على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، في الجنوب الشرقي لتونس، تقع جزيرة المساجد والأحلام جربة، التي حافظ معمارها على نمطه البسيط الفريد رغم تطور الحياة الحضارية، وحافظ أهلها على سمة التعايش والتنوّع في الدين والعرق لتكون بذلك واجهة سياحية فريدة وقبلة الحجيج اليهود، فبمناخها المعتدل الرائع وأجوائها الجميلة وشواطئها الرملية الناعمة وتضاريسها المنبسطة ونخلها الباسق وشجر زيتونها الممتدّ على كامل أرجائها، استطاعت “جزيرة الصيّادين جربة” سحر سكانها الأصلين وزائريها الأجانب على حدّ السواء.
هندسة معمارية تعكس فلسفة حياة
إلى جانب شواطئها الذهبية وتربتها الرملية، تميّزت جزيرة جربة أيضا بهندسة معمارية فريدة، زاوجت بين الأصالة والحداثة، لتعكس بذلك فلسفة حياة تكوّنت على مرّ العصور، فما يميّز الجزيرة هو التركيبة المعمارية التقليدية التي تقوم على ما يطلق عليه اسم “الحوش” وهو عبارة عن منزل منطوي على ذاته يتّحه نحو الدّاخل، تمّ طلاء أرضه بالكلس، به عدة “بيوت” لا يمكن أن يتجاوز عرضها مترين ونصف (غرفة) وبها فتحات تهوية يجمعها فناء واحد، ذي نوافذ منخفضة تحمى الغُرف من الحرارة والضوء، ويحيط به أشجار النخيل والزيتون.
من هذه المساجد نجد “مسجد الوطا”، الذي يقع في المنطقة الريفية داخل غابة من الزيتون بين منطقة “سدويكش” والطريق الرومانية القديمة على بعد 10 كيلومترات عن مدخل الجزيرة
وبقدر ما تعرف الجزيرة، التي يبلغ إجمالي مساحتها 514 كيلومترا مربعا ويقدر طول شريطها الساحلي بـ 125 كيلومترا، بمنازلها التقليدية الضاربة في التاريخ، تعرف كذلك بمساجدها العامرة، لاحتوائها على قرابة 300 مسجدا، يطغى عليها اللون الأبيض، معظمها يتميز ببساطة معمارها وصغر مساحتها وتواضع زينتها ونقشها، حيث تغيب عنها الزخارف المعتادة، منها عشرين مسجدا تحت الأرض، تم تشييدها من خلال الحفر والنقش في أوائل القرن الثاني عشر ميلاديا، موزعة على مختلف مناطق الجزيرة، وهي مثال عن تمازج الحضارة البربرية التي سكنت البلاد منذ القدم بالحضارة الإسلامية التي طوّرت الجزيرة، بهندستها الفريدة من نوعها.
جربة تسحر السياح بجمالها
ومن هذه المساجد نجد “مسجد الوطا”، الذي يقع في المنطقة الريفية داخل غابة من الزيتون بين منطقة “سدويكش” والطريق الرومانية القديمة على بعد 10 كيلومترات عن مدخل الجزيرة، ويتكون من فضاء خارجي وآخر داخلي على عمق ثلاثة أمتار تحت الأرض وبه مدرج”، وفي الفضاء الخارجي للمسجد توجد قبتان ويرتكز المعلم في الداخل على أعمدة وأقواس وله محرابان؛ الأول كان يستعمله الإمام والثاني كان يستخدم في تدريس القرآن الكريم في ذلك الوقت، وهناك أيضا جامع فضلون، ويقع بأطراف منطقة خزرون بالشمال الشرقيّ للجزيرة، ويقال إن تاريخه يعود للقرن الرّابع عشر ميلادي، ويتكوّن من وحدات عدة، منها بيت الصّلاة، الرّحبة، الكتّاب والملحقات الدّاخليّة، الميضأة، المخبزة، وطاحونة الحبوب.
مساجد جربة تحتزل تاريخ الجزيرة
وإلى جانب دورها الديني، استخدمت هذا المساجد التي وجدت إلى جانبها معاصر وبيوت ومخازن تحت الأرض، كحصون دفاعية للاحتماء من خطر القراصنة والحملات العسكرية، لمعاضدة الأبراج، حيث يتم من خلالها إبلاغ الأهالي بالخطر القادم إلى الجزيرة ليأخذوا حذرهم فتضيء منارات الحصون والجوامع لبعضها متبادلة إشعارات الإنذار والتحذير من الخطر القادم، حسب عديد المؤرخين.
تعايش وتنوّع في الدين والعرق
منذ القدم، عرفت جزيرة جربة باستقبالها واحتضانها للأقليات الدينية والعرقية، فكانت لهم ملاذا أمنا، فإلى جانب السكّان المسلمين الذي يعتنقون المذهب المالكي والإباضي، نسبة إلى أحد مؤسسيه عبد الله بن أباض الموري التميمي، يوجد في جربة حوالي 2000 يهودي من السكّان الأصليين لها، عاشوا في الجزيرة منذ الاف السنين.
يتكون الكنيس من بنايتين كبيرتين الأولى خاصة بالعبادات ويغلب عليه اللون الأبيض والازرق، ويوجد بداخله بيت للصلاة
وفي مايو من كل سنة، يقصد الاف اليهود من أنحاء العالم، “معبد الغريبة”، في جربة لأداء طقوس “زيارة الغريبة”، أو ما يعرف بـ “حج اليهود”، على مدى يومين. ويعدّ “معبد الغريبة”، الذي توجد فيه، بحسب الأسطورة، واحدة من أقدم نسخ التوراة في تونس، الكنيس اليهودي الأكبر والأقدم في أفريقيا حيث يعود تاريخه إلى قرابة 2600 سنة، وتزعم بعض الروايات التاريخية أن امرأة يهودية قدمت إلى جربة واستقر بها الحال في مكان كنيس الغريبة الآن وعرفت هذه المرأة بالكرامات فأقيم لها هذا المقام عند الممات، كما سمي الكنيس “الغريبة ” نسبة إليها.
معبد الغريبة
ويتكون الكنيس من بنايتين كبيرتين الأولى خاصة بالعبادات ويغلب عليه اللون الأبيض والازرق، ويوجد بداخله بيت للصلاة وهو المكان الذي تؤدى فيه أهم طقوس حج الغريبة، أما البناية الثانية فتستعمل لإقامة الاحتفالات بالأهازيج والموسيقى التونسية وتوزيع الأكلات التونسية في أيام زيارة اليهود.
وتتمثل هذه الطقوس والاحتفالات في إقامة صلوات وإشعال شموع داخل الكنيس والحصول على “بركة” حاخاماته وذبح قرابين (خرفان) والغناء وتناول نبيذ “البوخة” المستخرج من ثمار التين، الذي يشتهر بصناعته يهود تونس دون سواهم.
عادات وتقاليد مشتركة رغم الاختلاف
رغم تعدّد الديانات والأعراق في جربة التي يعود تاريخها إلى عصور ما قبل التاريخ، فإن المجتمع الجربي يتميّز بعادات وتقاليد مشتركة طغى عليها الطابع العربي الإسلامي، ففي الأكل مثلا، تمثل الشرمولة والسمك المقلي الأكلة الرئيسية يوم عيد الفطر لسكّان جربة، والشرمولة هي عبارة عن مرق البصل والطماطم والفلفل الأحمر والزيت والملح. أما السمك فيقلى بالكركم والكمون والملح قبل العيد بيوم واحد. وتؤكل شرمولة جربة بخبز أصفر اللون يسمى كسرة يصنع من الفارينة، وفي سائر الأيّام يكون الكسكسي المصنوع من القمح الصّلب الّذي يتمّ طهيه بالبخار في وعاء ذي قعر مثقّب موضوع فوق قدر يحوي مرق متكوّن من زيت الزّيتون والبصل والملح والهريسة وبعض التّوابل والخضر، طعامهم الرئيسي.
يحمل العرس الكثير من التفاصيل المشتركة بين أهل جربة على مدار 3 أيام
حتى طقوس الأعراس، حافظت على مراحل أساسية رغم بعض الاختلافات بين اليهود والمسلمين، وتبدأ المراسم ب “الحجبة” للعروس في منزل أهلها، التي تصل مدّتها ب40 يوما منذ تحديد موعد الزفاف، وبعدها يقوم النسوة بتنظيف “المنزل” وإعداد دقيق “الزّمّيطه“ بمنزلي العروس والعريس على حدّ السّواء، ثم طقس “البربوره“الذي يتمثّل بزيارة لشجرة من أشجار الزّيتون الموجودة بمنزل العريس أو العروس، فتخضيب بعض أطراف الجسد بالحنّاء خاصّ بالنّساء ويقتصر استعمال خضاب الحناء عند الذكور على إصبع من الأصابع وأحيانا جزء من الكف. وتتسلّم العروس في عموم مناطق الجزيرة من العريس في مناسبتين بعض الهدايا يتمّ إرسالها ضمن موكب أوّل يطلق عليه “الحنّة الصّغيره” وموكب ثان يطلق عليه “الحنّة الكبيره“.
طقس “الجحفة”
وفي اليوم الثالث، تجرى الوليمة لدى العريس ويقدّم الطّعام للمدعوّين، وفي الليل يقام “الحفل” بمناسبة الزّواج وتحييه وتنشّطه غالبا مجموعة “الطبّالة” الفلوكلورية بلباس عناصرها المتميّز. ويوم انتقال العروس من منزل أهلها إلى منزل عريسها، تنتقل في” الجحفه” في هودج محمول فوق ظهر جمل مصحوبة بحشد من الأقارب والضّيوف، ويتصدّر الموكب وحولها الرّجال والأطفال ثمّ الهودج وخلفه النّسوة والفتيات.