في ذكرى ثورة كانون ثاني/يناير 2011، وخلال الأيام القليلة السابقة، شهدت مصر تصاعداً ملموساً في أعمال العنف المسلحة، ضد أهداف للقوات المسلحة والأمنية المصرية. بين هذه الهجمات، كان مقتل عدد من جنود وزارة الداخلية، أطلقت النار على كمينهم قرب مدينة بني سويف؛ أسقطت طائرة مروحية في سيناء، وقتل قائدها وأربعة آخرين من الجنود والضباط على متنها؛ فجرت سيارة أمام قيادة أمن القاهرة، أوقعت عدداً من القتلى والجرحى؛ ألقيت عبوات متفجرة على معهد تدريب أمني؛ وهوجمت حافلة في سيناء، تقل عدداً من الجنود. هذه بعض من الحوادث التي أعلن عنها في ثلاثة أو أربعة أيام فقط؛ وبالرغم من أن البيانات الرسمية لم تكن دائماً دقيقة، فليس ثمة شك أن أجواء التوتر والعنف الذي تمارسه قوات الأمن ضد المتظاهرين في المدن والبلدات، والوسائل التي تستخدم في مواجهة الجماعات المسلحة في سيناء، تولد عنفاً مضاداً، لم يعد من الممكن أو من المفيد تجاهله. الملاحظة الأولية الأخرى، أن العنف المسلح يمتد سريعاً إلى الوادي، ولم يعد محدوداً بشبه جزيرة سيناء، وأن الهجمات المسلحة في مدن وبلدات الوادي، بما في ذلك العاصمة القاهرة، تتكرر بصورة مثيرة للقلق.
في مواجهة هذا التصاعد الملموس للصدامات المسلحة، برزت وجهتا نظر مصريتان رئيسيتان:
الأولى: ويمثلها خطاب الدولة الرسمي، الذي يقول بصورة واضحة أنه يتعامل مع هجمة إرهابية على الدولة ومقدراتها، وأن الدولة، كما قال الرئيس المؤقت في 26 كانون ثاني/يناير الجاري، قادرة على دحر الإرهاب وهزيمته، كما نجحت في هزيمة إرهاب التسعينات، وأن الدولة ستأخذ من الإجراءات ما هو ضروري لتحقيق هذا الهدف (في إيحاء لا يخفى لاحتمال الإعلان عن إجراءات استثنائية). إلى جانب ذلك، تعمل أجهزة الدولة والمؤسسات الإعلامية المساندة لنظام 3 يوليو/ تموز على تأسيس ارتباط بين المجموعات التي تقوم بهذه العمليات المسلحة وبين القوى الإسلامية المعارضة للنظام، والإخوان المسلمون منهم على وجه الخصوص. أما على صعيد المعلومات التي توفرها أجهزة الدولة المختصة حول هذه الهجمات، فثمة قدر ملموس من الغموض والتخبط. لا يسمح لوسائل الإعلام، بما في ذلك الموالية، بتغطية العمليات التي تدور في سيناء منذ أكثر من ستة شهور؛ ويعلن عن أسماء مشتبه بهم ومتهمين، يتضح بعد ذلك أن بعضهم معتقل منذ شهور، أو أنه متوفى، أو، كما في حالة اتهام بعض الفلسطينيين الذين استشهدوا أو المعتقلين في السجون الإسرائيلية منذ سنوات. كما أن المعلومات التي توفرها أجهزة الدولة حول بعض هذه العمليات، سرعان ما يتم التراجع عنها، أو تتوفر أدلة قاطعة من مصادر غير رسمية بعدم صحتها. ولعل عملية مقر قيادة أمن القاهرة كانت أبرز الأمثلة على ذلك.
