب المحررون إلى طغاة مستبدين”.
يواجه العسكر بعد الانفراد بالسلطة مشكلة الشرعية والتأييد من قبل المحكومين، ومع اعتمادهم على القوة العسكرية والجيش بآلياته الثقيلة ومعداته، إلا أنهم يظلون محتاجين إلى إرساء سلطتهم المغتصبة على أسس الشرعية لكسب التأييد الشعبي والدولي لهم، وهذا ما فعله السيسي حين قدم مؤقتًا عدلي منصور في الواجهة، وظل هو من خلفه الحاكم الفعلي الآمر الناهي.
بعد فشل الحصول على الشرعية وكشف القناع عن طمع العسكريين في السلطة، يزداد بطشهم بالمعارضين والمؤيدين على السواء، لا سِيَّما الذين يرفعون أصواتهم بالنقد أو بكلام لا يروق لهم.
إن عمليات التصفية الجسدية المتزايدة في العدد والنوع والكيفية، صارت وسيلة للنظام ونهجًا له، بحيث طالت قادة في جماعة الإخوان ما كان أحد يفكر يومًا في أن يَقْدُم العسكر على تصفيتهم خارج القانون بهذه الطريقة!
بلغت حالات التصفية الجسدية خارج القانون 43 حالة عام 2016، منها 34 لأسباب سياسية، و8 مواطنين لخلافات مدنية وحالة واحدة لأسباب جنائية
العسكريون لا يملكون غير هذه الورقة الحمراء النازفة، وتلك الصناديق المعبأة بالرصاص! وسوف يستمرون في عمليات التصفية والقتل خارج القانون كلما تأزمت أمورهم وضاق الخناق عليهم، بحيث يصبح الخوف والصمت الشعبي بديلاً عن التأييد والشرعية.
يطوي العام 2016 سجله الدامي على مئات القتلى الذين أزهق الحكم العسكري أرواحهم وأسال دماءهم دون محاكمة ودون أدلة أو اتهامات حقيقية مبنية على حقائق وبراهين، وعلى آلاف طلقات الرصاص التي صوبوها على أفئدة المعارضين، ولا تزال آلاف الرصاصات في جيوبهم، منتظرة الضغط على الزناد، ليسقط المزيد من القتلى وتسيل الكثير من الدماء.
ولن تختلف السنة الجديدة عن أختها السابقة، ولن تتغير عقيدة العسكر في السيطرة واستعمال القوة وإلغاء دولة القانون واستباحة الدماء، ما لم يتغير الفكر الثوري وتتجدد المقاومة الثورية ويستقر اليقين الثوري في النفوس المتطلعة للخلاص وتتحد لتكتب نهاية لهذه المأساة.