من بين الإشكاليات التي دأبنا، وعلى مدار سنوات، على الوقوع فيها، تلك المنهجية في التعامل مع الأزمات من منظور الحلول السريعة، وليس من منظور التعامل مع جذور الأزمات، ولا يتوقف الأمر فقط عند هذا الحد، ولكن تشتعل المعارك الجدالية، وتدور ماكينة المزايدات حول جدوى تلك الحلول، ومرة أخرى لا تتمثل الخسارة فقط في الابتعاد عن حلول تواجه جذور الازمات، ولكن يضاف إليها حالة استقطاب وتشاحن داخل الصف الثوري الرافض للانقلاب العسكري ولكنها في واقع الامر تدور في فراغ كامل ولا ينتج عنها سوى تبديد للجهود وشحن للنفوس.
يمثل الحديث عن “المصالحة” بين القوى الثورية الرافضة للانقلاب العسكري وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين وبين النظام الحالي في مصر، أحد أوجه تلك الإشكالية في تعاملنا مع الحلول السريعة دون الانتباه إلى جذور الأزمة والتعامل الصحيح معها.
لا يختلف عاقلان عن حتمية تحقيق السلم المجتمعي والعمل على إنهاء حالة الإنشقاق المجتمعي، لكن هذه العملية لها استحقاقات رئيسية حتى تتم بصورة صحية وسليمة،
ويبدو أن السياق الواقعي لنقاش جاد حول “المصالحة” يفرض علينا سؤالاً مفصلياً ستحدد الإجابة عليه وقبل الدخول في حالة من الجدال مدى إمكانية إتمام مصالحة ما في هكذا توقيت، ما هي الأهداف التي يمكن أن تتحقق من خلال المصالحة؟
وحتى لا نذهب بعيداً دعنا نفترض إجابة بسيطة لهذا السؤال قد تبدو محل توافق القوى الرافضة للانقلاب العسكري، في مقدمتها هدفان رئيسيان، خروج المعتقلين من السجون وانهاء معاناة آلاف الأسر المصرية ومن ناحية أخرى تحقيق السلم المجتمعي وإنهاء حالة الانشقاق الواقعة داخل المجتمع.
1ـ خروج المعتقلين
الحديث عن أهم وأكثر القضايا ذات الأولوية لدى القوى الرافضة للانقلاب والمتمثلة في خروج الآف المعتقلين من السجون يتطلب دراية دقيقة بالواقع ومعرفة لموازين القوى داخل المشهد المصري المرتبك، حتى يمكننا تحديد مدى إمكانية خروج المعتقلين في ضوء الفرص والتحديات الموجودة في الوقت الحالي ومن خلال عملية تفاوض تنتهي بشكل من أشكال التسوية أو المصالحة، بينما سيكون من الأخطاء الفادحة تصور أن مجرد الدخول فيما يسمى عملية مصالحة مع النظام الحالي في هذا التوقيت سيكون حصادها خروج المعتقلين، يمكن القول أن مثل هذا التصور ينضوي على عدة افتراضات غير صحيحة.
الافتراض الأول: هو إمكانية أن يتخلى النظام الحالي عن الإمساك بأهم الملفات لديه “ملف المعتقلين” والذي يستطيع من خلاله تحقيق استمرارية المساومة والابتزاز بأكبر قدر ممكن للقوى الرافضة للانقلاب، وهي فرضية مستبعدة في ظل نظام لا يتوانى عن أن يتخذ “أحط” الممارسات والأساليب من أجل البقاء على رأس الحكم والحفاظ على منظومة المصالح الخاصة به، ولا مساحة في حقل أولوياته لرفع المعاناة عن آلاف المعتقلين وأسرهم.
الافتراض الثاني: أن عملية تفاوض بين القوى الرافضة للانقلاب العسكري وبين النظام الحالي في هكذا توقيت ستؤول إلى مصالحة حقيقية بين الطرفين، غير أنه في مثل تلك الظروف والأجواء يبدو من غير المنطقي أن نطلق على أي إجراء أو عملية تفاوض بين الطرفين، مصطلح مصالحة أو حتى مصطلح تسوية، بما يقتضيه هذان المصطلحان من مقدمات وإجراءات، وربما يكون المصطلح الأقرب إلى الواقع هو شروط استسلام والتي لن تخرج عن إطار استراتيجية نظام مبارك مع الجماعة الإسلامية في أواخر التسعينيات، تلك المتمثلة في البدء في مراجعات فكرية بعد فترة من التنكيل والتضييق الشديد على المعتقلين داخل السجون، يعقب تلك المراجعات دفعات افراج مشروطة بالابتعاد عن أي مساحة عمل سياسي والاكتفاء فقط بالعمل الدعوي.