مثل هذا الغموض والتخبط ساعد على بناء وجهة نظر أخرى، تتبناها أغلب قوى المعارضة للنظام، سيما التحالف الوطني لدعم الشرعية، التي تقول ان هذه الهجمات ليست سوى أعمال تخطط لها وتشرف على تنفيذها أجهزة أمن رسمية؛ بل وتقول وجهة النظر هذه ان التنظيم الذي أعلن مسؤوليته عن عدد من العمليات، المعروف بأنصار بيت المقدس، هو تنظيم لا وجود له، وهو في الحقيقة مجرد اختراع أمني مناسب للتغطية على مثل هذه العمليات. الهدف، في عرف وجهة النظر هذه، هو خلق مناخ من الخوف والرعب لدى المصريين، يساعد على تمرير سياسات وإجراءات ما كان يمكن تمريرها في مناخ صحي وآمن، واستخدام مقولة المواجهة مع الإرهاب لصناعة حاجز صلب بين عموم المصريين والقوى المعارضة، واستدعاء دعم الرأي العام العالمي، والقوى الغربية، على وجه الخصوص، التي تعيش منذ سنوات حقبة استثنائية من الحرب على الإرهاب. حوادث العنف المسلح، يقول خطاب المعارضة، هي باختصار مناهضة كلية لخيار المعارضة الاستراتيجي باعتماد وسائل العمل السياسي والشعبي السلمية، وتصب لصالح نظام مأزوم، عاجز عن كسر أو استيعاب الحركة الشعبية المعارضة.
ليس من السهل الجزم بصحة أي من وجهتي النظر هذه. قد تكون الهجمات المسلحة، سيما تلك التي شهدتها مدن وبلدات الوادي، أي خارج نطاق شبه جزيرة سيناء، التي لا يختلف كثيرون على أنها باتت ساحة لنشاط جماعات مسلحة منذ عهد الرئيس مبارك، كلها مخططة من أجهزة أمنية. سؤال من المستفيد يصلح أحياناً بالفعل لتقديم التفسير الصحيح لحوادث العنف والقتل. ولكن الصحيح أيضاً أن هذه العمليات قد تكون جميعاً من فعل أفراد ومجموعات وأهالي اختاروا نهج العمل المسلح، بعد مرور شهور على انغلاق أفق الحل السياسي لأزمة البلاد الطاحنة، والاستهتار البالغ بالحياة، الذي يسم تعامل قوات الأمن والجيش مع الحركة الشعبية المعارضة منذ تموز/يوليو الماضي. عندما يصبح سفك الدماء حدثاً يومياً في أنحاء البلاد، عندما يعتقل الآلاف وتصادر حقوقهم، عندما يغلق الأفق السياسي بحائط صلد، لا يستغرب أن يتسلل شعور باليأس والقنوط والثأر إلى البعض، حتى بالرغم من نداءات السلمية الواسعة والقاطعة، وأن يصبح العنف المسلح المخرج الوحيد الممكن من طغيان اليأس والقنوط والثأر. هذا شعب من تسعين مليوناً، يعيش طوال سبعة شهور صدمة وتأزم سياسيين لم يشهد مثيلاً لهما منذ هزيمة حزيران/يونيو 1967. الاحتمال الثالث، بالطبع، والذي لا يجب استبعاده، أن تكون هذه الهجمات مزيجاً من الاثنين معاً، بعضها مخطط ومدبر من قبل بعض الأجهزة، وبعضها الآخر تقوم بها جماعات لم تعد تؤمن بالمعارضة السلمية.
السؤال الآن يتعلق بالعواقب المترتبة على هذا التصاعد للهجمات المسلحة. والحقيقة أن العواقب قد تكون متشابهة، بغض النظر عن صحة أي من الاحتمالات الثلاثة. في سوريا، مثلاً، اشتعلت الثورة السورية بصورة سلمية كاملة، واستمرت كذلك لأكثر من ستة شهور، ولكن النظام ادعى من البداية أنه يواجه تمرداً سلفياً مسلحاً وأنه في معركة ضد الإرهاب وليس ضد الشعب؛ بل أن ثمة أدلة متضافرة على أن النظام دفع بجهد كبير من أجل تسليح الثورة، على أساس أن التسلح سيفسح له المجال للبطش بحركة الشعب وتلقين السوريين درساً بالغاً. ولكن ما حدث في النهاية أن الأمر أفلت كلية من يد النظام، ومنذ خريف 2011، لم يعد بإمكان النظام لا التحكم بتوجهات التسلح، ولا هزيمة المجموعات المتزايدة والمتسعة التي قررت حمل السلاح، ولا إيقاف توجهات الانشقاق المتصاعدة في صفوف الجيش السوري. بمعنى أنه بغض النظر عن الجهة، أو الجهات، التي تقف خلف هذه الهجمات، وطبيعتها، فإن البلاد قد تنحدر تدريجياً إلى مناخ من فقدان الأمن والصدامات المسلحة وانتشار العنف والعنف والمضاد، في الوقت الذي تعيش وضعاً اقتصادياً ومالياً عاماً أقرب إلى حافة الهاوية منه إلى الاستقرار. بكلمة أخرى، مصر، التي هي أكبر بكثير، وأضخم بكثير، وأعقد بكثير، من سوريا، قد تكون في طريقها إلى كارثة تبلغ أضعاف الكارثة السورية. ما يقوله النظام أنه واثق من هزيمة الإرهاب، بمعنى أنه لن يسمح بانحدار مصر إلى هاوية العنف. ولكن هناك من الأسباب ما يجب أن يثير الشك في هذه الثقة.
عندما تواجه تحدياً ما، تلجأ الدول عادة، كما يلجأ المؤرخ، إلى استدعاء الذاكرة، وإلى قياس الحاضر على الماضي. هذا سلوك طبيعي، ولا يجب أن يثير الدهشة. وربما هذا هو الذي جعل الرئيس المؤقت يشير إلى إرهاب التسعينات، والتأكيد على أن الدولة قادرة اليوم، كما كانت في التسعينات، على هزيمة الإرهاب. المشكلة أن مصر القرن الحادي والعشرين قد تختلف كثيراً عن مصر التسعينات، تماماً كما أن سوريا 2011 لم تكن سوريا الثمانينات.
في مصر التسعينات (كما في سوريا الثمانينات) كان اللجوء إلى العنف المسلح كوسيلة لمعارضة النظام هو قرار جماعة سياسية، تنظيم سياسي، بقيادة وخلايا وهيكل تنظيمي. وحتى لو كان النظام على غير دراية كافية بهذا التنظيم وقياداته، لم تكن أجهزة الدولة المختصة في حاجة إلى وقت طويل لتحوز هذه الدراية.
أكثر من ذلك، لم يكن لعنف التسعينات جذور شعبية، لم يحظ بتعاطف قطاعات ملموسة من الشعب. وبالرغم من أن الجماعة التي حملت السلاح في التسعينات كانت جماعة إسلامية الهوية، إلا أنها لم تتلق دعماً ولا تأييداً في نهجها من القوى الإسلامية الكبرى في البلاد، سيما الإخوان المسلمون، ولا من مجتمع العلماء والدعاة الإسلاميين المصريين. في النهاية، وبالرغم من حدة المواجهة وعنفها، استطاعت الدولة إطاحة قيادة الجماعات المسلحة، قتلاً أو اعتقالاً، وإحداث اضطراب كبير في خطوط اتصالها بالخارج. كما ساعدت عزلة الجماعات الشعبية والإسلامية في إضعافها وهزيمة النهج المسلح، ودفعها من ثم إلى المراجعة، وممارسة نقد ذاتي عميق وشامل لمجمل استراتيجية العمل المسلح التي اتبعتها. في مصر الراهنة، يختلف الوضع إلى حد كبير. ما توحي به مؤشرات الأسابيع والأيام القليلة الماضية، أن العمل المسلح قد ينتشر على نطاق واسع، تماماً كما سوريا في نهاية 2011، تتوفر له حاضنة شعبية، من الصعب الآن تقدير حجمها، وأن ثمة مسوغات من الإحباط والمظلومية قد تؤسس لهذه الحاضنة الشعبية.
في مثل هذه الحالة، سيتسع نطاق المواجهة، ويسهم تصاعد العنف في إضافة مزيد من الحطب إلى النار. ليس من الضروري التوكيد أن نهج العمل المسلح، مهما اتسع نطاقاً، لن يستطيع إطاحة نظام حكم يمسك بمقاليد الدولة. ولكن من الصعب أيضاً أن تستطيع الدولة إيقاع هزيمة سريعة وحاسمة بعنف مسلح ذي طابع شعبي واسع، وليس تنظيمياً. وقد تؤدي صعوبة تحقيق الهدفين إلى حقبة طويلة، مؤلمة، وباهظة التكاليف من العنف وفقدان الأمن.