رقعة العمران في مدينة الموصل قبل نحو قرن من اليوم كانت لا تتجاوز ما يقارب 20% من الحجم الحالي للمدينة، وكانت تقتصر على مدينة الموصل القديمة أو كما يعرف محليًا بـ”المحيليل” والتي تمتد داخل سور الموصل التاريخي إضافة لبعض الامتداد البسيط أو المعالم خارج المدينة كجامع النبي يونس في الضفة الشرقية لنهر دجلة وبعض البيوت حوله، وبقيت مدينة الموصل بشكل أساسي داخل السور التاريخي الذي يعود تاريخ بنائه الأولي إلى سنة 80 هجرية 699م وبناه والي الموصل محمد بن مروان أخ الخليفة الأموي الخامس في ذلك الوقت مروان بن عبد الملك.
تم هدم السور وبنائه عدد من المرات خلال فترات متلاحقة من الزمن وبلغ أوج عظمته في فترة حكم الأتابكة، وكان له فضل كبير على مدينة الموصل وأهلها خاصة في الحماية من السراق وقطاع الطرق وبعض الخوارج الموجودين في بادية الجزيرة غرب الموصل، وأبرز المحطات التاريخية في سور الموصل مرتبط بحملة الشاه الصفوي نادر شاه وحصاره لمدينة الموصل، وصمود المدينة وسورها ضد مدافع الصفويين وانكسار الحملة عام 1743م بانتصار أهل الموصل.
في النهاية قررت بلدية الموصل في القرن العشرين إزالة السور لتوسعة المدينة على مراحل متعاقبة، لكن الأبنية والشوارع والمناطق القديمة داخل سور المدينة بقي أغلبها على نفس النسق القديم، وشق داخل تلك الأحياء بعض الشوارع الرئيسية مثل شارع فاروق الذي يخترق قلب المدينة القديمة ويوصل إلى أبرز معالم المدينة الأثرية وهي جامع النوري الكبير ومنارة الحدباء الشهيرة.
أحياء الموصل القديمة يبدو الطراز المعماري التاريخي هو الطاغي، فهناك بيوت من الحجر والجص وشوارع ضيقة ذات كثافة سكانية عالية تقطنها قبائل عربية معروفة وبيوتات موصلية عريقة
في أحياء المدينة القديمة مثل باب سنجار وباب جديد وباب السراي والتي تم تسميتها بالاعتماد على أسماء الأبواب القديمة لسور الموصل التاريخي التي وصلت في منتصف العهد الثماني في فترة حكم الجليلي الأول للموصل ثلاثة عشر بابًا، يبدو الطراز المعماري التاريخي هو الطاغي، فهناك بيوت من الحجر والجص وشوارع ضيقة ذات كثافة سكانية عالية تقطنها قبائل عربية معروفة وبيوتات موصلية عريقة تعود بك لتاريخ الدخول الإسلامي للمدينة سنة 16هجرية في زمن الخليفة عمر بن الخطاب وبقيادة الصحابي ربعي بن الأفكل، وتعاصر دول مختلفة متعاقبة وأعراق وأديان مختلفة تنصهر في بوتقة مدينة التعايش الموصل الحدباء الذي ينحني لها دجلة العظيم احترمًا عند وصوله شمال المدينة.
صورة نادرة لسور الموصل مع الخندق من جهة محلة باب البيض عام 1888
أين وصلت معركة الجانب الأيمن بعد أسبوع من الانطلاق؟
سبعة أيام على خروج العبادي بكلمة متلفزة يعلن فيها بداية معركة تحرير الجانب الأيمن التي اندفعت فيها القوات العراقية لتحقق انتصارًا سريعًا في المنطقة المفتوحة شمال ناحية حمام عليل وحتى مطار مدينة الموصل ومعسكر الغزلاني الذين يشكلان أول منشأة جنوب مدينة الموصل، وبعد كثافة نيرانية عالية ودعم أمريكي تمكنت القوات العراقية من تحرير معسكر الغزلاني ومطار الموصل والمنطقة السكنية الواقعة بين مطار الموصل ونهر دجلة والتي تسمى “حاوي الجوسق”.
اعتمد التنظيم ثلاثة أنواع من خطوط الصد في الأحياء الجنوبية وهي المصدات الكونكريتية وأكوام من الحجارة والرمل إضافة لإجبار المواطنين على وضع عجلاتهم في منتصف الشوارع لمنع التقدم المريح للقوات العراقية
كما دخلت أول أحياء الجانب الأيمن وهي أحياء “الجوسق، الطيران، الغزلاني، وادي حجر” لتصدم القوات العراقية بكثافة نيران من عناصر تنظيم داعش، إضافة لوجود عناصر وقناصة للتنظيم على أسطح منازل يوجد بها عوائل من المدنيين، واعتماد التنظيم ثلاثة أنواع من خطوط الصد في تلك الأحياء وهي المصدات الكونكريتية وأكوام من الحجارة والرمل إضافة لإجبار المواطنين على وضع عجلاتهم في منتصف الشوارع لمنع التقدم المريح للقوات العراقية.
الواقع الجديد فرض على القوات العراقية تغيير طريقة القتال وعدم الاعتماد على الدعم الجوي بسبب وجود المدنيين في تلك المناطق وقصف نقاط محددة ومنتخبة فقط، إضافة لدفع داعش بمقاتلي النخبة عقّد الأمر في تلك المناطق مما جعل عملية التقدم تحسب بالأمتار فقط، خاصة أن القوات التي تقاتل في المناطق أعلاه هي قوات الشرطة الاتحادية وقوات الرد السريع، وهم ليسوا بمستوى جاهزية وتدريب جهاز مكافحة الإرهاب المتمرس في حرب الشوارع والذي يقاتل في الأحياء الغربية حيث حقق تقدمًا واضحًا بتحرير شبه كامل لحي المأمون أول أحياء الموصل من الناحية الجنوبية الغربية.
قوات الشرطة الاتحادية في مدخل حي الطيران من جهة مطار الموصل
كيف ستكون المعركة داخل سور الموصل؟
القوات العراقية توجد على بُعد كيلومترين تقريبًا من مركز الجانب الأيمن الذي يوجد به المجمع الحكومي القديم، وبعد هذا المركز تبدأ حدود مناطق مدينة الموصل القديمة حيث تضيق الشوارع وتزدحم البيوت بكثافة سكانية عالية مما يجعل مهمة القتال عصيبة من الناحية العامة لكن لكل جهة من أطراف الصراع نقاط قوة وضعف في تلك المناطق.
تشكل الكثافة السكانية وعدم القدرة على استخدام سلاح الجو، إضافة لعدم قدرة الآليات العسكرية للدخول لتلك الأحياء بسبب ضيقها وعدم اتساع شوارعها أبرز العوامل التي يمكن لداعش الاستفادة منها في المعركة داخل تلك الأحياء.
لكن أبرز النقاط التي يمكن اعتبارها نقاط قوة لصالح القوات العراقية هي سقوط أبرز سلاحين لداعش، سلاح السيارات المفخخة التي يتعذر استخدامها وسلاح القناص لعدم اتساع الأفق بسبب تداخل الأبنية وتعرج الشوارع بما يمنع الرؤية.
إضافة للنقطتين الأساسيتين فإن هناك نقاط أخرى من وحي المرحلة الأولى للمعركة، فداعش تحرق قوات النخبة في خط الصد في أحياء جنوب الموصل الأمر الذي يفقدها عناصرها المتمرسين في حرب الشوارع، وهذه نقطة مهمة يجب الانتباه لها، إضافة لوجود الدعم التقني الأمريكي الواضح الذي يؤمن معركة الرصد التي تحتدم في السماء بين طائرات القوات العراقية المسيرة وطائرات التنظيم.
ستتحول من معركة على الأرض إلى معركة فوق أسطح المنازل في الأحياء القديمة، والخطر الأكبر هو تهور داعش وتفجير منازل أول عجلات داخل تلك الأزقة الأمر الذي يؤدي لنتائج كارثية على السكان
إضافة لكل ذلك فإن عملية الانسحاب من المناطق القديمة ليست بالسهلة لسهولة تطويق تلك المناطق عبر الشوارع الرئيسية خاصة إذا علمنا أنها لا تمثل اتساعًا جغرافيًا كبيرًا مثل الأحياء الحديثة، وفقدان داعش لسلاح الأنفاق حيث حاولت أكثر من مرة حفر أنفاق في تلك المناطق لتنهار بسبب وجود المياه الجوفية وهشاشة البيوت والتربة هناك الأمر الذي أفقد داعش سلاح المفاجأة المناورة والانسحاب.
لذلك لا أعتقد أن المعركة تسير باتجاه داعش لكنها تبقى صعبة وستتحول من معركة على الأرض إلى معركة فوق أسطح المنازل في الأحياء القديمة، ولكن الخطر الأكبر هو تهور داعش وتفجير منازل أول عجلات داخل تلك الأزقة الأمر الذي يؤدي لنتائج كارثية على السكان وحياتهم.
شوارع الأحياء القديمة لمدينة الموصل
متى تصل المعارك داخل أسوار القلعة؟
مع خط سير المعارك الحالي فإن الوصول للأحياء القديمة لمدينة الموصل قد يستغرق وقتًا ليس بالقصير، فهناك مرحلتان يجب إنجازهما من المعركة للوصول لتلك الأحياء، المرحلة الأولى تحرير الأحياء ما قبل امتداد شارع الجسر الرابع وتأمين تلك الأحياء للتمكن من ربط الجسر العائم الذي سيربط طرفي المدينة مما يسمح للقوات العراقية بحرية الحركة بين جانبي نهر دجلة للإمداد وإدامة الزخم ولغرض أيضًا القدرة على نقل الجرحى والمصابين وتأمين نقاط تحشيد.
المرحلة الثانية وتشمل دخول القوات للأسواق الرئيسية والمجمع الحكومي القديم المتمثلة بمنطقة شارع الدواسة الحيوي وشارع النبي شيت وهذا الأمر يتطلب قوات تقاتل وقادرة على تأمين المناطق المحررة دون السماح لعناصر التنظيم بعمليات التفاف، الأمر الذي يجعلنا نرجح ما لا يقل عن 15 يومًا لإكمال القوات العراقية هذه المهمة خاصة أن التنظيم كما ذكرنا يحرق أقوى أوراقه في هذه المناطق وهم عناصر النخبة من الأجانب والانغماسيين.