يعرف جيدا أهل السياسة أن مجرد إطلاق مصطلح سواء بالرفض أو بالقبول، يسير في اتجاه تسويق المصطلح والقبول به في النهاية
2ـ السلم المجتمعي
لا يختلف عاقلان عن حتمية تحقيق السلم المجتمعي والعمل على إنهاء حالة الانشقاق المجتمعي، لكن هذه العملية لها استحقاقات رئيسية حتى تتم بصورة صحية وسليمة، ولا تتخذ مجرد شكلاً صورياً داخل مجتمع اثخنته الجراح والخلافات، وتعد أولى تلك الاستحقاقات توفير بيئة ملائمة تستطيع من خلالها تحقيق السلم المجتمعي المرغوب فيه، ولن يكون من الصعب تحديد مواصفات تلك البيئة والتي لن تبتعد عن توفر قدر كبير من قيم العدل والحرية، في المقابل سيكون ضرباً من الخيال الشروع في تحقيق سلم مجتمعي في ظل بيئة غارقة في الاستبداد والقمع والسيطرة الهائلة على المجتمع، ويمكننا الجزم من خلال التجارب التاريخية لحالات الاستبداد الشديدة أن الدخول في عملية مصالحة قبل توفير البيئة الملائمة، وفي ظل استمرار السلطة المستبدة وبالتبعية استمرار ممارساتها، لن يثمر تطور إيجابي ملموس في اتجاه السلم المجتمعي.
ويتضح من خلال الحديث عن الهدفين السابقين أن وجود النظام الحالي وعلى قمة هرمه شخص السيسي سيمثل العائق الرئيس في البدء في أية مصالحة حقيقية ينتج عنها تحقيق الأهداف المذكورة.
وهنا نقول: يعرف جيدا أهل السياسة أن مجرد إطلاق مصطلح سواء بالرفض أو بالقبول، يسير في اتجاه تسويق المصطلح والقبول به في النهاية، بغض النظر عن مضمونه وما يحتويه ربما من تناقضات مع ظاهر المصطلح نفسه، لذلك يبدو من إطلاق مصطلح “المصالحة” وتمريره في ذلك التوقيت يعد نوعاً من أنواع التمارين الذهنية التي تُستدعى إلى العقل الجمعي لرافضي الانقلاب، والتي من خلال الوقت تُكسب العقل الجمعي اللياقة اللازمة لقبول المصطلح بدون الوعي بمضمون أو جوهر تلك العملية، التي يمكن أن يتم الاتفاق عليها تحت غطاء مصطلح “المصالحة”، وتسويقها من قبل النظام على أنها “مصالحة” وهو الامر الذي يعطي صورة ذهنية لدى الداخل والخارج بمدى تحلي النظام الحالي بالديمقراطية وقيم الحرية حتى مع أشد مخالفيه.
وتبدو الإشكالية هنا من فرض مصطلح لا يعبر عن الواقع والتعامل من خلاله مع الأزمة المصرية وفي غياب من التحقق من أن المصطلح يعبر بالفعل عما يمكن أن نعتقد أنه يقدم حلول للأزمة ويحقق الأهداف، ومع الوقت ننحرف تماما عن مسار الأهداف المرجوة حتى لا ننزلق دون أن ندري إلى مسارات قد صنعها المصطلح ولا تسير بأي شكل في تحقيق ما نرغب في تحقيقه.
يبدو أن السياق الواقعي لنقاش جاد حول “المصالحة” يفرض علينا سؤالاً مفصلياً ستحدد الإجابة عليه وقبل الدخول في حالة من الجدال مدى إمكانية إتمام مصالحة ما في هكذا توقيت، ما هي الأهداف التي يمكن أن تتحق من خلال المصالحة؟
خلاصة
“علينا أن نكون مستعدين للتفاوض دائماً .. لكن فقط ونحن نتقدم” تلك الكلمات المباشرة كتبها المستشار النمساوي “كليمنس فون مترنيخ” وزير خارجية الامبراطوية النمساوية في الفترة من عام 1809 وحتى العام 1848 والذي يعد من أهم سياسي اوروبا في القرن التاسع عشر، ورغم بساطة الكلمات ولكنها تعبر عن رؤية واقعية تسبق الدخول في أي مفاوضات أو مصالحات.
على القوى الرافضة للانقلاب وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، أن تصارح نفسها ما إذا كانت تتقدم فعلاً، بما يمكنها وقتما تذهب إلى التفاوض أن تستطيع فرض شروطها، بل وربما أن تذهب إلى أبعد من ذلك، حتى لو كانت “المصالحة”، ولكن فقط لا تفعلها إلا وهي تتقدم، أما إذا كانت ضعيفة ولا تستطيع التقدم وذهبت للتفاوض، فلن تحصل إلا على القليل بل ربما تخسر أهم ما تمتلك من مصادر قوتها، ألا وهو تلك الجماهير التي تحتشد خلفها.
المصدر: المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية