يبدو أن دخول هيئة تحرير الشام بعناصرها أو عناصر مدعومة منها إلى خط المواجهة مع القوات العشائرية ضد ميليشيات قسد مؤخرًا قد أثار زوبعة في فنجان الفصائل المناهضة للهيئة في الجيش الوطني بريف حلب، لا سيما بعد ورود معلومات تحدثت عن تموضع قوات تابعة لـ”تحرير الشام” في أرياف مدينتي الباب وجرابلس شرقي حلب، منذ أسبوعين، ضمن مقار فصائل “فرقة الحمزة” و”أحرار الشام – القطاع الشرقي” و”فرقة السلطان سليمان شاه”، التي تشكل شبه تحالف مع الهيئة.
وجدت تحرير الشام – خلال المواجهات الأخيرة بين قوات عشائرية وميليشيات قسد بجبهات الباب وريف منبج وجرابلس – فرصة لا تعوض للتوغل أكثر في مناطق سيطرة الجيش الوطني بريف حلب، أدخلت سيارات مصفحة وأسلحة متوسطة وعناصر من الجهاز الأمني تحت غطاء قوات العشائر التي خاضت حربًا عنيفةً ضد قوات قسد انطلقت شرارتها بدير الزور مطلع الشهر الحاليّ سبتمبر/أيلول.
ويبدو أن تحرير الشام كانت تفكر بما بعد تلك المواجهات، محاولةً إعادة الكَرّة على مناطق سيطرة الوطني بعد نجاح محاولتها الأولى مطلع أكتوبر/تشرين الأول عام 2022، عندما سيطرت على عفرين بعد تدخلها في القتال إلى جانب “فرقة الحمزة” بالاشتراك مع فصيل “فرقة سليمان شاه” و”حركة أحرار الشام – القاطع الشرقي”، ضد الفيلق الثالث الذي انكفأ إلى معقله في إعزاز تاركًا مقراته في عفرين وضواحيها.
ورغم رضوخ تحرير الشام وقتها لمطالب الجانب التركي بضرورة الانسحاب من عفرين، فإنها استطاعت إبقاء بعض مجموعاتها الأمنية والعسكرية في مقرات حلفائها “فرقة الحمزة و”سليمان شاه” و”حركة أحرار الشام – القاطع الشرقي”.
استنفارات واسعة
استنفرت القوات التركية وفصائل من الجيش الوطني، مساء الخميس 14 سبتمبر/أيلول الحاليّ، ونشرت مدرعات لها وعربات مجنزرة، في حاجز كفر جنة القريبة من إعزاز، كما عمدت الفصائل إلى قطع طريق (إعزاز- قطمة) من خلال رفع سواتر ترابية، وذلك بعد وصول أرتال من تحرير الشام إلى تخوم عفرين بريف حلب الشمالي عبر مدينة دارة عزة، حيث تمركزت في معسكر تابع لـ”أحرار الشام – القاطع الشرقي” المتحالف معها، بقرية ترندة.
وضمّت الأرتال قرابة 70 سيارة وبيك آب مزودة برشاشات متوسطة كانت تنوي الدخول تحت غطاء فزعة العشائر المرابطة على جبهة منبج ضد قسد.
في حديثه لنون بوست، قال سراج الدين العمر، مدير المكتب الإعلامي للفيلق الثالث: “الهيئة أرادت الدخول إلى معبر الحمران الاقتصادي الواقع في مناطق سيطرة الجيش الوطني بعد انشقاق مجموعة من فصيل “أحرار الشام – القاطع الشرقي” وسيطرتها على المعبر وطردها مجموعة أخرى موالية للهيئة، ما أغضب الهيئة ودفعها للتوجه ليلًا إلى تخوم مدينة عفرين لإعادة المجموعة الموالية لها إلى إدارة المعبر”.
مضيفًا: “لوحظ تحرك كل قوات الهيئة التي كانت قد أرسلتها تحت مسمى فزعة العشائر، وهو ما يعني رغبة الهيئة المسبقة وتحضيرها للسيطرة الفعلية على معبر الحمران، الذي يربط مناطق سيطرة الفصائل بمناطق سيطرة “قسد” شرقي حلب”.
وتأتي رغبة الهيئة بعد سيطرة الكتلة الكبرى داخل “أحرار الشام – القطاع الشرقي” على معبر الحمران بجرابلس، وانضمامها حديثًا لمرتبات الفيلق الثاني في الجيش الوطني، في محاولة منها للاحتماء بالفيلق الثاني الذي يشكل عماده فصيلُ السلطان مراد صاحب الحظ الأكبر في الدعم التركي.
وما زال الاستنفار الذي جاء بطلب من وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة بعد التنسيق مع الجانب التركي، قائمًا من فصائل الجيش الوطني في حواجز كفر جنة مدخل إعزاز معقل الفيلق الثالث، إضافة إلى طلب المخابرات التركية من فصيلي فرقة الحمزة وسليمان شاه المواليَين لتحرير الشام باستنفار عناصرهما في منطقة الباسوطة بريف عفرين، لمنع وصولها إلى معبر الحمران.
بالمقابل فقد نشرت قناة أمجاد الإخبارية (الذراع الإعلامية لهيئة تحرير الشام) على قناتها في تليغرام، خبرًا يشير إلى أنه جرى الاتفاق بين تحرير الشام والجيش الوطني على تلبية مطالبها مقابل عدم دخول قواتها لمناطق الأخير، دون أن توضح ماهيّة هذا الاتفاق والمطالب.
فيما تقول معلومات حصل عليها “نون بوست” من مصادر خاصة إن “الاتفاق الأولي يقضي بانسحاب تحرير الشام وبقاء معبر الحمران تحت إدارة الكتلة المنشقة عن “أحرار الشام – القاطع الشرقي” المنضمة للفيلق الثاني (فرقة السلطان مراد) بقيادة أبو حيدر مسكنة، مع بقاء ملف واردات المحروقات لصالح تحرير الشام في مناطق نفوذها بإدلب وريف حلب الغربي”.
أنظار نحو “معبر الحمران”
يمكن القول إن الصراع الحقيقي بدأ منذ الآن، بعد خسارة تحرير الشام معبر الحمران الرابط بين مناطق الجيش الوطني المعارض ومناطق سيطرة قسد، ويشكل أيضًا خطًا رئيسيًا لمرور قوافل النفط القادمة من شمال شرق سوريا باتجاه مناطق المعارضة وهو السبب في تحوله إلى نقطة صراع بين الفصائل العسكرية.
ترى الهيئة أن فقدانه خسارة اقتصادية لا يستهان بها لصالح الفيلق الثاني التابع للجيش الوطني، وتحديدًا فرقة السلطان مراد التي ضمت الكتلة المنشقة عن “أحرار الشام – القطاع الشرقي”، ما يعني تقلص مكاسب الهيئة الاقتصادية بعد أشهر من التمدد والتخطيط، فضلًا عن غضب الهيئة من تصرف الكتلة المنشقة الذي لن يمر بسلام، بالنظر إلى ما كشفته الأحداث السابقة في تعامل تحرير الشام مع خصومها وتفكيكها أي فصيل يهدد مصالحها الاقتصادية.
كانت وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة، الجناح المدني للجيش الوطني، قد أعلنت في مارس/آذار الماضي، تسلّمها إدارة وتشغيل المعبر بعد خمسة أشهر من التنازع عليه، من خلال لجنة ضمت كلًا من معاون وزير الدفاع للشؤون المالية ومدير إدارة الشرطة العسكرية ونائب مدير إدارة الشرطة العسكرية لشؤون المعابر والحواجز.
اهتمام “تحرير الشام” بالمعابر
اهتمت هيئة تحرير الشام في إدلب وريف حلب الغربي عمومًا بالمعابر كشريان تمويل رئيسي لها من حيث فرض الضرائب والإتاوات المالية الباهظة على البضائع الصادرة والواردة إلى مناطق سيطرتها، ويأتي في مقدمتها:
– معبر “ترنبة-سراقب” المتاخم لمناطق سيطرة النظام عند مدينة سراقب في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، وقد افتتحته في سبتمبر/أيلول الفائت وكانت تدخل عبره قوافل إنسانية أممية عدة قادمة من مناطق النظام إلى المناطق المحررة في شمال غرب سوريا.
– معبر “باب الهوى الحدودي” مع تركيا، وهو الممر الوحيد الواصل بين محافظة إدلب وتركيا ويُعدّ شريان حياة للهيئة، إذ تُفرض إتاوات على كل البضائع من سيارات أوروبية ومحروقات أوروبية ومواد غذائية ومواد بناء وغيرها.
– معبر “دير بلوط” الداخلي شمال إدلب، وهو المعبر الأكثر تشديدًا بسبب جغرافيا المنطقة ووعورتها وكثرة الطرق الزراعية، إذ يشهد العديد من عمليات التهريب الفردية والأحمال الصغيرة من محروقات وإلكترونيات وقطع سيارات وغيرها، وهو مخصص لعبور المدنيين من دون السماح للحركة التجارية، وقد شهد سابقًا العديد من حوادث استهداف قتل ممنهج من عناصر الهيئة ضد نساء يحملون بيدونات محروقات بغرض بيعها والتعيّش منها.
– معبر “الغزاوية” الداخلي غرب حلب، سيطرت عليه تحرير الشام عام 2019، بعد معارك ضد حركة نور الدين الزنكي التي كانت تسيطر عليه.
يشير القيادي المنشق عن تحرير الشام “صالح الحموي”، عبر قناته في تليغرام المعروفة بـ(أس الصراع في الشام)، أن تحرير الشام كانت تحصل من معبر الحمران يوميًا على 100 ألف دولار، قبل أن تسيطر الكتلة المنشقة عن تحرير الشام القطاع الشرقي على المعبر، وتعطي القسم الأكبر من الواردات لوزارة الدفاع التابعة للحكومة المؤقتة.
مضيفًا، أن الجيش التركي رد أرتال الهيئة التي دخلت تحت غطاء العشائر لاستعادة سيطرة كتلتها الموالية لها على المعبر، في محاولة منها فرض أمر واقع لاستباق أمر قادم ضدها حيث تجهز تركيا لتوحيد المعابر تحت إدارة موحدة بما فيها معبر باب الهوى، ما يعني أن تحرير الشام ستخسر قسمًا كبيرًا من مواردها، حيث ستضطر إلى دفع جمارك، فهي تريد الضغط للتفاوض من أجل قرار توحيد المعابر.
وحسب تقرير تحليلي أصدره “مركز جسور للدراسات”، ديسمبر/كانون الأول الفائت، فإن موارد الهيئة الشهرية من استثمارات المحروقات تقدّر بنحو 300 ألف دولار شهريًا، أي ما يزيد على 3.5 مليون دولار سنويًا، على أقل تقدير.
استماتة بالتوغل
تواجه الهيئة هذه المرة مشكلة معقدة تتمثل بالدعم التركي الكبير الذي تحظى به “فرقة السلطان مراد”، ما يعني أن أي هجوم غير مدروس قد يكلفها تداعيات خطرة، كما أن هيئة تحرير الشام حركة تتميز ببراغماتية عالية، إذ تدرك ارتباط فصائل الجيش الوطني مع تركيا وخاصة السلطان مراد، كما تدرك أن قدرة هذه الفصائل محدودة بالنسبة لصراع تركيا مع التنظيمات الكردية المعادية لها، وتشكيلها رغم محدودية قوتها حجرة عثرة للتمدد والاستفراد بسلطة المنطقة وحدها كما في إدلب.
يشير “حسن هنية” الباحث في الحركات الجهادية، إلى أن تحرير الشام تحاول دائمًا مغازلة تركيا.. فكلنا تابعنا كيف ساهمت في تصفية زعماء تنظيم الدولة داعش، إضافة لقدرتها على إقصاء شخصيات وتيارات مهمة ضمن هيكليتها كما حصل مؤخرًا ضمن ما يعرف بصراع الأجنحة، مضيفًا لنون بوست، أنها (تحرير الشام) تبقى القوة الأكبر والأهم وتركيا تدرك ذلك وكثيرًا ما تتسامح معها في تجاوزاتها.
وعلل “هنية” خطوة تحرير الشام الأخيرة بالتوغل في مناطق الجيش الوطني، بأن تحرير الشام دائمًا ما تقوم بعمليات عسكرية دقيقة لإثبات قدرتها وقوتها لحسم العديد من القضايا، وأنها القوة الوحيدة القادرة على مواجهة أي طرف لا سيما قسد المعادية لتركيا، لذلك نراها مستميتة للحصول على نقاط رباط متاخمة لقوات قسد، كما أنها تقوم في الوقت ذاته بعمليات جس نبض وبرهنة على التماهي مع الأهداف التركية، مع الحفاظ على مشروعها بالتمدد أكثر في الشمال السوري.
ويبدو أنه ليس من مصلحة تركيا خوض صراع شامل مع الهيئة عبر حليفها الجيش الوطني، حتى لو أنها موضوعة على لائحة الإرهاب العالمي، لأنها تعلم يقينًا – حسب الباحث هنية – أن الجيش الوطني التابع لها غير مؤهل بأن يكون قوة موازية لتحرير الشام، وتقديم خدمات مشابهة للخدمات التي تقدمها تحرير الشام، فضلًا عن عدم قدرته على مواجهة ميليشيات قسد المدعومة أمريكيًا.
ويمكننا ختامًا القول، إن احتمال عودة تحرير الشام لضرب خصومها وارد جدًا، إذا وجدت نفسها محاصرة ماليًا خاصة بالنسبة للمعابر التي تمثل لها المورد الأهم، فقد أمّنت لها تلك المعابر قدرة على الصمود خلال السنوات الماضية، وباتت تتوسع في خدماتها ضمن مناطق سيطرتها، وهو ما أدى لاستهلاك هذه الخدمات جزءًا كبيرًا لمواردها، الأمر الذي جعلها تفكر بطاقة إيرادية جديدة خلف حدود سيطرتها، كونها لا تخضع لأي تمويل دولي.
من جهة أخرى، فإن مشروعها بالتمدد في مناطق الجيش الوطني بات يشكل حلمًا لها لما يشكّله التمدد من ورقة ضغط على اللاعبين الدوليين، ورغبة منها في أن تكون مقبولة ومنظّمة في المنطقة، لا سيما أنها استطاعت من خلال ذراعها الإدارية (حكومة الإنقاذ)، الانخراط في المجتمع المدني، وتقديم نموذجًا إداريًا أفضل من نموذج نظيرها الجيش الوطني.